محاضرات في مادة الأنظمة الدستورية الكبرى الفصل الثالث

محتويات الموضوع
15 الفرع الأول : العراقيل

نقدم لكم أعزائي الطلبة والطلبات محاضرات مميزة لمادة الأنظمة الدستورية

محاضرات في الأنظمة الدستورية لفائدة طلبة الفصل الثالث

النظام البرلماني والنظام الرئاسي
الفرع الأول: النظام البرلماني
يتميز النظام البرلماني بالتعاون بين السلطات. إن كل جهاز يمتلك وظيفته الأساسية لكنه يساهم في تعيين الأجهزة الأخرى وفي ممارسة وظيفتها. إن الأجهزة تتوفر على وسائل ضغط فيما بينها مما يساعد على تحقيق التوازن عند ممارسة سلطاتها.
وإذا كان المعيار الأساسي لتحديد مفهوم النظام البرلماني يتمثل في المسؤولية الجماعية للوزراء أمام البرلمان مقابل إمكانية حل البرلمان من قبل الجهاز التنفيذي، فإن هذا النظام يستلزم توفر العناصر التالية:

  • ثنائية الجهاز التنفيذي؛
  • تقلص سلطة رئيس الدولة؛
  • مسؤولية الحكومة أمام البرلمان؛
  • حق حل البرلمان.

إن هذا النظام الذي عرفته معظم الدول الغربية (بريطانيا، فرنسا، بلجيكا) قد انتقل إلى عدة دول إفريقية وآسيوية في بداية استقلالها (الهند، باكستان، السنغال، …).
وسنعالج هذا النظام من خلال دراسة السلطة التنفيذية (أولا) ثم السلطة التشريعية (ثانيا) ثم العلاقة بينهما (ثالثا).
أولا: السلطة التنفيذية
تقوم السلطة التنفيذية في النظام البرلماني الكلاسيكي على أساس ثنائية الجهاز التنفيذي: رئيس الدولة (أ) ثم رئيس الحكومة (ب).
أ‌  – رئيس الدولة
يتسع النظام البرلماني لجميع أشكال الحكم سواء كان النظام ملكية أو جمهورية أو إدارة جماعية. ورغم اختلاف طرق تعيينه فإن رئيس الدولة غير مسؤول سياسيا.
ففي النظام الملكي يتولى الملك الحكم بالوراثة وليس للبرلمان أي دور في تعيينه. أما في النظام الجمهوري فإن رئيس الدولة ينتخب عادة من طرف البرلمان، سواء كان يتكون من مجلس واحد أو كان مكونا من مجلسين . وقد تتبع بعض الدول مسطرة خاصة تجعل انتخاب الرئيس من اختصاص هيأة تتكون من بعض نواب المجلس وممثلي قادة القبائل.
وبغض النظر عن طريقة الانتخاب فإن ذلك لا يضعف من مركز رئيس الدولة لأنه غير خاضع للهيأة التي انتخبته إذ يعد غير مسؤول من الناحية السياسية ولا يمكن عزله إلا عند الخيانة العظمى أو خرق الدستور، وبمسطرة طويلة ومعقدة. وإذا كان رئيس الدولة في الأنظمة الجمهورية مسؤول مع ذلك عن الجنح والجنايات التي يقترفها، فإن رئيس الدولة في الأنظمة الملكية معفى من كل مسؤولية سياسية كانت أو جنائية.
 ب‌  –    الحكومة
تعتبر الحكومة وخاصة رئيسها، الرأس الآخر للجهاز التنفيذي. وينبغي أن تتمتع الحكومة كهيأة وزارية بثقة البرلمان، ولذلك لا بد من موافقته على تعيين رئيس الدولة للوزير الأول ثم اختيار الوزراء من بين النواب. إن رئيس الدولة يعين الوزير الأول فقط وهذا الأخير هو الذي يختار الوزراء أعضاء الحكومة ويعرضهم على رئيس الدولة. وتختلف الإجراءات المعتمدة من نظام إلى آخر، فقد يتعلق الأمر بقبول ضمني من قِبل البرلمان لأعضاء الحكومة (1) أو قد تتبع إجراءات أمام البرلمان لتنصيب الحكومة(2).

  1. القبول الضمني: تستمد الحكومة وجودها في بعض الدول من تعيين رئيس الدولة وليس من تصويت البرلمان. إن الأمر يتعلق بقبول ضمني من طرف البرلمان، غير أن كل تصويت بالرفض من قبله يؤدي إلى استقالة الحكومة. وفي هذه الحالة يتمتع رئيس الدولة بسلطة واسعة في تعيين الوزراء، كحالة المغرب إلى غاية 1992 حيث كان للملك حق تعيين الوزراء وإقالتهم دون أن يحتاج ذلك إلى تصويت البرلمان أو إلى موافقة الوزير الأول.

وفي الأنظمة البرلمانية ذات الجهاز التنفيذي المزدوج لابد للوزير الأول من الحصول على ثقة البرلمان وثقة رئيس الدولة في نفس الوقت. أما في الأنظمة ذات الرأس الواحد فإن البرلمان لا يتدخل إلا شكليا في تعيين الحكومة لأن قرار رئيس الدولة وحده كاف لتشكيلها.
ويلعب النظام الحزبي دورا مهما في تحديد مجال حرية رئيس الدولة في اختيار الوزير الأول. فهذه الحرية تتوسع في حالة التعددية الحزبية، كما أنها تتقلص إذا كانت تكريسا لواقع انتخابي. 

  1. التنصيب: إن النظام البرلماني في بعض الدساتير يضمن تفوق البرلمان بسلطة الموافقة بالتصويت على أعضاء الحكومة من طرف رئيس الدولة. وهذا يؤدي إلى سقوط الحكومة في حالة رفض البرلمان للتعيين الصادر عن رئيس الدولة. وهو ما يطبق في المغرب انطلاقا من دستور 1992.

إن الحكومة في هذا النظام تستمد وجودها من تنصيبها من قبل البرلمان.
وتُسنَد إلى الحكومة إدارة السياسة الحكومية التي لا تدخل في نطاق مهام رئيس الدولة (لأنه غير مسؤول سياسيا أمام البرلمان)، لأنها هي التي تتحمل مسؤولية تطبيق هذه السياسة.
ثانيا: السلطة التشريعية
يمارس البرلمان السلطة التشريعية. وهو يتكون من غرفة واحدة أو غرفتين حسب ظروف كل مجموعة من البلدان:

  • فبعض الدول تعرف وجود غرفة ثانية كنتيجة لتركيبها الفيدرالي، إذ تمثل الغرفة الأولى المواطنين وتمثل الغرفة الثانية الولايات الأعضاء في الاتحاد،
  • كما أن هناك دول أخرى تهدف من تأسيس غرفة ثانية توجيه النظام عن طريق الحد من سلطة المجلس المنتخب بخلق غرفة ثانية غير منتخَبة.
  • أما بعض الدول الأخرى، فتعتمد غرفة ثانية لضمان تمثيل نخبة معينة مكونة من الأعيان أو ممثلي الغرف المهنية أو المجالس المحلية. فالأردن يعرف مجلس النواب إلى جانب مجلس الأعيان أو ممثلي الغرف المهنية أو المجالس المحلية.
  • وتذهب دساتير دول أخرى في اتجاه تأسيس غرفة ثانية تتكون من أعضاء منتخبين وأعضاء معينين بنسب متفاوتة،
  • وتكتفي الدول البسيطة باعتماد برلمان من غرفة واحدة. 

إن الاختيار بين برلمان مكون من غرفة واحدة أو غرفتين يقوم على أساس وأهداف متعددة، أهمها أن الغرفة الثانية تضمن تحقيق التوازن مع الغرفة المنتخَبَة بالاقتراع العام المباشر من أجل دعم الاستقرار الحكومي. وتتشبث دول أخرى بنظام الغرفة الواحدة رغم أن بعض المنظرين يعتبرون أن الازدواجية على مستوى السلطة التنفيذية يجب أن تقابلها ازدواجية على مستوى السلطة التشريعية لتفادي احتمال دكتاتورية برلمان قوي على حساب حكومة ضعيفة.
وقد عرف المغرب تطورا في هذا المجال إذ عرف في البداية برلمانا مكونا من مجلسين (1962)، ثم إدماجهما في مجلس واحد (1970،1972،1992)، وأخيرا تمت العودة إلى نظام المجلسين (1996).
أما من حيث الاختصاصات فإن المهمة الأساسية للبرلمان تتمثل في التصويت على القوانين وخاصة القانون المالي. إلا أن الملاحظ هو أن دور البرلمان أخذ يتقلص إلى مجال محدد (بناء على تأثير الدستور الفرنسي لسنة 1958).
وقد تعمد بعض الدول إلى منح الغرفتين اختصاصات متساوية، أو قد تعطي لإحداهما اختصاصات أقوى من الأخرى.
ثالثا: العلاقة بين السلطات
تقوم العلاقة بين السلطات في النظام البرلماني على أساس التعاون (أ) والتوازن (ب).
أ‌.   التعاون
رغم أن الجهاز التنفيذي والجهاز التشريعي يمارسان مهامهما الرئيسية، فإن كلا منهما يساهم في بعض وظائف الجهاز الآخر.

  • فالسلطة التنفيذية تساهم في وضع القوانين، وفي بعض الأنظمة تعطى الأسبقية لمشاريعها، ولرئيس الدولة حق طلب قراءة جديدة، كما أنه يمارس سلطة إصدار الأمر بتنفيذ القانون…
  • أما السلطة التشريعية فتساهم في أعمال السلطة التنفيذية عن طريق إقرار القانون المالي والتشريعات اللازمة، والمصادقة على المعاهدات، إضافة إلى مراقبة العمل الحكومي بوسائل مختلفة كالأسئلة الكتابية، والشفوية، والاستجوابات، والتحقيقات…

ب‌.  التوازن
يتحقق التوازن في النظام البرلماني من وسائل الضغط المتبادلة: المسؤولية السياسية (1) وحق الحل (2).

  1. المسؤولية السياسية

يقصد بهذا المبدأ بصفة عامة أن الحكومة لا يمكن أن تمارس السلطة إلا بعد الحصول على ثقة البرلمان. إن ممارسة الحكم رهينة باكتساب ثقة الأغلبية البرلمانية، وكل سحب لهذه الثقة يترتب عنه سقوط الحكومة. ولذلك لم يعد من الضروري أن يتمتع الوزراء بثقة رئيس الدولة والبرلمان في آن واحد إلا بالنسبة لعدد قليل من الدول.
وتعتبر المسؤولية السياسية الوسيلة الأساسية لممارسة البرلمان مراقبة حقيقية للعمل الحكومي. وهي تتعلق كما رأينا سابقا بعمل الوزراء لا بعمل رئيس الدولة. ويمكن أن تكون إما فردية أو جماعية، ولو أنه عادة ما يطبع هذه المسؤولية طابع التضامن الوزاري.
وتمارَس المسؤولية السياسية بمسطرتين مختلفتين حسب الطرف الذي يتخذ المبادرة:

  • طرح مسألة الثقة إذا تم ذلك بمبادرة حكومية.
  • ملتمس الرقابة إذا تم ذلك بمبادرة برلمانية

ونظرا لما يمكن أن تشكله هذه الإجراءات من خطر على الاستقرار الحكومي، فإن النظام البرلماني يفترض وجود أغلبية متماسكة، إلا أنها قد لا تكون متوفرة في حالة التعددية الحزبية. وقد عملت الدساتير على تنظيم هذه الإجراءات ببعض الصرامة.
فالحكومة ليست ملزمة بتقديم استقالتها إلا بعد طرح مسألة الثقة أو بعد تصويت إيجابي على ملتمس الرقابة تفاديا لإثارة المسؤولية الوزارية بشكل مفاجئ، كما أن الدساتير تنص على ضرورة احترام أجل معين بين طرح الملتمس والتصويت عليه؛ وعادة لا يقبل ملتمس رقابة ثاني إلا بعد مدة معينة، إضافة إلى ضرورة التصويت بنسبة هامة من أعضاء المجلس: الأغلبية المطلقة من الأعضاء أو ثلثي الأعضاء.

  1. حل البرلمان

يقصد بهذا الإجراء العمل على عرض الخلافات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية على الناخبين. ويعرف الحل بأنه قرار رئيس الدولة بوضع حد لممارسة البرلمان لمهامه قبل انقضاء المدة العادية لولايته التشريعية.
وتعتبر هذه الممارسة تحريفا للنظام البرلماني المطبق في بريطانيا مهد هذا النظام، حيث أن هذا الحق يملكه الوزير الأول.
إن الدساتير تخول هذا الحق لرئيس الدولة (رئيسا أو ملكا) ليمارسه بمقتضى سلطته التقديرية، أو وفق شروط دقيقة للحد من فعاليته: كحالة حصر استعمال هذا الحق بعد وقوع أزمات وزارية متعددة، أو قد يمنع من استعمال هذا الحق خلال أجل محدد.
أما بالنسبة للدول التي تبنت ثنائية المجلس، فإن الحل قد يشمل مجلسي البرلمان، أو قد يقتصر على المجلس الممثل للسكان لوحده.
الفرع الثاني: النظام الرئاسي
يتميز النظام الرئاسي في شكله الأصلي كما تم تطبيقه في الولايات المتحدة الأمريكية بالفصل الكامل بين السلطات مع قيام توازن بينهما.
أولا: السلطة التنفيذية
يمارس رئيس الدولة السلطة التنفيذية بأكملها بما في ذلك السلطة التنظيمية. فهو الذي يسير السياسة الخارجية، وهو القائد الأعلى للقوات العسكرية، كما يوجه العمومية ويعين كبار الموظفين. وإذا كان مجلس الشيوخ الأمريكي يتدخل في مسطرة التعيين فإن ذلك لا يطبق في دول أخرى خاصة من العالم الثالث.
كما أن الرئيس يتدخل في المجال التشريعي إما عن طريق الخطابات التي يوجهها للبرلمان، وإما عن طريق تقديم مشاريع قوانين بواسطة أعضاء حزبه.
ويلاحظ أن سلطة الرئيس تتسع في المجال التشريعي بواسطة حف الاعتراض على النصوص الصادرة عن البرلمان، وذلك قبل إصدارها، بشكل لا يُمَكن من إعادة إصدار نفس النص إلا بموافقة أغلبية الثلثين. وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعتمد نظام الاعتراض الشامل على النص كله قبولا أو رفضا، فإن دساتير أمريكا الجنوبية مثلا تعتمد صيغة الاعتراض الجزئي، أي أن رئيس الدولة يمكن أن يعترض على بعض الفصول من النص دون فصول أخرى.
أما في حالة الاستثناء، فإن سلطات الرئيس تتعزز، رغم أن مسطرة إعلانها تختلف من دولة إلى أخرى.
ثانيا: السلطة التشريعية
لقد تبنت معظم الدول ازدواجية التمثيل. ويعود ذلك أساسا إلى الطبيعة الفدرالية، أو إلى الرغبة في تمثيل المجالس المحلية والهيئات المهنية. وقد أحدثت بعض الدساتير لجنة دائمة منبثقة عن البرلمان مهمتها النيابة في الفترة الفاصلة بين الدورات.
أما من حيث الاختصاصات، فإن البرلمان إضافة إلى سلطته في مجال الميزانية، يمارس السلطة التشريعية بأكملها، لكن مع إمكانية تفويض تلك السلطة لفائدة سلطة أخرى.
ثالثا: العلاقة بين السلطات
يملك البرلمان بعض الوسائل لمراقبة العمل السياسي لرئيس الدولة الذي يمكن أن تُطَبَّق عليه مسطرة الاتهام التي تؤدي إلى إقالته. وخارج ذلك فإن الرئيس غير مسؤول سياسيا، وفي مقابل ذلك فإنه لا يمتلك حق حل البرلمان.

النظام البرلماني في بريطانيا

تعتبر بريطانيا مهد الديمقراطية البرلمانية في العالم. ففيها نشأت و توطدت الركائز الأساسية لهده الديمقراطية ومنها انتشرت إلى مختلف الدول التي تبنتها فيما بعد.
والميزة الرئيسية التي يتصف بها النظام البرلماني في بريطانيا تكمن في انه يقوم بالأساس على مجموعة من القواعد القانونية الدستورية العرفية. ودلك بالإضافة إلى بعض القوانين العادية ذات الطابع الدستوري التي أقرتها البرلمانات في فترات متباعدة.
ولقد مر النظام السياسي في بريطانيا، عبر تاريخه الطويل بمراحل مختلفة إلى أن استقر على الوضع الذي هو عليه الآن.
الفقرة الأولى: التطور التاريخي للنظام البرلماني البريطاني
تعود الأصول التاريخية للنظام البرلماني القائم حاليا في بريطانيا إلى بدايات القرون الوسطى. فمنذ ذلك الحين عرف هذا النظام تطورات هامة بفعل التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت في جسم المجتمع البريطاني.
ويمكن تلخيص هذا التطور التاريخي بثلاث مراحل رئيسية استمرت الأولى من القرن الثاني عشر إلى القرن السابع عشر، وتميزت بالصراع بين الأرستقراطية والملك من أجل توطيد الحريات العامة والحد من السلطة الملكية المطلقة. ودامت الثانية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وتم فيها توطيد سلطة البرلمان وإقامة الأسس التقليدية للنظام البرلماني. وأما المرحلة الثالثة التي بدأت خلال النصف الأول من القرن الماضي فقد كانت مرحلة النضال في سبيل إرساء قواعد النظام الديمقراطي.
أولا: الصراع من أجل الحريات العامة، والحد من السلطة الملكية المطلقة
تميز تاريخ بريطانيا منذ استيلاء النورمانديين عليها في عام 1066 بصراع مرير على السلطة بين الملوك الذين كانوا يطمحون لحكم مطلق و بين طبقة النبلاء الأرستقراطيين،ملاكي الأراضي، الذين كانوا يحرصون على صيانة امتيازاتهم ويطمعون بالحد من سلطات الملك المطلقة لمصلحتهم.
و خلال هدا الصراع الطويل الذي استمر حتى النصف الثاني من القرن السابع عشر اضطر الملوك أمام ضغط النبلاء و تمردهم للتخلي عن جزء من سلطاتهم وللاعتراف للنبلاء ببعض الحقوق والحريات. إلا أن تراجع الملوك في هدا الصدد لم يخل من عدة محاولات ناجحة لإعادة بسط الحكم المطلق الذي لم يتم وضع حد نهائي له ألا بعد ثورة 1688.
ولقد تجلت انتصارات النبلاء خلال هدا الصراع بعدد من الشرع التي أعلنها الملوك أو اضطروا للقبول بها و التي كان من أهمها الماكناكارتا، وعريضة الحقوق، وقانون الهابياس كوربوس (أو قانون سلامة الجسد)، ولائحة الحقوق.
1- الماكنكارتا ( Magna – Carta) أو الشرعة الكبرى وأصدرها عام 1215 الملك جون، المعروف باسم جون بلا أرض (Jean sans terre) على أثر الثورة التي أعلنها الأرستقراطيون ورجال الدين بعد أن أخذ حكم الطاغي يهدد مصالحهم. فما كان منهم إلا أن تمردوا على سلطته ونشروا لائحة ضمنوها مطالبهم، ولم يعودا للطاعة إلا بعد أن رضخ الملك ووافق على الاعتراف لهم بالحقوق الواردة في لائحتهم.
ولقد تضمنت الشرعة عددا من المواد المتعلقة بحقوق النبلاء الإقطاعيين وخاصة لجهة صيانة ممتلكاتهم من تعديات الملك وتأمين حرية الكنيسة في اختيار رؤسائها والتزام النزاهة والعدالة في الإدارة والقضاء وضمان الحرية الشخصية لأفراد الطبقة الأرستقراطية.
كما نصت الشرعة على اعتراف الملك بحق البرلمان في الموافقة على فرض الضرائب، وفي تقديم العرائض والاقتراحات له. واشترطت الشرعة تشكيل لجنة من 25 عضوا من الطبقة الأرستقراطية مهمتها مراقبة تنفيذ أحكامها، وذلك تحت طائلة استئناف التمرد في حال مخالفة الملك لها أو نقضه لأحكامها.
إلا أن الملك جون تنكر في العام التالي لهذه الشرعة وتمكن من تجاهل ما جاء فيها من بنود. وهكذا عاد الحكم المطلق للظهور، وظل قائما حتى مطلع القرن السابع عشر. وطوال تلك المدة كانت الماكناكارتا تمثل رمزا للصراع في سبيل الحرية، ومن هنا استمدت قيمتها كأهم وثيقة دستورية في تاريخ بريطانيا السياسي، باعتبارها المصدر الأول  وحجر الزاوية للحريات الإنجليزية الحديثة.
ومع ارتقاء الملك جاك الأول، أول ملوك أسرة  الستيوارت، عرش بريطانيا في عام 1603، واستئنافه للحروب التاريخية ضد ملوك فرنسا، سنحت الفرصة ثانية للنبلاء للمطالبة بحقوقهم. واتخذت هذه المطالبة شكل صراع بين الملوك والبرلمان الذي يمثله حول حق هذا الأخير في الموافقة على فرض الضرائب. لما كان الملك الجديد مضطرا للحصول على الأموال اللازمة لتغطية نفقات الحرب اضطر لتنازل أمام البرلمان ووافق على منحه حق التصويت علة فرض الضرائب.
2- عريضة الحقوق (Pétition of right) وزهي الوثيقة التي أصدرها الملك شارل الأول في عام 1628 بعد تجدد الخلاف الذي نشب بينه وبين البرلمان الذي اعترض على محاولة الملك فرض ضرائب جديدة على النبلاء دون موافقته. وقد أكدت العريضة، مرة أخرى، على حقوق البرلمان ولاسيما في مجال مناقشة المسائل الضريبية وإقرارها، كما تضمنت تأكيد على مبدأ الحرية الشخصية وتحريم توقيف الكيفي للمواطنين.
ورغم إعلان الملك لهذه العريضة فقد تفاقم الصراع بينه وبين البرلمان إلى أن انتهى بقيام ثورة 1642 التي قادها أوليفر كروموبل (O. Cromwell) وحظيت بتأييد البرلمان، ولاسيما مجلس العموم، والتي قامت بإعلان الجمهورية في عام 1649، وبإصدار أول دستور خطي حديث في  بريطانيا والعالم. لكن الجمهورية الجديدة لم تصمد إلا أشهرا قليلة بعد وفاة زعيمها في عام 1658، حيث عاد النظام الملكي مجددا إلى البلاد باعتلاء الملك شارل الثاني العرش في عام 1660 بعد أن تعهد للبرلمان باحترام سلطاته وحقوقه، واعترف للمواطنين بالحرية الدينية.
3- قانون الهابياس كوربوس ( Habeas Corpus Act) (أو قانون سلامة الجسد) وهو قانون أصدره البرلمان البريطاني في عام 1679. واضطر الملك شارل الثاني للموافقة عليه. والغاية منه ضمان الحرية الشخصية للمواطنين و حمايتها من تعسف السلطة. و يتضمن القانون القواعد الأساسية المتعلقة بحماية المواطن من الاعتقال، وبالإجراءات القانونية اللازمة للآعتقاله و لتقديمه للمحاكمة أمام القضاء بعد ذلك. ويعتبر هذا القانون الهام المحور الأساسي للحريات الشخصية التي ما يزال يعتد بها في بريطانيا.
4- لائحة الحقوق (Bill of rights) وهي إعلان دستوري وضعه البرلمان  ووافق عليه الملك ويليم الثالث، في عام 1689، بعد اعتلائه العرش بدعوة من البرلمان على إثر الثورة التي نشبت في العام السابق ضد الملك جيمس الثاني، آخر ملوك آل ستيوارت، الذي حاول العودة بالبلاد، مرة أخرى، إلى عهود الحكم المطلق. وقد وضعت هذه الثورة واللائحة التي نجمت عنها حدا نهائيا للحكم الملكي المطلق في بريطانيا وفتحت المجال لعهد جديد هو عهد الملكية البرلمانية. فقد تخلى الملك بموجب هذه اللائحة عن حقه السابق في التشريع، وفي تعليق مفعول القوانين. كما أكدت اللائحة حرمان الملك من فرض أية ضرائب جديدة بدون موافقة البرلمان، وأقرت حق هذا الأخير في مراقبة نفقات الدولة وتحديدها سنويا، وحظرت على إنشاء المحاكم بدون موافقة البرلمان، كما منعته من القيام بأي تجنيد منظم للقوات في وقت السلم، وأقرت اللائحة، أخيرا، عددا من الحريات الشخصية واعترفت للمواطنين بحق تقديم العرائض.
ثانيا: قيام النظام البرلماني
أخذت ملامح النظام البرلماني في بريطانيا تبرز منذ أواخر القرن السابع عشر وخاصة بعد ثورة 1688. ثم ما لبثت أسس هذا النظام وقواعده التقليدية أن اتضحت وترسخت خلال القرنين التاليين. فالصراع الذي دار بين الملك والبرلمان، الممثل للأرستقراطية، خلال القرون الخمسة السابقة أدى تدريجيا إلى ضعف وزن الملك وتأثيره في الحياة السياسية في حين انتقلت مهام ممارسة الحكم إلى حكومة متضامنة منبثقة عن البرلمان وتعمل تحت مراقبته. وهكذا أصبح البرلمان، الممثل للإرادة “الشعبية” المصدر الأساسي للسلطة بينما تحولت الملكية إلى مؤسسة رمزية تتولى ولا تحكم.
ولقد لعبت بعض الظروف التاريخية الطارئة دورا مساعدا وهاما في قيام النظام البرلماني وتوطيد أسسه.
ومن أهم هذه الظروف أن الملك ويليم الثالث اضطر للتخلي عن جزء هام من مقاليد الحكم ومهامه إلى وزرائه، وذلك نتيجة انهماكه بأمور الحرب مع الملك لويس الرابع عشر، ملك فرنسا، في بداية القرن الثامن عشر. ونظرا لما كانت تتطلبه هذه الحرب من نفقات باهضة لابد من تغطيها بواسطة الضرائب الجديدة التي لا سبيل لفردها إلا عن طريق البرلمان، فقد اضطر الملك لاختيار وزرائه من بين أعضاء البرلمان، وخاصة من الأعضاء المنتمين لحزب الأغلبية فيه وذلك رغبة في كسب تأييده ودفعه للموافقة على الاعتمادات التي تتطلبها الحرب. وهكذا نشأ واستقر العرف البرلماني المتمثل بأن يترك الملك شؤون الحكم الفعلية لوزارة منبثقة عن البرلمان وتعمل تحت إشرافه ومراقبته. وبعد وفاة الملك ويليم الثالث، وخليفته الملكة أنا، تولى العرش للملك جورج الأول، (1714)، وكان هذا الملك الألماني الأصل يجهل اللغة الإنجليزية تماما لذا كان لا يستطيع المشاركة في مناقشات مجلس الوزراء. وأدى هذا الأمر لنشوء واستقرار قاعدة عرفية جديدة في النظام البرلماني البريطاني وهي أن يجتمع الوزراء فيما بينهم فيتداولوا ويقررا ما يشاءون في أمور الدولة بغياب الملك، وبدون أخذ رأيه فيها.
وأدة قيام الوزراء بممارسة مهام الحكم الفعلي بعيدا عن تأثير وتدخل الملك الذي كان مضطرا لاختيارهم من بين أعضاء البرلمان، لظهور القاعدة البرلمانية الجوهرية المتمثلة بمسؤولية الحكومة سياسيا أمام البرلمان، وكان وزراء الملك في السابق،  المختارين من قبله بحرية ليعاونوه في شؤون الحكم، مسؤولين مباشرة أمامه فقط. وهكذا أضيفت إلى مسؤولية الوزراء السابقة أمام الملك، مسؤولية جديدة أمام البرلمان. وقد استمرت قاعدة المسؤولية السياسية المزدوجة هذه طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكانت خلال ذلك تتحول شيئا فشيئا ومع ازدياد سلطة البرلمان ونفوذه لتصبح مسؤولية وحيدة اتجاه البرلمان فقط.
ولم يكن الوزراء في البدء مسؤولين أمام البرلمان إلا انفراديا، كما كان حالهم أمام الملك. وقد بدأت هذه المسؤولية بالظهور في الميدان الجنائي حيث كان باستطاعة مجلس العموم أن يوجه للوزراء الاتهام في حال ارتكابهم لجرم ما، ويؤدي هذا الاتهام لتقديمهم للمحاكمة أمام مجلس اللوردات، وشيئا فشيئا أخذ البرلمان يعتبر ارتكاب الوزراء لأخطاء سياسية فادحة بمثابة جرم يمكن أن يؤدي إلى توجيه اتهام يكون من نتيجته على الأقل إجبار وزير على استقالته.
لما كان الوزراء قد اعتادوا أن يجتمعوا فيما بينهم ويتداولوا ويقرروا ما يشاءون من أمور متعلقة بقضايا الحكم، فقد ظهر لديهم شعور من التكافل والتضامن ما لبث أن تطور تدريجيا ليأخذ شكل المسؤولية التضامنية أمام البرلمان باعتبارهم يشكلون هيئة جماعية واحدة.
ومقابل تخليه لوزرائه عن مهام الحكم الفعلي، احتفظ الملك لنفسه بحق اعتباره غير مسؤول عن أعماله اتجاه أي سلطة أخرى. وإذا كانت حرمة الملك وقدسية شخصه قاعدة مؤكدة منذ القدم ومستندة للاعتقاد القائل بأن الملك لا يمكن أن يخطأ فإن هذه القاعدة أصبحت مقبولة بصورة أفضل بعد ابتعاد الملك فعليا عن ممارسة مسؤوليات الحكم.
وهكذا استقرت من خلال الظروف والممارسات العرفية مجموعة القواعد الأساسية التي اتصف ويتصف بها النظام البرلماني.
ثالثا: إرساء أسس الديمقراطية
كانت الديمقراطية بمعناها الواسع، الذي يفترض مشاركة جميع المواطنين، على قدم المساواة، في تقرير شؤون الحكم وتسيير القضايا العامة، غير معروفة في المجتمع البريطاني حتى بداية القرن الحالي. فالنظام البرلماني الذي أمكن تحقيق خلال المرحلة السابقة من خلال الصراع بين الأرستقراطية والملك. كان نظاما غير ديمقراطي لأنه كان يحصر قضية المشاركة في الحياة السياسية بفئة قليلة من أفراد الشعب تضم بشكل رئيسي أبناء الطبقتين الأرستقراطية والبرجوازية الكبيرة، في حين أن الأغلبية الساحقة من أفراد الشعب كانت مستبعدة عن الحياة العامة ومحرومة من أبسط الحقوق السياسية.
ولقد تصدت الطبقة البرجوازية منذ بداية القرن التاسع عشر لقيادة الحركة الديمقراطية وذلك خدمة لمصالحها السياسية وتلبية لمطالب جماهير سكان المدن الكبرى التي كانت ترى أن من غير الطبيعي استمرار إبعادها عن الحياة السياسية بعد أن ازداد وزنها وتأثيرها في حياة البلاد الاقتصادية والاجتماعية.
وقد استهدف نضال الحركة الديمقراطية تحقيق أمرين رئيسيين القضاء على نظام الانتخاب القديم وإقرار مبدأ الانتخاب العام و الشامل، وإعطاء الأولوية في الحياة السياسية لمجلس العموم باعتباره المجلس المنتخب من الشعب والمعبر بالتالي عن إرادته.
1- نظام الانتخاب: كانت المؤسسات السياسية التمثيلية التي قامت في بريطانيا منذ عدة قرون، لا تعبر إلا عن إرادة جزء يسير من الشعب البريطاني. أما الأغلبية الساحقة من هذا الشعب فلم يكن لها أي دور في الحياة السياسية. فنظام الانتخاب الذي كان معتمدا لاختيار أعضاء مجلس العموم كان نظاما مقيدا يحصر حق الانتخاب بفئة قليلة من المواطنين، الذكور والأغنياء الذين يؤدون للدولة مقدارا مرتفعا من الضرائب. أما القسم الأكبر الباقي من المواطنين فكان محروما من جميع الحقوق السياسية ولاسيما حق الانتخاب والتوظيف وذلك بسبب الوضع الاجتماعي (البرجوازية الصغيرة والعمال) أو المذهب الديني (الكتوليك واليهود والبروتستانت المنشقين عن الكنيسة الإنجليكانية) أو ضعف الولاء للتاج (الإرلنديين) كما كان نظام الانتخاب نظاما غير متكافئ لا تتمثل بموجبه مختلف المدن والمقاطعات بنسبة عدد سكانها. فقد كانت المقاعد المخصصة للمدن والمقاطعات في مجلس العموم محددة بإرادة ملكية منذ زمن بعيد. ولم يطرأ عليها تعديل يذكر رغم التغيير الجذري الذي حدث في المجتمع البريطاني، خلال القرنين الماضيين، نتيجة الثورة الصناعية، و الذي أدى إلى تضخم عدد سكان المدن بشكل كبير بالنسبة لعدد سكان المقاطعات الريفية، و إلى ظهور مدن صناعية جديدة وهامة لم يكن لها أي ممثل في المجلس.
ولقد بدأت الحركة الديمقراطية بتحقيق أولى انتصاراتها في هذا المجال في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ففي 1828 تمكنت من دفع البرلمان لإصدار قانون يتضمن الإقرار بالحقوق السياسية للبروتستانت المنشقين عن الكنيسة الإنجليكانية، وفي العام التالي دفعت البرلمان أيضا لإصدار قانون مماثل يقر بهذه الحقوق للأقلية الكاثوليكية.
وفي عام 1832 وبعد فترة من النضال والاضطرابات الثورية العنيفة.حققت الحركة الديمقراطية انتصارا هاما تمثل بصدور “قانون الإصلاح” الذي زاد عدد مقاعد مجلس العموم ووزعها على المدن والمقاطعات التي كانت محرومة منها،  كما وسع حق الانتخاب ليشمل فئات جديدة من المواطنين وذلك بتخفيض المقدار المطلوب من الضرائب السنوية التي يجب على المواطن دفعها لخزينة الدولة من أجل التمتع بحق الانتخاب.
إلا أن هذا الانتصار، على أهميته، لم يؤد إلى دائرة توسيع نطاق الجسم الانتخابي، إلا بحدود ضيقة استفادت منه بالدرجة الأولى الطبقة البرجوازية الكبيرة التي زادت عدد ممثليها في مجلس العموم،  ولهذا استمر نضال الحركة الحيمقراطية الشعبية من اجل التوسيع التدريجي لحق الانتخاب،  وظهرت في عام 1838، الحركة الشارتية (اللائحية) التي أعلنت أن هدف نضالها النهائي يتمثل بتحقيق مبدأ الانتخاب العام والشامل والسري. ولقد أثمرت جهود هذه الحركة شيئا فشيئا ففي عام 1876 صدر قانون يقضي بتخفيض مقدار الرسم الانتخابي، وفي عام 1884 صدر قانون آخر ألغيت بموجبه فروقات تمثيلية بين المدن والأرياف، وفي 1918 توجهت الحركة الديمقراطية الشعبية انتصاراتها بإقرار حق الانتخاب العام والشامل للرجال والنساء مع تميز واحد يكمن في أن الرجال يبلغون سن الرشد الانتخابي في الواحدة والعشرين، في حين أن النساء لا يبلغونه إلا في الثلاثين وقد ألغي هذا التمييز بموجب قانون صدر في عام 1928. وفي عام 1970 صدر قانون جديد قضى بتخفيض السن الانتخابي للرجال والنساء إلى 18 سنة.
2- ازدياد وزن مجلس العموم: إن توسيع حق الانتخاب ليشمل كافة القطاعات الشعبية كان بحاجة لكي يأخذ كل معانيه السياسية أن يقترن بتغيير وزن المجلس الممثل للإدارة الشعبية داخل البرلمان.
فحتى عام 1909 كان مجلس اللوردات متمتعا بسلطات تشريعية ومالية وقضائية تميزه عن مجلس العموم وتعطيه مركز الأولوية داخل البرلمان. وكان لابد للحركة الديمقراطية أن تتعرض بالنقد لهذه المؤسسة الأرستقراطية وذلك من أجل إضعافها لصالح مجلس العموم لقد سنحت الفرصة للحركة الديمقراطية لتحقيق هذا الهدف على إثر الخلاف الذي نشب في عام 1909، بين حكومة الأحرار ومجلس اللوردات حول إقرار مشروع قانون الموازنة العامة الذي كان يتضمن بعض التدابير الإصلاحية ومن بينها فرض ضريبة على الدخل. وقد اعتبر المجلس أن من شأن هذه التدابير إحداث تغيير جدري للمجتمع يهدد مصالح أرستقراطية، ولذلك قام برفض الموافقة على المشروع، وإزاء هذا الموقف، قررت الحكومة الاستمرار في المواجهة وإدخال الشعب في القضية، فطلبت إلى الملك حل مجلس العموم وإجراء انتخابات جديدة يمكن من خلالها معرفة ما إذا كانت الأغلبية الشعبية تساند الحكومة في موقفها أم تعارضها وتؤيد مجلس اللوردات. وعندما أسفرت الانتخابات عن فوز الأكثرية الجديدة من حزب الأحرار تأكدت الحكومة من تأييد الشعب لها فزادت من ضغطها على مجلس اللوردات الذي لم يجد أمامه إلا الإذعان بالإرادة الشعبية فرضخ للحكومة المجسدة لها، واضطر في عام 1911 للتصويت بالموافقة على مشروع قانون هام عرف فيما بعد “بالقانون البرلماني” الذي نص على حصر جميع الصلاحيات المالية بمجلس العموم فقط، وعلى قصر صلاحيات مجلس اللوردات، في المجال التشريعي العادي، على تصويته بالفيتو على مشاريع القوانين التي يقرها مجلس العموم. وكان من شأن هذا التصويت تأجيل تنفيذ القانون لمدة عامين، وفي عام 1949 أقر البرلمان البريطاني قانونا جديدا خفض بموجبه هذه المدة وجعلها تقتصر على عامل واحد فقط.
وهكذا أصبح مجلس العموم المنتخب من الشعب هو المجلس الأهم في البرلمان البريطاني، في حين تراجع مجلس اللوردات ليكتفي بدور رمزي وهامشي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
الفقرة الثانية: المؤسسات السياسية في النظام البرلماني البريطاني
يقوم النظام البرلماني في بريطانيا على أساس تفاعل تام بين عدة مؤسسات سياسية من بينها المؤسسة الانتخابية والحزبية والبرلمان، والحكومة، الملك.
أولا: المؤسسة الانتخابية
1- أهميتها: تلعب المؤسسة الانتخابية دورا هاما في الحياة السياسية البريطانية رغم أنها قد تبدو ذات أهمية ثانوية إذ نظرنا للموضوع نظرة غير عميقة. فوجود مؤسسة ملكية القائمة عبر مبدأ الوراثة وكذلك مجلس اللوردات المكون من أعضاء يعينون لمدى الحياة أو يتولون مناصبهم بالوراثة قد يدعو للاعتقاد بأن الانتخابات لا تلعب إلا دورا هامشيا محدودا في الحياة السياسية إلا أن الحقيقة مغايرة لهذا تماما.
فالمؤسسات السياسية الوراثية لم يعد لها تأثير كبير في البلاد. أما الدور الرئيسي الذي تلعبه المؤسسة الانتخابية فيبدو من خلال تفاعلها وتأثرها بطبيعة النظام الحزبي القائم في البلاد، والمتميز بوجود حزبين رئيسيين فيها. فلقد أدى انقسام الأغلبية الساحقة من الشعب البريطاني إلى تيارين سياسيين رئيسيين: يتجسد الأول بحزب المحافظين ويتمثل الثاني بحزب العمال، إلى زيادة أهمية وفعالية وتأثير المؤسسة الانتخابية في حياة البلاد، بالنسبة للمؤسسات السياسية الأخرى. فالشعب البريطاني عندما يتجه، مبدئيا مرة كل خمس سنوات، إلى صناديق الاقتراع لانتخاب أعضاء مجلس العموم ويحمل إلى هذا المجلس أغلبية من النواب منتمين إلى أحد الحزبين الكبيرين إنما يقوم بشكل مباشر باختيار السياسة العامة التي يفضل أن تسير عليها البلاد خلال السنوات الخمس التالية، كما يقوم، في نفس الوقت، باختيار الوزير الأول، الذي سيكون حكما رئيس الحزب الفائز بالانتخابات، وأعضاء الحكومة الذين سيكونون أيضا من بين أعضاء اللجنة القيادية لهذا الحزب.
ونظرا للأهمية البالغة لهذه النتائج المباشرة للانتخابات في بريطانيا، فإن الوزير الأول ومن ورائه الحكومة بكاملها، يجد نفسه مسؤولا، بشكل مباشر وفعلي، عن سياسته وأعماله، أمام الشعب أو الهيئة الناخبة وليس أمام أية سلطة أخرى. وفي هذا الأمر تعديل عملي للقاعدة النظرية الرئيسية في النظام البرلماني والمتمثلة في مسؤولية الحكومة والوزير الأول أمام البرلمان. فالواقع أن الوزير الأول في بريطانيا لم يعد يخشى حدوث أي صدام حقيقي مع مجلس العموم وذلك بسبب وجود أغلبية حزبية منضبطة ومؤيدة له  و لحكومته، بشكل ثابت داخل المجلس ولقد عطل هذا الواقع جوهر الرقابة البرلمانية على أعمال الحكومة ولم يعد الوزير الأول يحسب حسابا حقيقيا إلا للشعب حين يتخذ مواقفه المختلفة من القضايا السياسية والعامة الأخرى ويتجسد هذا الأمر من خلال حرصه على فوز  حزبه بالانتخابات العامة المقبلة.
ويتحقق الوزير الأول من رضا الشعب عن مواقفه وتأييده لسياسته في مناسبات مختلفة يأتي في مقدمتها الانتخابات الجزئية  وحل مجلس العموم قبل انتهاء مدته القانونية.
فالانتخابات الجزئية تحدث في بريطانيا باستمرار لملئ المقاعد النيابية التي تشغل بسبب وفاة بعض أعضاء مجلس العموم أو استقالتهم لأي سبب كان. وتعتبر هذه الانتخابات وسيلة مهمة لقياس الاتجاهات السياسية للرأي العام بحيث تقوم الحكومة والمعارضة بتعديل مواقفها على ضوء نتائجها.
أما حل مجلس العموم قبل انتهاء مدته الرسمية، فقد أصبح نوعا من التقليد المتبع في بريطانيا ويحدث هذا الحل عادة بسبب رغبة الحكومة بمعرفة رأي الشعب في قضية عامة مهمة ومصيرية بالنسبة للبلاد، أو بسبب رغبتها في تدعيم قوة الأغلبية الحزبية المؤيدة لها في المجلس، وفي هذه الحالة الثانية يختار الوزير الأول موعد الحل وإجراء انتخابات الجديدة في وقت يعتقد بأنه أكثر ملائمة لفوز حزبه. ومهما يكن السبب، فإن هذا الأمر يسمح للناخبين بإبداء آرائهم في القضايا السياسية في فترات زمنية غير متباعدة نسبيا.
2- نظام الانتخاب: يعتمد النظام البريطاني أسلوب الانتخاب الفردي الأكثري لدورة واحدة. حيث تقسم البلاد إلى دوائر انتخابية صغيرة جدا يخصص لكل منها مقعد واحد في مجلس العموم. وعند إجراء الانتخابات يعتبر رابحا المرشح الذي حصل على أكبر عدد من الأصوات المقترعة مهما كان هذا العدد ولقد بدأ تطبيق هذا الأسلوب في بريطانيا منذ القرن الثالث عشر وما زال معمولا به حتى الآن دون انقطاع.
ويتميز هذا الأسلوب الانتخابي ببعض الحسنات كما أن له في الوقت ذاته بعض المساوئ.
أما حسناته فتكمن في أنه يساعد على استمرار انقسام الناخبين بين حزبين كبيرين، وهذا ما يؤدي غالبا لإيجاد أغلبية نيابية منسجمة وحكومة مستقرة. إلا أن هذا النظام يتطلب إيجاد تنظيم جيد للأحزاب. فبما أن الانتخابات تتم من الدورة الأولى فإن على كل حزب أن يحشد أقصى الطاقات من أجل جمع أكبر عدد من الأصوات. كما يتطلب من الناخب نوعا من الوعي لأهمية الصوت الذي يدلي به والقرار الذي يتخذه بخصوص المرشح والحزب الذي يفضله. وهذا ما يدفعه عادة لاختيار المرشح المنتمي لأحد الحزبين القويين، والامتناع عن التصويت للأحزاب الصغيرة أو للمستقلين الذين لن يكون بإمكانهم الحصول على أغلبية في مجلس العموم، ولن يستطيعوا بالتالي التأثير بشكل حاسم على سياسة الحكومة والبلاد. ومن حسنات هذا النظام أيضا وضوحه وبساطته وعدم تعقيده فبالنظر لضيق حدود الدائرة الانتخابية يكون من السهل نسبيا على الناخب التعرف على المرشحين وتفضيل أحدهم، وبالنظر لأن انتخابات تحسم في دورة واحدة وعلى أساس قاعدة الأكثرية النسبية فإنه يكون من السهل التعرف بشكل سريع جدا على نتائج العملية الانتخابية.
إلا أن لأسلوب الانتخاب هذا، بالمقابل، بعض المساوئ، ومن أهم هذه المساوئ أن هذا الأسلوب غير عادل ولا يعطي صورة صادقة عن الاتجاهات السياسية للرأي العام. فقد يحصل أن يفوز أحد الأحزاب بأغلبية المقاعد في مجلس العموم دون أن يكون قد حصل بالفعل على الأغلبية النسبية للأصوات في مجمل البلاد. ففي عام 1951 على سبيل المثال فاز حزب المحافظين الانتخابات العامة وحصل على 51.36 بالمائة من المقاعد رغم أنه لم يجمع إلا نسبة 47.96 بالمائة من الأصوات الإجمالية في حين أن حزب العمال حصل على نسبة أقل من المقاعد (47.20 بالمائة) رغم تجميعه لنسبة أعلى من الأصوات الإجمالية بلغت نحو 48.80 بالمائة. وسبب هذه الظاهرة هو أن أحد الأحزاب يمكنه أحيانا أن يفوز في عدد كبير من الدوائر، وذلك بحصوله، في كل منها، على تفوق بسيط على خصمه في عدد الأصوات. في حين يفوز الأخر بعدد قليل من الدوائر التي يحصل في كل منها على أغلبية كبيرة جدا من الأصوات. وهذا الأمر يعطي للحزب الثاني عددا كبيرا نسبيا من الأصوات وعددا قليلا من المقاعد النيابية، ولهذا يمكن القول إن أسلوب الانتخاب هذا ينطوي رغم بساطته، على شيء من الظلم ومن مظاهر عدم العدالة في هذا النظام أيضا أن الأحزاب الأخرى الأقل شئنا وقوة في البلاد تحصل عادة على عدد من المقاعد النيابية أقل بكثير من عدد الأصوات التي حصلت عليها نسبيا في مجمل أنحاء البلاد ففي انتخابات 1974، على سبيل المثال، حصل حزب الأحرار على نسبة 19.3 بالمائة من مجموع أصوات الناخبين في مختلف أنحاء البلاد في حين لم يحصل إلا على نسبة 2.2 بالمائة من عدد المقاعد الإجمالية في مجلس العموم. و السبب في هذه الظاهرة أن الأحزاب الضعيفة نسبيا تحصل في عدد كبير من الدوائر الانتخابية على عدد من الأصوات لا يصل لحد الأكثرية النسبية ولا يسمح لمرشحها في كل دائرة منها بالفوز بالمقعد المخصص لها. وبذلك تضيع قيمة هذه الأصوات وتذهب هدرا ولا تأثر بالتالي في تحديد عدد المقاعد التي يفوز فيها الحزب في المجلس.
ومن مساوئ هذا النظام أيضا أنه يخضع الحياة السياسية لإرادة نفر بسيط من الناخبين المترددين وخاصة في مثل هذه البلاد التي تعيش في ظل نظام الثنائية الحزبية فمن الواضح أن لكل حزب سياسي قواعده الانتخابية الثابتة والمستقرة. وهذا يعني أن القسم الأعظم من الناخبين مستقرين إلى حد كبير في اختياراتهم وانتماءاتهم السياسية. ولكن تبقى هناك أقلية من الناخبين الغير مستقرين على رأي سياسي معين.
وهذه الأقلية تنحاز حينا لهذا الحزب وحينا للحزب الآخر وذلك بسبب جملة من الأسباب والعوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الظرفية. ولهذا فإن الصراع والتنافس الانتخابي بين الحزبين الكبيرين يجري عادة من أجل كسب ثقة وتأييد أكبر عدد من الأصوات هذه الأقلية المترددة. وبقدر نجاح الحزب بهذا يستطيع أن يحقق لنفسه الفوز في الانتخابات ولهذا فإن هذه الفئة القليلة تصبح فعليا المتحكمة في تقرير السياسة العامة في البلاد من خلال تأييدها لهذا الحزب أو ذالك.
وتزداد أهمية هذه الظاهرة عندما نعلم أن هذه الأقلية من المواطنين تتبني عادة مواقف سياسية متوسطة بين اليسار واليمين وإن الحزبين الكبيرين يتجهان من أجل كسب ثقة وتأييد هذه الأقلية للتخلي عن أفكارهما ومواقفهما المتطرفة ولتبني حلول وبرامج سياسية وسطية أكثر فأكثر. وهذا الأمر يدفع الحزبين السياسيين الكبيرين في بريطانيا نحو الوسط بحيث يمكن القول الآن أنه بسبب وجود هذه الظاهرة إلى حد كبير، فإنه لم يعد هناك حزب يساري وآخر يميني وإنما هناك حزب يمثل يمين الوسط وآخر يمثل يسار الوسط.
ثانيا: المؤسسة الحزبية
يعرف البعض النظام السياسي البريطاني بأنه نظام حكم حزبي، وذلك بمعنى أن السلطة تكون طوال مدة ولاية مجلس العموم بيد الحزب المتمتع بالأغلبية البرلمانية فيه. وعلى هذا يلعب الحزب الحاكم وقيادته بشكل خاص دورا أساسيا في رسم معالم الحياة السياسية في البلاد ومن الواضح أن السبب الجوهري في قدرة حزب واحد على التمتع بأغلبية مقاعد مجلس العموم يعود انقسام الأغلبية الساحقة من الشعب البريطاني إلى حزبين كبيرين لابد لأحدهما، غالبا، من الفوز بأغلبية المقاعد أثناء الانتخابات.ونظرا لاستمرار هذه الظاهرة التاريخية منذ عدة قرون،سمي النظام البريطاني أيضا بأنه نظام يعيش في ظل الثنائية الحزبية، وهذا بالرغم من وجود عدة أحزاب أخرى هامشية في البلاد.
أ- نشأة نظام الثنائية الحزبية: يعود تاريخ الحركة الحزبية، في بريطانيا، إلى بداية القرن السابع عشر حين أخذت تتبلور داخل صفوف البريطانيين عامة، وأعضاء البرلمان، بصفة خاصة اتجاهات ومواقف فكرية وسياسية معبرة عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية المتباينة لكل من الطبقتين الأرستقراطية والبرجوازية. وكان من أهم القضايا المطروحة على بساط البحث في ذلك الحين: الموقف من قضية الإصلاح الديني وما يتفرع عنها من تسامح تجاه أتباع المذاهب الدينية المختلفة، والموقف من علاقة البرلمان بالملك والتوازن الذي يمكن أن يقوم بينهما. ولقد انقسمت هذه الاتجاهات إلى حزبين كبيرين متعارضين هما “التوريز” (Torys) المعبر عن الاتجاه المحافظ للطبقة الأرستقراطية، وحزب “الويكز” (Wight) المعبر عن الاتجاه الليبيرالي (التحريري) للطبقة البرجوازية الناشئة.
ولقد تولى هذان الحزبان الكبيران قيادة الحياة السياسية البريطانية، وأسهم وجودهما وتنافسهما الدائم على السلطة في رسم معالم النظام البرلماني وإرساء قواعده الرئيسية. وخلال القرن التاسع عشر بدأ الحزب الأول يعرف باسم حزب المحافظين في حين اتخذ الثاني لنفسه اسم حزب الأحرار.
ومع بداية القرن العشرين وازدياد نفوذ الطبقة العاملة وانتشار الافكارالاشتراكية بتأسيس حزب ثالث هو “حزب العمال”. وبقي هذا الحزب يحتل دور القوة الثالثة في البلاد ألا أن مكنته أحداث الحرب العالمية الأولى، والنتائج التي تمخضت عنها على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي من الفوز بالانتخابات التشريعية العامة،  للمرة الأولى،  في عام 1924، وذلك بعد أن استأثر بتأييد ودعم الأغلبية الساحقة من أنصار حزب الأحرار وبذلك تحول حزب العمال إلة قوة رئيسية في البلاد إلى جانب حزب المحافظين أما حزب الأحرار فقد أخذت مكانته تضعف تدريجيا بعد أن تحول قسم آخر من أنصاره لتأييد حزب المحافظين.
ب- مزايا نظام الثنائية الحزبية وآثاره: أدت هيمنة الثنائية الحزبية على النظام البرلماني البريطاني إلى طبع الحياة السياسية ببعض المزايا الإيجابية في نفس الوقت الذي عطلت فيه آلية هذا النظام وقلبت عمليا قواعده الجوهرية رأسا على عقب.
فمن جهة أولى ساعدت الثنائية الحزبية التي تترجم عمليا بوجود حزب واحد متمتع بأغلبية مقاعد في مجلس العموم، على قيام حكم قوي ومستقر في بريطانيا، فالحكومة البريطانية المؤلفة من أعضاء اللجنة القيادية لحزب الأغلبية في مجلس العموم والتي يرأسها رئيس هذا الحزب، تعتبر دوما حكومة قوية لأنها تستند لتأييد أغلبية برلمانية حزبية منسجمة ومنضبطة انضباطا شديدا. وهذا الأمر يكفل لها إمكانية الحكم بشكل مستقر وبدون أزمات أو هزات طوال مدة ولاية مجلس العموم.
ونظرا لتشكل الحكومة البريطانية من فئة حزبية واحدة فإنها تقوم بممارسة مهام الحكم على هدي البرنامج السياسي الذي أعلنه الحزب والتزم بتنفيذه أما المواطن قبيل الانتخابات العامة ولهذا تكون سياسة الحكومة في خطوطها الرئيسية على الأقل، سياسة ثابتة وواضحة وبعيدة عن التقلب والتردد الذي تتميز به سياسة ومواقف الحكومات القائمة على أساس تحالف ظرفي بين عدة أحزاب وأخيرا.
وأخيرا فإن نظام الثنائية الحزبية كما أشرنا سابقا، يساهم في زيادة فعالية وتأثير الجسم الانتخابي لأن الناخب البريطاني عندما يقوم بعملية الاقتراع والمصادرة بين الحزبين الكبيرين إنما يقوم بطريقة مباشرة باقتناء الوزير الأول الذي سيكون حتما رئيس الحزب الفائز بالأغلبية، وأعضاء الحكومة الذين  سيكونون  من بين أعضاء اللجنة القيادية لهذا الحزب، كما يقوم بتحديد السياسة العامة التي ستنتهجها الحكومة المقبلة وتسير عليها.
ومقابل هذه المزايا الإيجابية، أدت الثنائية الحزبية من جهة أخرى لتعطيل القاعدة الجوهرية للنظام البرلماني متمثلة بمسؤولية الوزارة أمام البرلمان. فمسؤولية الحكومة البريطانية أمام مجلس العموم، لم تعد، بسبب نظام ثنائية الحزبية إلا قضية شكلية فارغة من أي مضمون حقيقي. فنظرا لاستناد الحكومة الحزبية لأغلبية منسجمة ومنضبطة من نفس الحزب فإنها لم تعد عمليا تخشى من حدوث مواجهة سياسية مع مجلس العموم يكون من نتائجها حجب الثقة عنها وإجبارها بالتالي على الاستقالة ويشهد التاريخ  البرلماني المعاصر في بريطانيا على ندرة حدوث مثل  هذا الأمر ولهذا يمكن القول إن الحكومة لم تعد حقيقة خاضعة لرقابة المجلس فالسياسة البريطانية تقررها اللجنة القيادية للحزب الحاكم، وذلك من خلال الحكومة التي تكون متأكدة من أنها ستلقى تأييد مجلس العموم الذي يضم أغلبية من نفس الحزب.
على أن نظام ثنائية الحزبية لم يعطل هذه القاعدة البرلمانية الجوهرية فحسب بل إنه قلب أوضاع العلاقة بين الحكومة والبرلمان رأسا على عقب وذلك لمصلحة الحكومة والوزير الأول فالحكومة البريطانية لم تعد فقط غير خاضعة لرقابة مجلس العموم بل إنها أصبحت أيضا تتدخل في صلب اختصاصاته الدستورية ولو بصورة شبه مباشرة. ذلك أن الحكومة البريطانية أصبحت تقوم عمليا بجل العمل التشريعي ولا تترك لمجلس العموم إلا مهمة إخراجه بصورة قانونية. فهي من خلال مشاريع القوانين التي تعدها بنفسها واقتراحات القوانين التي توعز لنواب حزبها في المجلس بتقديمها إليه، تضمن إقرار أي نص تشريعي ترغب بإصداره وبالإضافة لهذا تستطيع الحكومة، من خلال تأييد الأغلبية النيابية الحزبية بطلبها أن تحصل من مجلس العموم، في أي وقت تشاء على تفويض يسمح لها باتخاذ مراسيم تشريعية لها قوة القانون. وهكذا يمكننا أن نلاحظ بسهولة كيف أدت الثنائية الحزبية بالتوازن يفترض أن يقوم بين البرلمان والحكومة، لمصلحة هذه الأخيرة.
ج- خصائص الأحزاب البريطانية: تتميز الأحزاب السياسية الكبرى في بريطانيا بطابعها الإيديولوجي المعتدل، وبكونها أحزاب أطر شديدة التنظيم.
1- فمن جهة أخرى تعتبر هذه الأحزاب أحزابا إيديولوجية لأنها تجسد تاريخيا مصالح الطبقات وفئات اجتماعية متباينة. الحزب المحافظ يعتبر تقليديا حزب الطبقات الأرستقراطية والبرجوازية الكبيرة، وحزب العمال يمثل مبدئيا الطبقة العاملة وحزب الأحرار يعبر إلى حد ما مصالح بعض قطاعات البرجوازية الصغيرة وأرباب المهن الحرة إلى أن هذا التقسيم المبسط للأمور لا يمكنه أن يحجب عن الأنظار واقع التقارب الإيديولوجي الكبير بين هذه الأحزاب والذي يتمثل بعدم وجود تناقض صارخ بين برامجها وأهدافها السياسية المختلفة،  ويعود هذا التقارب الواضح إلى عدة عوامل من أهمها:
– قيام اتفاق اجتماعي عام بين أبناء الشعب البريطاني، أو أغلبيته الساحقة على الأقل، حول أسس النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي القائم،وقد تم التوصل إلى هذا الاتفاق العام،تاريخيا، على إثر الإنجازات الضخمة التي حققها المجتمع للإنسان البريطاني في كافة الميادين، ولاسيما في مجال الحقوق الشخصية والحريات العادية والمكاسب الاقتصادية والاجتماعية التي شملت بآثارها كافة الموطنين ولهذا لم يعد الانقسام السياسي في المجتمع انقساما حادا وإنما أصبح انقساما ثانويا يدور حول قضايا فرعية. وتعبر عنه الأحزاب المختلفة من خلال برامجها السياسية المتقاربة.
– ولقد ساعد على إضفاء طابع الاعتدال على الأحزاب البريطانية نوعية النظام الانتخابي الفردي الأكثري ذي الدورة الواحدة ووجود حزبان كبيران يحتكران واقعيا إمكانية الحصول على أغلبية برلمانية في مجلس العموم، ويحرصان على بذل أقصى الجهود لتحقيق الفوز في دورة الانتخاب الوحيدة. فنظرا لثقة كل حزب باستمرار تأييد أنصاره التقليديين له أثناء المعركة الانتخابية فإنه يسعى قبيل هذه المعركة لكسب تأييد الفئة غير المنحازة سلفا إلى أي حزب، والتي تنتمي بشكل عام لتيار الوسط ولكي يتمكن من ذلك يحرص كل حزب على أن يظهر كل حزب نفسه بمظهر الاعتدال ويتبنى برنامجا سياسيا متوازنا يتخلى فيه عن الموقف والآراء المتطرفة ولقد أدت هذه الظاهرة السياسية الواضحة إلى تعميق طابع الاعتدال الإيديولوجي للأحزاب البريطانية الأكثر فأكثر بحيث صار من المتعذر على الملاحظ أن يميز بين يسار ويمين بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
2- وتعتبر الأحزاب البريطانية من جهة أخرى أحزاب أطر (Partis de cadres)، فهي لا تقوم على أساس انتماء رسمي ومباشر ومكثف لجماهير الشعب وإنما على أساس تنظيم يظم عددا محدودا نسبيا من الأطر والشخصيات السياسية والاجتماعية الهامة والفاعلة في مختلف قطاعات الحياة العامة.
و يتميز التنظيم الحزبي هذا بقوته وانضباطه الشديد وهو انضباط لابد منه لتماسك الحزب ومحافظته على الانسجام بين عناصره بصفة عامة، وممثليه في مجلس العموم بشكل خاص.
د- دور الأحزاب في الحياة السياسية: تلعب الأحزاب السياسية دورا هاما في الحياة السياسية ولاسيما في كل ما يتعلق بالعملية الانتخابية. ويتجلى هذا الدور من خلال مظاهر عديدة من بينها.
– أن الحزب الذي يتمتع بالأغلبية النيابية في مجلس العموم، والذي تنبثق الحكومة عن لجنته القيادية، يتحكم بحرة تامة في رسم سياسة البلاد وتحديد مواقفها من القضايا الدولية والداخلية الراهنة وفي إصدار كافة التشريعات التي يراها ضرورية لوضع سياسته موضع التنفيذ. ولا يحد من سلطة الحزب في هذا المجال، وكما أشرنا إلى ذلك سابقا،إلى قوة الرأي العام الشعبي واتجاهاته ومواقفه التي لابد للحزب الحاكم أن يأخذها بعين الاعتبار إذا ما أراد أن تجدد له الأغلبية الشعبية ثقتها أثناء دورة الانتخابات التالية.
– أن الأحزاب البريطانية تسيطر بشكل شبه مطلق على مختلف القضايا المتعلقة بالعملية الانتخابية فقيادات الأحزاب هي التي تختار الدوائر الانتخابية التي ستقدم فيها مرشحيها، وهي التي تختار أيضا بحرية المرشحين وتوفر لهم الدعم السياسي والمالي اللازم للنجاح وتستغل الأحزاب بنجاح واقع كون الترشيح المستقل صعب جدا في البلاد بسبب الأعباء المالية الباهظة التي يتطلبها وكذلك إحجام المواطن البريطاني غالبا عن تأييد المرشحين المستقلين لاعتقاده بأن تأييدهم ورفعهم إلى سدة المجلس لن يكون له تأثير حاسم على مجريات الحياة السياسية في البلاد. وهكذا يشعر المرشح الحزبي الفائز بأنه مدين في حصوله على عضوية مجلس العموم إلى حزبه الذي وفر له أسباب النجاح المختلفة.وهذا الشعور لابد منه لضمان استمرار انضباط النواب الحزبيين والتفافهم حول قيادة الحزب.
ثالثا: المؤسسة الملكية
تطور دور المؤسسة الملكية وتأثيرها في الحياة السياسية في بريطانيا، تطورا جذريا حاسما. فبعد أن كان الملك في الماضي يتولى كافة مهام السلطتين التشريعية والتنفيذية، فيصدر القوانين كما يشاء ويتولى الإشراف على تنفيذها من خلال وزرائه ومعاونيه، أخذت سلطاته تنكمش شيئا فشيئا لتصبح منذ أوائل القرن الثامن عشر مجرد سلطات رمزية يلخصها القول المعروف بأن “الملكية تتولى ولا تحكم”.
تقوم المؤسسة الملكية، بطبيعة الحال، على مبدأ الوراثة، وينتقل العرش فيها من الملك الراحل إلى ولده الأكبر سواء أكان ذكرا أم أنثى.
ويتمتع الملك ببعض الصلاحيات التقليدية و الشرفية التي ما يزال يحتفظ بها من العصور السابقة ومن أهم هذه الصلاحيات.
– صلاحية التصديق على القوانين التي يقرها البرلمان. ومصادقة الملك وتوقيعه لابد منها من أجل نشر القوانين وإصدارها ووضعها موضع التنفيذ. ومع أن الملك يستطيع نظريا أن يعترض على القوانين ويحول بالتالي دون تنفيذها فإنه لم يقم بأي بادرة من هذا النوع منذ عام 1707.
– صلاحية اختيار الوزير الأول، وهي صلاحية كان الملك يتمتع بممارستها بحرية تامة، إلا أن الظروف والأعراف الدستورية حدت فيما بعد من حريته في هذا المجال بحيث أصبح ملزما بتعيين رئيس حزب الأغلبية في مجلس العموم، بهذا المنصب.
– صلاحية تعيين بعض أعضاء مجلس اللوردات وكذلك تعيين كبار الموظفين في السلكين المدني والعسكري.
– صلاحية تمديد مدة ولاية مجلس العموم وحل هذا المجلس قبل انتهاء ولايته وذلك بناء على اقتراح من الحكومة.
– صلاحية إعلان الحرب، والسلام، وإبرام المعاهدات الدولية والاعتراف بالدول الحكومات الأجنبية وإرسال المبعوثين الدبلوماسيين للخارج لاستقبال ممثلي الدول الأجنبية في بريطانيا.
– صلاحية منح الألقاب والأوسمة.
– صلاحية إصدار عفو خاص عن المحكومين.
– صلاحية تولي القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية.
والجدير بالذكر بالنسبة لجميع هذه الصلاحيات التقليدية، أن الملك لا يستطيع مباشرتها وممارستها بناء على اقتراح الحكومة ومشاركة الوزير الأول وبعض الوزراء المعنيين، بالتواقيع على المراسيم الملكية المتعلقة بها. وهذا يعني أن سلطات الملك في كافة هذه المجالات ما هي إى سلطات رمزية فقط إلا أن الملك يتمتع مقابل تخليه عن كافة السلطات الفعلية، بحصانة مطلقة سواء على الصعيد السياسي أم الجنائي. فالملك شخص مقدس لا يمكن انتهاك حرمته. وهذه الحصانة المطلقة هي في الواقع استمرار لقاعدة عرفية قديمة تقول باستحالة الملك بأي عمل خاطئ. وهذه الحصانة تجد حاليا ما يبررها ولاسيما على الصعيد السياسي،في واقع تخلي الملك لوزرائه عن كافة السلطات الفعلية وذلك مقابل تحملهم للمسؤولية كاملة.
رابعا: الحكومة
تتولى الحكومة قيادة السلطة التنفيذية. وهي تنبثق مبدئيا عن البرلمان وواقعيا عن الشعب من خلال تأييد غالبيته لأحد الحزبين الرئيسيين في البلاد.
والحكومة البريطانية هيئة تقليدية بدأت تتطور منذ مطلع القرن الخامس عشر وتتحول تدريجيا من مجرد مجلس يضم مستشاري الملك إلى مجلس أصبح يحتكر لنفسه سلطات الملك في مجال السلطة التنفيذية.
أ- تنظيم الحكومة: وتضم الحكومة البريطانية بالإضافة للوزير الأول، عددا من الوزراء وكتاب الدولة والكتاب البرلمانيين.
1- الوزير الأول: يعينه مبدئيا الملك. إلا أن الملك ملزم عمليا باختيار رئيس حزب الأغلبية في مجلس العموم لهذا المنصب. ويتمتع الوزير الأول بمركز مهم وبصلاحيات واسعة إذا أنه يعتبر الرئيس الفعلي للبلاد. وهو يقوم باختيار باقي أعضاء الحكومة ويحقق له تعديلها،  كما يحقق له الطلب لأحد الوزراء أو بعضهم بالاستقالة وكذلك فإنه يستطيع أن يقدم استقالته للملك ويؤدي عمله هذا إلى استقالة الحكومة حكما. ويقوم الوزير الأول وحده بتأمين الاتصال بين الحكومة والملك. أما الوزراء فلا يستطيعون الاجتماع بالملك إلا بعد أن يحصل لهم الوزير الأول على إذن بذلك. وغالبا ما يحضر هو شخصيا اجتماع الملك بالوزراء. كما يراقب الوزير الأول أعمال الوزراء وسياستهم ويهتم بشكل خاص بأمور السياسة.
2- الوزراء وكتاب الدولة: ويتولى كل من هؤلاء وزارة معينة. والفرق بين الوزير وكاتب الدولة هنا ليس في الدرجة أو الأهمية وإنما في تاريخ إنشاء الوزارة. فلقد جرت العادة على أن يطلق اسم مكتب (Office) على الوزارات القديمة (مثل وزارات الداخلية والخارجية والحرب) ويقوم بالإشراف عليها كاتب دولة أما اسم وزارة فيطلق على الوزارات التي أنشأت في وقت حديث نسبيا (وزارة التعليم) ويقوم بإشراف عليها الوزير. ويعتبر كل وزير أو كاتب دولة مسؤولا فرديا عن أعمال وزارته وسياستها ولذلك فإن عليه أن يستقيل في حال عدم ثقة مجلس العموم أو الوزير الأول به.
3- الكتاب البرلمانيون: يقوم إلى جانب كل وزير أو كاتب دولة،كاتب برلماني يعينه الوزير الأول مع الوزير المختص ويقوم هؤلاء بتأمين الاتصال بين الوزير أو كاتب الدولة والبرلمان حيث يجيبون بدلا عنه، في بعض الحالات، على الأسئلة الشفهية لأعضاء البرلمان.
4- “الكابنت” (Le cabinet ) وهو تشكيل خاص يتميز به النظام البرلماني البريطاني. ذلك أن مجلس الحكومة البريطانية يضم في الواقع عددا كبيرا من الأعضاء يصل أحيانا إلى نحو مائة بين وزير وكاتب دولة وكاتب برلماني. ولهذا يقوم من بين هذا المجلس الواسع تشكيل خاص محدود العدد يضم عددا من الوزارات المهمة فقط: كوزارات الداخلية والخارجية والحرب والعدل والمال… وتجتمع الكابنت برئاسة الوزير الأول وتعتبر الجهاز الأعلى المسؤول عن رسم السياسة العامة للبلاد وعن اتخاذ القرارات الأكثر أهمية.
ب- صلاحيات الحكومة: تتولى الحكومة البريطانية صلاحيات هامة وواسعة، رغم أنها تخضع نظريا لمراقبة الملك والبرلمان. ومن أهم هذه الصلاحيات :
– تحديد السياسة العامة للبلاد في مختلف المجالات.
– مراقبة الإدارة والسهر على حسن تنفيذ القرارات التي تتخذها الحكومة.
– حق اتخاذ المبادرة في قضايا التشريع المالي. وبهذا تسيطر الحكومة على مجمل الحياة المالية في البلاد.
– مشاركة البرلمان في حق المبادرة للتشريع. والحكومة تقوم في الواقع بالمبادرة لاقتراح الجزء الأكبر من القوانين التي يصدرها البرلمان.
– تتمتع الحكومة بحق إصدار نصوص لها قوة القانون وذلك بناء على تفويض خاص تحصل عليه من مجلس العموم وبموجب هذا الحق تتحول الحكومة الممارسة صلاحيات التشريع في البلاد.
ج- دور الحكومة في الحياة السياسية: إن الأهمية الكبيرة للدور الذي تلعبه الحكومة البريطانية في الحياة السياسية لا تعود لطبيعة المهمات التقليدية التي تتمتع بها الحكومات في الأنظمة البرلمانية وإنما لكون هذه الحكومة تستمد ثقتها الفعلية من الشعب مباشرة فمن الناحية النظرية يقوم الشعب البريطاني بانتخاب ممثلين له في مجلس العموم.ومن ثم يقوم هؤلاء باختيار الوزير الأول إلا أن الواقع يشير إلى أنه بفضل نظام ثنائية الحزبية وتنظيم وانضباط الأحزاب،والتزام الملك باحترام الإرادة الشعبية فإن الشعب يقوم أثناء الانتخابات باختيار الوزير الأول الذي يقال عنه بأنه “ملك منتخب لمدة محدودة” كما يقوم باختيار الحكومة التي تتشكل من اللجنة القيادية للحزب الفائز.
إن هذا الوضع يعطي الحكومة البريطانية مكانة ومركزا قويا ضمن الحياة السياسية للبلاد فهي لم تعد عمليا مسؤولة عن أعمالها وسياستها أمام البرلمان وإنما هي مسؤولة مباشرة أمام الشعب الذي تستمد قوتها من ثقته بها.
خامسا: البرلمان
يعود الأصل التاريخي للمؤسسة البرلمانية في بريطانيا إلى “المجلس العام للمملكة” الذي درج الملوك منذ القرن الحادي عشر لدعوته للاجتماع في بعض الأوقات العصيبة، وكان يضم عددا من كبار النبلاء (البارونات) ورجال الدين الذين يختارهم الملك بملء حريته. وكان دور المجلس في البداية استشاري ويقتصر على بيان الرأي في القضايا التي يعرضها عليه الملك، وفي عام 1265 دعي الملك بعض المقاطعات والمدن الهامة لانتخاب ممثلين عنها من كبار أعيانها و فرسانها، لحضور اجتماعات المجلس العام إلى جانب النبلاء ورجال الدين. وخلال القرن الرابع عشر اتفق أعضاء المجلس العام على أنه يجتمع النبلاء ورجال الدين في مجلس خاص ويجتمع ممثلو المقاطعات والمدن في مجلس آخر و لقد تكرس هذا الانفصال في عام 1351. فأخذ المجلس الأول اسم مجلس اللوردات،في حين دعي المجلس الثاني بمجلس العموم، وهما المجلسان اللذان  يتألف منهما البرلمان، بالإضافة، رسميا، للملك، الذي كان الأصل في نشأة هذه المؤسسة.
أ- تنظيم البرلمان : يتألف البرلمان البريطاني عمليا،من مجلس اللوردات، والعموم.
1- مجلس اللوردات: وهو مجلس يمثل بقايا الطبقة الأرستقراطية وتقاليدها التاريخية، ويضم حاليا حولي ألف لورد. ويحتل أعضاؤه مقاعدهم فيه بشكل عام إما بالوراثة أو بالتعيين لمدى الحياة من قبل الملك وبناء على اقتراح الحكومة. ويرأس هذا المجلس حكما وزير العدل الذي يسمى في هذا المنصب بمرسوم ملكي يشارك في التوقيع عليه الوزير الأول. ويتألف من حيث تركيب أعضائه من فئتين : الفئة الأولى وتضم اللوردات الروحيون وعددهم 26 وهم يمثلون رؤساء الكنيسة الإنكليكانية وهم يستمرون في عضويته طالما استمروا في شغل مهامهم الكنسية. وأما الفئة الثانية فهي تضم اللوردات الزمنية وهي تشتمل بدورها على أربعة أصناف:
–       اللوردات بالوراثة وعددهم تقريبا 800،
– اللوردات الذين يعينهم الملك من بين الشخصيات التي قدمت لبريطانيا خدمات جليلة أو أعمالا قيمة في مختلف مجالات العلم والفكر والسياسة ويبلغ عدد هؤلاء تقريبا نحو مائة لورد،
– لوردات يمثلون مقاطعات اسكوتلندة وينتخبهم اللوردات الذين ينتمون إلى هذه المقاطعة وعددهم ستة عشرة وهم يحتفظون بعضويتهم طوال مدة ولاية مجلس العموم،
– لوردات الاستئناف العادي وعددهم تسعة ويعينهم الملك لمدى الحياة للقيام بالصلاحيات القضائية لمجلس اللوردات. والجدير بالذكر أن هؤلاء اللوردات يشكلون بمجموعهم لجنة خاصة يرأسها حكما وزير العدل، للقيام بمهام محكمة الاستئناف العليا في المملكة. وتتولى هذه المحكمة، بالإضافة لمهام الاستئناف العادي صلاحية محاكمة أعضاء الحكومة في حال توجيه اتهام إليهم في قضايا جنائية من طرف مجلس العموم. وكذلك محاكمة أعضاء مجلس اللوردات في حالة الخيانة العظمى.
2- مجلس العموم: وهو الهيئة الممثلة للشعب البريطاني لأنه ينتخب انتخابا مباشرا من قبله. وهو يضم حاليا 635عضوا، ومدة ولايته خمس سنوات، إلا أن العادة جرت على أن يكمل المجلس مدة ولايته الرسمية إذ أنه يحل عادة خلال السنة الخامسة. وينتخب المجلس من بين أعضائه رئيسا يدعى المتحدث (Speaker) ويتمتع هذا ببعض الحقوق والامتيازات ومن أهمها: حق تنظيم المناقشات في المجلس. وحق البت فيما إذا كان مشروع القانون المعروض على المجلس طابعا ماليا، وبالتالي لا يجوز عرضه على مجلس اللوردات.
ب- صلاحيات البرلمان: يتمتع البرلمان بثلاث صلاحيات رئيسية هي: الصلاحية المالية الخاصة بإقرار الموازنة والضرائب وصلاحية تشريع القوانين العادية وصلاحية مراقبة أعمال الحكومة (التي يختص بها مجلس العموم فقط).
ولقد كان مجلسا البرلمان(اللوردات والعموم) يتمتعان في الماضي بنفس الصلاحيات فيما يتعلق بإقرار القوانين المالية والعادية. فاتفاقهما كان ضروريا لإقرارها. إلا أن  صلاحيات مجلس اللوردات أخذت بالتناقص لحساب مجلس العموم وذلك منذ نهاية القرن السابع عشر. وكان الاعتقاد السائد هو أن مجلس اللوردات لا يحق له تعديل مشاريع القوانين المالية التي يقرها مجلس العموم وذلك انطلاقا من المبدأ القائل بضرورة موافقة الشعب بواسطة ممثليه على كل ضريبة يتحملها، وبما أن مجلس اللوردات غير منتخب من الشعب فإنه لا يحق له فرض الضرائب عليه وذلك على قدم المساواة مع مجلس العموم. إلا أنه كان يحق لمجلس اللوردات أن يوافق أو يرفض الموافقة على مشاريع القوانين المالية كلية. وكان هذا الحق سلاحا فعالا بيده لعرقلة مشاريع القوانين المالية التي يقرها مجلس العموم لكن مجلس اللوردات فقد هذا الحق منذ 1911 وذلك على إثر الأزمة التي وقعت بينه وبين حكومة حزب الأحرار وأدت إلى صدور ” القانون البرلماني” الذي سبقت الإشارة إليه والذي لم يعد لمجلس اللوردات بموجبه أية صلاحية في القضايا المالية.
أما فيما يتعلق بصلاحية تشريع القوانين العادية، فقد احتفظ مجلس اللوردات بموجب “القانون البرلماني” الذي سبقت الإشارة إليه والذي لم لمجلس العموم. وكان من شان هذا التصويت تعليق تنفيذ القانون لمدة سنتين. لكن هذه المدة اختصرت إلى سنة واحدة فقط، منذ عام 1949، حين صدر قانون بذلك على اثر رفض مجلس اللوردات الموافقة على مشروع قانون خاص بتأميم صناعة الفولاذ كانت قد تقدمت به حكومة حزب العمال.
وتجدر الإشارة إلى انه نظرا لقيام القانون الدستوري البريطاني في جوهره على العرف، ولعدم تمييزه بين القوانين التشريعية العادية والقوانين التشريعية ذات الطابع الدستوري من حيث الإجراءات الشكلية المطلوبة لإقرارها وتعديتها، فانه يمكن القول بصورة طبيعية، أن البرلمان يتولى في نفس الوقت الصلاحية الأساسية.
ج- علاقة الحكومة بالبرلمان: هناك اعتقاد سائد بان البرلمان البريطاني يتمتع بصلاحيات واسعة فيما يتعلق بمراقبة أعمال الحكومة. وهذه الصلاحيات تعتبر بشكل طبيعي من السمات البارزة للنظام البرلماني إلا مركز البرلمان أخذ يضعف، في الواقع أمام الحكومة نتيجة لوجود نظام الثنائية الحزبية الذي يركز السلطة عمليا في يد الحكومة التي هي في نفس الوقت الجنة القيادية لحزب الأغلبية.
أن الصورة التقليدية التي تقدمها البرلمانية للعلاقة بين الحكومة و البرلمان تقوم على أساس مراقبة البرلمان لأعمال الحكومة من جهة، وإمكانية حل الحكومة للبرلمان من جهة مقابلة. وهذا ما يحقق قيام نوع من التوازن بين السلطتين. وفي حال حدوث خلاف بينهما فانه يجري اللجوء للشعب لمعرفة رأيه من خلال الانتخابات. فإذا حدث ووجدت الحكومة أن الأغلبية النيابية تعارض سياستها فان بإمكانها بدل أن تستقيل اللجوء إلى إصدار قرار يحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة لمعرفة رأي الشعب في القضية موضوع الخلاف. فإذا أدت الانتخابات لمجيء أغلبية جديدة من نفس رأي الأغلبية السابقة المعارضة للحكومة وجب على هذه الأخيرة مخالفة في رأيها للأغلبية السابقة فإنها تكون عند ذاك متفقة ورأي الحكومة ويكون بإمكان هذه أن تستمر في الحكم.
إلا أن هذه الصورة التقليدية النظرية لا توجد في الواقع في بريطانيا، حيث لا تخشى الحكومة عادة أن تجد نفسها أمام أغلبية معارضة لسياستها لان هذه الحكومة بالذات تستند في وجودها بالحكم على الحزب المسيطر على الأغلبية في مجلس العموم. ولهذا فان بريطانيا لم تعرف تصويتا بعدم الثقة بالحكومة منذ عام 1924.
والحكومة البريطانية عندما تلجا عادة لحل مجلس العموم فإنها لا تقوم بذلك لأنها تكون أمام أغلبية معادية لسياستها، بل لأنها ترغب بتدعيم مركز حزبها وأغلبيتها في مجلس العموم عندما تعتقد بان الظروف السياسية في البلاد مواتية لإجراء انتخابات تكون نتيجتها لصالح حزبها، كما أنها قد تلجا لحل مجلس العموم في بعض المناسبات الهامة عندما تعتبر أن الشعب البريطاني يواجه قضية هامة وان من الضروري أخذ رأيها من خلال الانتخابات.

النظام الرئاسي في الولايات المتحدة الأمريكية

يعتبر النظام السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية النموذج الأصيل للنظام الرئاسي. ويتميز هذا النظام بالانفصال الشديد بين السلطات. فهناك من ناحية رئيس الدولة الذي يرأس السلطة التنفيذية وينتخب عمليا مباشرة من الشعب ويعاونه في مهامه الوزراء الذين يعتبرون مسؤولين أمامه فقط، ومن ناحية ثانية البرلمان (الكونغرس)  الذي  يتولى السلطة التشريعية. ولا يحق لرئيس الدولة حل الكونغرس ، كما لا يحق لهذا الأخير إجبار الرئيس أو وزرائه على الاستقالة وسنبدأ دراستنا بهذا النظام بلمحة سريعة عن الظروف و المراحل التاريخية التي مهدت لقيامه (الفقرة الأولى) ثم ننتقل للحديث عن أهم مؤسساته السياسية (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: نشأة النظام السياسي الأمريكي
مرت الولايات الأمريكية، قبل قيام الاتحاد فيما بينها، بثلاث مراحل: ابتدأت الأولى عام 1776 بإعلان الاستقلال عن بريطانيا، وامتدت من 1777 إلى 1787 وهي مرحلة الاتحاد التعاهدي بين الدول (الولايات) الثلاث عشرة . أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة الاتحاد الفدرالي التي دشنت، عام 1787 بصدور الدستور الاتحادي وما زالت قائمة حتى الآن.
أولا: إعلان الاستقلال (4 جويليه 1776)
يعود تمرد المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية ورغبتها للاستقلال عن التاج لأسباب عديدة من أهمها التناقض بين المصالح الاستعمارية لبريطانيا والمصالح الاقتصادية للمعمرين.
ففي نهاية الفرن الثامن عشر بدأت المستعمرات تشهد المظاهر الأولى للثورة الصناعية، حيث قامت في مختلف أنحاء البلاد المشاغل والمعامل الصغيرة. لكن هذا الأمر حدث في وقت كان المذهب  الماركنتيلي (Mercantilisme) ما زال فيه مسيطرا في بريطانيا وهذا المذهب كان ينظر للمستعمرات بأنها مجرد مورد للمواد الأولوية وسوق للسلع المصنعة في “الوطن الأم” . وهذه النظرة كانت تتناقض بطبيعة الحال مع المصلحة الاقتصادية للمعمرين الذين كانوا يودون الخروج ببلادهم من حالة التبعية الاقتصادية للوطن الأم، والدخول بها إلى مرحلة المجتمع الصناعي.
وقد أتت حرب الاستقلال لتحل التناقض بين المصالح الاقتصادية للمستعمرات والخضوع السياسي للوطن الأم.
وبدأ التناقض بين المعمرين والسلطات البريطانية يأخذ طابعا حادا منذ عام 1764 حين أصدر البرلمان البريطاني قانون السكر(Sugar Act  )  ثم قانون الطوابع (Stamp Act) والذي فرض بموجبهما ضرائب جديدة على سكان المستعمرات. ثم ازداد التوتر بعد إصدار البرلمان عام 1776 استقلال المستعمرات استقلالا تاما عن بريطانيا . وقد نص إعلان الاستقلال على انحلال كل رابطة سياسية بين بريطانيا والمستعمرات، وعلى أن كل مستعمرة أصبحت تؤلف دولة حرة ومستقلة. وقد تصدر إعلان الاستقلال شرعة للحقوق تضمنت موجزا للفلسفة السياسية الليبرالية التي يقوم عليها النظام الأمريكي. فلقد أعلنت الشرعة ” إن كل الناس ولدوا متساوين، وإن الخالق أعطاهم عددا من الحقوق الأزلية التي لا يمكن التخلي عنها، ومن بينها: حق الحياة والحرية والسعي وراء السعادة، وإن الحكومات أوجدت من قبل الأفراد لضمان هذه الحقوق وإن سلطة هذه الحكومات تستند إلى رضى المحكومين، لذلك فإنه في كل مرة تصبح فيه إحدى الحكومات مهدمة لهذه الغاية، يصبح من حق الشعب أن يبدلها ويزيلها”.
ثانيا: مرحلة الاتحاد التعاهدي بين الدول المستقلة
إن الاتحاد التعاهدي بين الدول التي أعلنت استقلالها فرضته في البدء وإلى حد بعيد، ظروف الحرب والثورة وضرورة استمرار القتال ضد القوات البريطانية. فمن أجل توفير أسباب النجاح في هذه الحرب الاستقلالية كان لابد لهذه الدول من تنسيق جهودها على الصعيد العسكري والسياسي والاقتصادي. وهكذا أعلن مؤتمر الدول المستقلة المنعقد في نوفمبر عام 1777 قيام الاتحاد التعاهدي (La Confédération ) بين الدول الثلاث عشرة.
وقد قامت معاهدة التعاهد على أساس الإقرار بمبدأ السيادة والمساواة بين الدول، ونصت على قيام “جامعة صداقة” من شأنها أن تقدم كل دولة للدول الأخرى المساعدة في حال تعرضها للغزو.
وأنشأت المعاهدة هيئة سياسية مشتركة سميت بالمؤتمر (Congrès) وهي عبارة عن جمعية لمندوبي الدول، تتمثل فيها كل دولة بوفد مكون من 2 إلى 7 أعضاء، على أن لا يكون لكل وفد إلا صوت واحد واشطرت المعاهدة أن يتم اتخاذ القرارات الهامة بالإجماع. ومن هذه القرارات المسائل المتعلقة بتعديل نصوص المعاهدة، وإعلان الحرب وإبرام السلم وعقد المعاهدات والقضايا المالية والنقدية وإنشاء الجيوش والأساطيل وقبول أعضاء جدد في التحالف.
ثالثا: قيام الدولة الاتحادية
استمر الاتحاد التعاهدي بين الدول الأمريكية قائما خلال حرب الاستقلال. وامتد لفترة عدة سنوات بعد التوقيع على معاهدة الاستقلال مع بريطانيا في 3 سبتمبر 1783. إلا أنه بعد هذه الفترة من الزمن بدأت تظهر الحاجة لتوطيد وتعميق التعاهد بين الدول الثلاث عشرة. وكانت المصالح الاقتصادية من أهم أسباب هذا الاتجاه الجديد.
فالازدهار الاقتصادي لهذه الدول كان مرتبطا إلى حد بعيد بتوفير الحرية المطلقة للتجارة وذلك بانتقال السلع والبضائع عبر حدود الدول المختلفة دون عوائق. لذلك فإن حرص كل سيادتها وحدودها الضيقة كان من شأنه عرقلة قضية انطلاقتها الاقتصادية وإمكانيات نموها وتقدمها.
وهكذا وجدت مختلف الدول أن من مصلحتها دفع التحالف خطوة أخرى إلى الأمام. فعندما انعقد مؤتمر التعاهد (الكونغرس) في ماي 1787 لدراسة إصلاح نظام الاتحاد، استطاع الاتحاديون وعلى رأسهم جورج واشنطن وماديسون وهاملتون إقناع مندوبي الدول بآرائهم فوافق هؤلاء بالإجماع على مشروع الدستور الاتحادي في التاسع عشر من سبتمبر 1787.
وفي الأول من جانفي 1789 دخل الدستور حيز التطبيق بعد أن صادقت عليه الدول الثلاث عشرة، ومنذ ذلك الحين والولايات المتحدة تعيش في ظل هذا الدستور الذي يعتبر أول دستور خطي في العصر الحدث.
الفقرة الثانية: المؤسسات السياسية
جاء الدستور الأمريكي لعام 1787 بنظام سياسي أصيل قال عنه “الكسي دو توكوفيل” في كتابه عن “الديمقراطية في أمريكا” (1835) بأنه “يشكل كشفا كبيرا في علم السياسة المعاصر”. وتتجلى الأصالة التي أتى بها الدستور بالمبدأ الاتحادي الذي اعتمد كأساس لبناء الدولة. وبالنموذج الجديد للعلاقة بين السلطات العامة ولاسيما السلطتين التنفيذية والتشريعية والتي أدت لوصف النظام، بالنظام الرئاسي.
وعليه فإننا سنتطرق أولا للحديث عن الأساس الاتحادي للدولة ثم ننتقل لدراسة أهم المؤسسات العامة للنظام، والمتمثلة بالمؤسسة الانتخابية، والأحزاب السياسية، والكونغرس، ورئاسة الجمهورية والسلطة القضائية .
أولا: الأساس الاتحادي للدولة
يقوم النظام السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية على أساس المبدأ الاتحادي (أو الفدرالي) ويتجلى هذا المبدأ في وجود كيانين سياسيين ضمن الدولة. الكيان المركزي الذي يجسد وحدة الشعب والدولة، والكيان الإقليمي الذي تتجلى من خلاله التعددية والاستقلالية النسبية للدول الأعضاء.ولقد كان هذا التجديد الذي ابتدعه الدستور الأمريكي الناتج الطبيعي للنزعة التوفيقية بين الحاجات لخلق دولة واحدة وبين رغبات الدول المستقلة حديثا في الحفاظ على استقلالها وشخصياتها المتميزة، وكانت هذه الرغبة شديدة بشكل خاص لدى الدول الصغيرة في عدد سكانها أو الضعيفة نسبيا من الناحية الاقتصادية وذلك لحشيتها من أن يضعها وضعها الخاص في مرتبة أدنى من باقي الدول.
أ- مميزات النظام الاتحادي الأمريكي: لقد استطاع أنصار وجهة النظر الاتحادية في “الكونغرس التعاهدي” إقناع باقي الأعضاء بأفكارهم نتيجة الطابع الخاص والمميزات المحددة التي أعطوها للفكرة الاتحادية التي نادوا بتطبيقها، ومن أهم هذه المميزات:
– أن الاتحادية الأمريكية لم تلحق أي تغيير في هياكل التنظيم السياسي للدول الأعضاء، وإنما قامت فقط بإيجاد سلطة مركزية عليا فوق السلطات المحلية الموجودة في تلك الدول. إلا أن هذه السلطة المركزية كانت سلطة متكاملة لأنها زودت، خلافا لما كان عليه الحال أثناء المرحلة التعاهدية، بهيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية، لها صلات مباشرة مع المواطنين في كافة الدول الأعضاء.
– أن الاتحادية الأمريكية، اتحادية محدودة السلطات، فالقاعدة العامة التي اعتمدت حين قيام الاتحاد هي أن السلطة المركزية لا تمارس إلا الصلاحيات المحددة لها بنص الدستور. أما ما عدا ذلك فيعتبر من اختصاص الدول الأعضاء.
– أن الاتحادية الأمريكية تقوم على أساس نوع من المساواة بين الدول الأعضاء فلقد أقام الدستور الاتحادي سلطة تشريعية مركزية تتألف من مجلسين مجلس الممثلين الذي يضم نوابا ينتخبهم الشعب مباشرة ضمن إطار كل دولة عضو (ولاية) ويكون عددهم مناسبا لعدد سكان كل منها. ومجلس الشيوخ الذي تتمثل فيه الدول الأعضاء (الولايات) على قدم المساواة، ويكون لكل منها فيه مندوبين اثنين بغض النظر عن مساحتها وقوتها الاقتصادية وعدد سكانها. وقد جسد هذا الحل روح التسوية التي تم التوصيل إليها بين الدول الصغيرة التي كانت تريد أن تمثل في الهيئة التشريعية بعدد من المندوبين مساو لعدد مندوبي الدول الكبيرة، وبين الدول الكبيرة التي كانت تطالب بأن يكون تمثيلها في تلك الهيئة مناسبا لعدد سكانها. وقد انعكست روح التسوية هذه كذلك على صعيد السلطة التنفيذية المركزية حين نص الدستور على انتخاب الرئيس الاتحادي من قبل ناخبين رئاسيين ينتخبون من الشعب، ضمن إطار كل ولاية، ويكون عددهم في كل منها، مساويا لعدد مندوبي هذه الولاية في الكونغرس الاتحادي.
– إن الاتحادية الأمريكية اتسمت حين قيامها بالطابع التعاقدي. فالدولة الاتحادية لم تظهر للوجود إلا بعد مصادقة الدول الأعضاء على الدستور الاتحادي بكل إرادتها وحريتها، كما أن قبول أعضاء جدد في الاتحاد لا يمكن أن يتم إلا بعد موافقة الأعضاء القدامى. ولقد دفع هذا الأمر بعض المؤلفين للقول بأن الدول الأعضاء تستطيع الانسحاب من الاتحاد متى شاءت، وذلك باعتبار أن دخولها فيه تم بموافقتها وإرادتها الحرة. إلا أن هذه الفكرة لم تعد مقبولة عمليا وخاصة بعد الحرب الأهلية التي نشبت عام 1861 بين السلطة المركزية ومن ورائها ولايات الشمال وبين ولايات الجنوب التي أعلنت انفصالها عن الدولة الاتحادية. فبعد أن توجت هذه الحرب بانتصار السلطة المركزية أصبح الطابع الدائم والخالد للاتحاد أمرا لا جدال فيه.
ب- تطور النظام الاتحادي الأمريكي: إذا كان النظام الاتحادي الأمريكي قد أخذ، عند قيامه، طابعا محدودا وتعاقديا، فإن هذا الأمر ما لبث أن تطور سريعا باتجاه إعطاء مزيد من الأهمية والأولوية للدولة الاتحادية والسلطة المركزية، فمنذ قيام الاتحاد، هيمنت على الحياة السياسية الأمريكية قضية أساسية تمثلت بكيفية تحديد العلاقة عمليا وتوزيع الاختصاصات بين السلطة المركزية والدول الأعضاء. ولقد انقسمت الأوساط الأمريكية بين تيارين رئيسيين: تيار اتحادي كان رأسه واشنطن وهاملتون، وكان يدعو لتقوية السلطة المركزية على حساب الدول الأعضاء، وتيار معارض تزعمه جيفيرسون وكان يدافع عن حقوق الدول الأعضاء واختصاصاتها.
ولقد استفاد واشنطن من انتخابه كأول رئيس للولايات المتحدة لتغليب وجهة نظر التيار الأول، فقام وأنصاره بابتداع ما سمي بنظرية “السلطات الضمنية” التي تقول بأن السلطة المركزية تتمتع بالإضافة للاختصاصات التي حددها لها الدستور صراحة، باختصاصات أخرى تنتج عن الأولى وتعتبر ضرورية لكي تتمكن السلطة المركزية من ممارسة اختصاصاتها الدستورية الأصيلة كاملة. وقد استقرت هذه النظرية شيئا فشيئا ودعمتها المحكمة العليا بالتأييد، الأمر الذي مكن الكونغرس الاتحادي فيما بعد من اتخاذ ما يسمى “بالقوانين الضرورية لتأمين وضع سلطات الحكومة موضع التطبيق”.
ولقد لوحظ أن اختصاصات السلطة المركزية، بصورة عامة واختصاصات الرئيس الاتحادي، بصفة خاصة كانت تزداد قوة واتساعا أثناء فترات الأزمات الخطيرة التي واجهتها البلاد على الصعيدين الداخلي والخارجي والتي كان من أبرزها اندلاع الحرب الأهلية عم 1861 ومشاركة الولايات المتحدة في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومضاعفات الأزمة الاقتصادية العالمية بعتم 1929 .
1- الحرب الأهلية: توجت الحرب الأهلية التي اندلعت في الولايات المتحدة عام 1861 سلسلة طويلة من الخلافات والأزمات بين عدد من القضايا الاقتصادية والاجتماعية الهامة والتي كان من أبرزها السياسة الجمركية للحكومة المركزية، والموقف من نظام الرق. فلقد كانت الحكومة تميل لتبني سياسة اقتصادية قائمة على الحماية الجمركية وذلك خدمة منها لمصالح الولايات الشمالية التي كانت تشهد حركة تصنيع واسعة ومزدهرة، وكان يهمها أن تفرض الحكومة رسوما جمركية عالية على السلع المستوردة من الخارج وذلك لرفع أسعارها والحيلولة دون منافستها للمصنوعات الوطنية. إلا أن الولايات الجنوبية التي كانت بالأساس ولايات زراعية كانت غير معينة بمثل هذه السياسة الجمركية بل أنها كانت تشكو منها لأنها تؤدي لزيادة أسعار البضائع المستوردة. وكانت هذه الولايات تهتم بالمقابل بالمحافظة على نظام الرقيق الذي يوفر لها اليد العاملة الرخيصة واللازمة لاستمرار ازدهار زراعة القطن والتبغ فيها، في حين أن الولايات الشمالية الصناعية كانت لا تحتاج كثيرا لمثل هذه اليد العاملة، الأمر الذي دفعها لتبني وجهة نظر متحررة إزاء قضية الرقيق، فكانت تدعو لاستنكار هذا النظام ولمعارضة استمراره. ووسط حمأة الصرع الحاد بين الآراء المؤيدة والمعارضة لاستمرار نظام الرقيق تأسس في البلاد عام 1854، الحزب الجمهوري الذي تبنى برنامجا سياسيا معارضا لاستمرار هذا النظام. وقد تمكن هذا الحزب من تأمين النصر لمرشحه للرئاسة، ابراهام لنكولن، في انتخابات عام 1860، وما أن اعتلى لنكولن منصب رئاسة الجمهورية حتى بدا أن انفصال الولايات الجنوبية أصبح أمرا لا مفر منه. ولقد سارعت ولاية كارولينا الجنوبية لإعلان انفصالها عن الاتحاد، وما لبثت أن تبعتها في ذلك ست ولايات جنوبية أخرى، قامت بالإعلان عن قيام اتحاد تعاهدي (كونفدرالي) يضمها جميعا.
وعلى إثر قرار الانفصال، اندلعت الحرب بين السلطة الاتحادية والولايات الشمالية من جهة وبين الولايات الجنوبية من جهة ثانية. واستمرت الحرب حتى عام 1865 حيث انتهت بانتصار الشمال على الجنوب.
ولقد أدت الحرب الأهلية، على صعيد تطور النظام الاتحادي، إلى عدة نتائج من أهمها:
أولا: أنها وجهت ضربة قاضية للأساس التعاقدي للدولة الاتحادية، ولفكرة حق الدول الأعضاء بالانفصال وباستعادة استقلالها التام، وأكدت بالمقابل مبدأ ديمومة وخلود الاتحاد.
ثانيا: أنها دعمت بشكل قوي اختصاصات السلطة المركزية على حساب الدول الأعضاء، بصفة عامة، واختصاصات الرئيس على حساب الكونغرس الاتحادي بصفة خاصة. فلقد استأثر الرئيس لنكولن، في ظل ظروف الحرب، بسلطات واسعة كان اختصاص البت فيها يعود في الأوقات العادية أما للدول الأعضاء وأما للكونغرس الاتحادي. وكان من أبرز هذه السلطات، تلك المتعلقة بتنظيم البلاد في زمن الحرب، وبتنظيم القطاع المصرفي. وقد برز أنصار الرئيس تصرفاته من خلال نظرية أطلقوا عليها اسم نظرية أوقات الأزمة أو الطوارئ (Emergency) وبموجب هذه النظرية صار يحق للرئيس أن يتخذ في أوقات الأزمات والظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، تدابير عاجلة تستدعيها الضرورة وإن لم تكن بالأصل عائدة لاختصاصه. إلا أن واجبات الرئيس الدستورية ومهامه المقدسة في الحفاظ على كيان الدولة ووحدتها تتطلب منه القيام بها.
2- الأزمات اللاحقة: أدت الأحداث السياسية والاقتصادية الخطيرة التي عرفتها الولايات المتحدة بسبب مشاركتها في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وعلى إثر تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 1929، إلى فرض تدعيم وتوسيع اختصاصات السلطة الاتحادية ولاسيما اختصاصات الرئيس و ذلك على حساب الدول الأعضاء والكونغرس. فخلال إحداث الحربين العالميتين استفاد الرئيس الأمريكي إلى أبعد حد ممكن من نظرية أوقات الأزمة، واتخذ تدابير واسعة جدا لتعبئة الأزمة وتوفير الشروط اللازمة للنصر. وقد شملت هذه التدابير مختلف المجالات ولاسيما العسكرية والاقتصادية والمالية منها. وكانت السلطات المحلية في الدول الأعضاء وكذلك السلطة التشريعية الاتحادية تجد نفسها مضطرة، بسبب الظروف الخاصة التي تمر بها البلاد، للموافقة على هذه التدابير وعدم معارضتها. وعندما تولى فرانكلين روزفلت في عام 1932 رئاسة الولايات المتحدة . ووجد أن البلاد مازالت تتخبط بمضاعفات الأزمة الاقتصادية التي عمت العالم منذ عام 1929. أعلن فور انتخابه عن برنامج للإصلاح الاقتصادي، عرف بسياسة النيوديل، وعكس هذا البرنامج إرادة الرئيس في ضرورة تدخل السلطة المركزية بشكل متزايد في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وذلك خلافا لتقاليد الليبرالية الاقتصادية التي كانت تعني امتناع الدولة عن التدخل في هذه الميادين وترك أمرها بشكل تام للمبادرة الفردية.
وقد طلب الرئيس إلى الكونغرس الاتحادي إقرار عدد من القوانين الهامة المتعلقة بالسياسة النقدية والمصرفية والتجارية والسعرية والاجتماعية الخاصة بتشريعات العمل. وكانت هذه القوانين تستهدف تأكيد حق السلطة المركزية في تنظيم ومراقبة النشاط الاقتصادي على هدي المصلحة العامة للبلاد.
ورغم أن بعض الأوساط الاقتصادية الهامة، بالإضافة إلى المحكمة الاتحادية العليا، وقاومت اتجاهات الرئيس للتدخل في الحياة الاقتصادية، فإن نهجه ترسيخ بشكل قاطع على إثر الانتصار الشعبي الكاسح الذي أحرزه أثناء انتخابات الرئاسة التالية التي جرت في عام 1936. ومنذ ذلك الحين توطدت سلطة الحكومة المركزية بشكل واضح في الحياة السياسية الأمريكية. وأصبح هذا الواقع الجديد أمرا لا بد منه وخاصة على إثر الحرب العالمية الثانية التي تميزت نهايتها بتغيير جذري في سياسة الولايات المتحدة الخارجية وذلك فيما يتعلق الانفتاح على قضايا العالم. والتصدي لقيادة المعسكر الرأسمالي على المستوى العالمي.
إلا أن تطور النظام الاتحادي باتجاه تقوية السلطة المركزية وتوسيع اختصاصاتها يجب أن لا يدعو للاعتقاد بأن الحياة السياسية المحلية في الدول الأعضاء في طريقها إلى الاضمحلال. فالواقع أن المؤسسات السياسية في هذه الدول مازالت تلعب دورا هاما وحساسا في الحياة المواطن ذلك في مختلف المجالات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
والجدير بالملاحظة أن هذا التطور جرى بدون إدخال أي تعديل رسمي على دستور عام 1787، وإنما هو تم من خلال إعطاء النصوص الدستورية القائمة تفسيرات ومعان واسعة من شأنها تبرير زيادة دور السلطة الاتحادية، والرئيس بصفة خاصة في حياة البلاد العامة.
ثانيا: المؤسسة الانتخابية
لم ينص الدستور الأمريكي لعام 1787 على إدخال موضوع تحديد نظام الانتخاب، ضمن اختصاصات السلطة الاتحادية. لهذا اعتبر هذا الموضوع عائدا لاختصاصات السلطات التشريعية في الدول الأعضاء (الولايات) لهذا نجد أن القواعد والتنظيمات المتعلقة بنظام والشروط المتصلة بممارسة حق الاقتراع تختلف من ولاية لأخرى.
وقد كانت هذه الاختلافات واسعة إلى حد كبير خلال السنوات الأولى من عمر الدولة الاتحادية، إلا أنها لم تلبث أن تضاءلت كثيرا نتيجة التعديلات العديدة التي أدخلت على الدستور ولاسيما على إثر انتهاء الحرب الأهلية التي كان من أبرز نتائجها إلغاء نظام الرقيق في كافة أنحاء الولايات المتحدة و إقرار المساواة في الحقوق بين السود والبيض.(وهذا ما نص عليه التعديل الثالث عشر الصادر في 1865). وفي عام 1869 صدر التعديل الخامس عشر الذي حرم منع أي مواطن أمريكي من ممارسة حق الانتخاب بسبب العرق أو اللون أو حالة العبودية السابقة، ثم صدر في عام 1920 التعديل التاسع عشر الذي منح المرأة حق الانتخاب. وفي عام 1962 صدر التعديل 24 الذي منع إخضاع حق الانتخاب للمناصب الاتحادية لدفع أي ضريبة أو رسم اقتراع.
ولكن رغم هذا التدخل من طرف السلطة الاتحادية المركزية، فإن النظام الانتخابي في كثير من الولايات ما زال مقيدا.
وبشكل عام فإن حق الانتخاب متوفر للمواطنين البالغين من العمر 18 سنة، والغير المحكومين بعقوبات حبسية، على أن يثبتوا أنهم مقيمون في الولاية فترات تتراوح من 6 أشهر إلى سنتين. وتشترط نسبة هامة من الولايات على الناخبين أن يعرفوا القراءة والكتابة. وهناك بعض الولايات التي تشترط أن يكون بإمكان الناخبين تفسير الدستور.
ومن جهة أخرى تتمتع كل ولاية بحق تحديد الشروط اللازمة للترشيح لمختلف المناصب العليا المحلية، كما تتمتع بحرية تحديد أسلوب الاقتراع. لكنه يلاحظ بهذا الصدد أن الأغلبية الساحقة من الولايات تعتمد أسلوب الاقتراع الفردي الأكثري ذي الدورة الواحدة.
وتلعب المؤسسة الانتخابية في الولايات دورا هاما جدا في الحياة العامة، لأن الانتخابات فيها لا تتناول فقط المناصب السياسية في الهيئة التشريعية والتنفيذية، وإنما هي أيضا تعتبر الوسيلة المعتمدة للتعيين في عدد لا بأس به من المناصب القضائية والإدارية.
وتتميز المؤسسة الانتخابية في بعض الولايات الأمريكية بأسلوب مبتكر يتجلى فيما يسمى بالانتخابات الابتدائية. وهذا الأسلوب يسمح للناخب، فبل أن يقوم بالاختيار النهائي، إجراء نوع من المفاضلة بين جميع المرشحين من الحزب الديمقراطي أو جميع المرشحين من الحزب الجمهوري، لمعرفة أي مرشح منهم أوفر حظا في الفوز بالمنصب.
ثالثا: الأحزاب السياسية
تعيش الولايات المتحدة الأمريكية عمليا في ظل الثنائية الحزبية. والحزبان الرئيسيان هما الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي.
أ- نشأة الأحزاب الأمريكية وتطورها: نشأت الأحزاب السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية بعد سنوات قليلة من قيام الاتحاد وذلك بسبب انقسام الرأي العام  حول بعض القضايا السياسية الهامة، والتي كان من أبرزها الموقف من العلاقة بين السلطة المركزية والدول الأعضاء. وقد ظهر آنذاك في البلاد تياران رئيسيان: تيار اتحادي متطرف ترأسه واشنطن وهاملتون وحظي بدعم الأوساط الصناعية الناشئة والقوية خاصة في الولايات الشمالية، وتيار اتحادي معتدل ترأسه جيفيرسون وكان يدعو لحماية حقوق الدول الأعضاء والأفراد في وجه السلطة المركزية، وقد حظي بتأييد الأوساط الزراعية المتمركزة خاصة في الولايات الجنوبية الضعيفة.
وقد بادر جيفيرسون بعد سنوات قليلة من قيام الاتحاد بتأسيس الحزب المعروف حاليا بالحزب الديمقراطي. وقد تأسس الحزب الجمهوري لاحقا على يد ابراهام لنكولن الذي رفع راية النضال ضد نظام الرقيق ودعا لتقوية السلطة المركزية.
وقد استمرت مواقف الحزبين دون أي تغيير إلى غاية فوز المرشح الديمقراطي فرانكلين روزفلت بمنصب رئاسة الجمهورية سنة 1932 على إثر اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمة. فقد أدت هذه الأزمة إلى إحداث تغيير جذري في مواقع الحزبين الكبيرين حيث تحول الحزب الديمقراطي من حزب مدافع عن حقوق الدول الأعضاء تجاه السلطة المركزية إلى حزب مدافع عن حقوق الأفراد ولاسيما أولئك الذين سحقوا منهم تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، وكان لا بد من التدخل بقوة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية من أجل إنصافهم. وهكذا أصبح الحزب الديمقراطي الجهة التي تدعو لتقوية سلطة الدولة الاتحادية، وأدى ذلك إلى اقترابه أكثر من صفوف العمال والمسحوقين وأبناء الأقلية السوداء الذين تضرروا أكثر من غيرهم من الأزمة. أما الحزب الجمهوري، فقد تحول، منذ تولي روزفلت لمنصب الرئاسة إلى معارض قوي لسياسة تدخل السلطة الاتحادية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية لأنه كان يرى فيها تهديدا لمصالح المنتجين وأرباب العمل الصناعيين الذين كانوا مصدر قوته.
ب- مميزات النظام الحزبي: تتميز الأحزاب الأمريكية بعدة سمات خاصة من أهمها:
1- إنها أحزاب أطر قوية التنظيم، وليست أحزابا جماهيرية، فهي تقوم على أساس عدد من الأطر الفعالة والمتفرغة للعمل الحزبي، وهي التي تقوم بالاتصال بالمواطنين لكسب تأييدهم في الانتخابات.
2- إنها أحزاب شديدة اللامركزية. وهنا نلاحظ أن التنظيمات المحلية ضمن إطار كل ولاية قوية جدا ومستقلة. وعندما ينعقد المؤتمر الوطني فإنه يضم ممثلين منتخبين يتمتعون بنفس القدر من القوة. ولا تظهر وحدة الحزب على الصعيد الفدرالي إلا عند إجراء الانتخابات الفدرالية وخاصة منها الانتخابات الرئاسية.
3- إن الأحزاب الأمريكية ليست أحزابا إيديولوجية بكل معنى الكلمة، لأن الفوارق المذهبية بين الحزبين الكبيرين تبدو ضئيلة.
ج- الدور السياسي للأحزاب الأمريكية: تلعب الأحزاب الأمريكية دورا هاما في الحياة السياسية، ولاسيما على الصعيد الانتخابي. فعند إجراء الانتخابات المختلفة، علة المستويين المحلي أو الفدرالي تنشط القيادات الحزبية بشكل ملحوظ للاتصال بالمواطنين، مما يستلزم نفقات مالية ضخمة لا تستطيع تحملها الأحزاب الصغرى أو المرشحين المستقلين.
رابعا: الكونغرس
يسمى البرلمان في الولايات المتحدة “الكونغرس”وهو الذي يتولى السلطة التشريعية بالإضافة لبعض الصلاحيات الأخرى.
أ- تنظيم الكونغرس: يتألف الكونغرس من مجلسين: مجلس النواب ومجلس الشيوخ.
1- مجلس النواب: وهو يمثل الشعب الأمريكي باعتباره كيانا واحدا. وينتخب من طرفه على أساس ممثل واحد لكل 400 ألف ناخب تقريبا. وينتخب النواب لمدة سنتين بالاقتراع الفردي الأكثري ذي الدورة الواحدة.
2- مجلس الشيوخ: وهو يمثل الولايات على أساس مندوبين اثنين لكل ولاية بغض النظر عن عدد السكان. وينتخبون لمدة ست سنوات، ويجرى تجديد ثلث أعضاء المجلس كل سنتين.
هذا ويعتبر نائب رئيس الجمهورية في الولايات المتحدة، حكما رئيسا لمجلس الشيوخ.
ب- صلاحيات الكونغرس: يتولى الكونغرس الأمريكي أساسا صلاحيات السلطة التشريعية، إلا أنه يقوم الى جانب ذلك ببعض الصلاحيات الأخرى.
1- الصلاحيات التشريعية: يتمتع مجلسي الكونغرس على قدم المساواة بممارسة سلطة التشريع، وذلك باستثناء التشريع  في المسائل المالية حيث يعود حق المبادرة فيها لمجلس الممثلين فقط.
وقد عدد الدستور الاتحادي الصلاحيات التشريعية للكونغرس بطريقة الحصر. وشملت هذه الصلاحيات حق فرض الضرائب وعقد القروض وصك النقود والمعايير والأوزان والمقاييس وتنظيم التجارة الداخلية والخارجية وتحديد شروط الجنسية واكتسابها، وتنظيم قضايا الدفاع الوطني ومسائل الحرب والسلم وتحديد الشروط لقبول أعضاء جدد في الاتحاد التشريع في قضايا الإفلاس والملكية الأدبية والفنية وإقامة مكاتب البريد وطرق المواصلات.
إلا أن الكونغرس استطاع بفضل الاجتهاد والضرورة العملية أن يوسع من نطاق صلاحياته التشريعية لتشمل معظم النواحي الاقتصادية والمالية الدفاعية. وقد تم له ذلك نظرية الصلاحيات الضمنية التي سبق الإشارة إليها والتي استفاد منها الكونغرس لتوسيع صلاحياته على حساب الدول الأعضاء.
ولإقرار أي مشروع قانون من قبل الكونغرس يجب التصويت عليه بالموافقة في كل المجلسين. وإذا حدث خلاف بينهما حول مشروع ما فتشكل لجنة توفيق من أعضاء من المجلسين لوضع نص موحد لمشروع القانون يوافق علية المجلسين. وإذا لم تتوصل اللجنة إلى اتفاق يتم الاستغناء عن المشروع.
ويحال مشروع القانون بعد التصويت عليه بالموافقة من طرف مجلسي الكونغرس إلى رئيس الجمهورية لتوقيعه ونشره في الجريدة الرسمية لكي يصبح قابلا للتنفيذ.
2- الصلاحيات الأخرى: يتمتع الكونغرس الأمريكي بالإضافة لصلاحيات التشريع باختصاصات أخرى من أهمها:
ممارسة صلاحيات السلطة التأسيسية: فالكونغرس يتمتع بحق اتخاذ المبادرة لتعديل الدستور. وهو الذي يقوم بإقرار مشاريع التعديل بأغلبية ثلثي الأعضاء. إلا أن التعديل لا يصبح قابلا للتطبيق وتجدر الإشارة إلا بعد مصادقة السلطات المختصة في ثلاثة أرباع الدول الأعضاء عليه وتجدر الإشارة إلى أن الدول الأعضاء تستطيع أن تتخذ أيضا من جهتها المبادرة لتعديل الدستور الاتحادي. دراسته وإقراره إلا بعد موافقة السلطات المختصة في ثلثي الدول الأعضاء عليه.
ممارسة صلاحيات انتخابية استثنائية. فعندما لا يحصل المرشحون لانتخابات رئاسة الجمهورية على الأغلبية المطلقة لأصوات الناخبين الرئاسيين، يقوم مجلس الممثلين بانتخاب رئيس الجمهورية ونائبه. لا أنه نتيجة لنظام الثنائية الحزبية فإن هذه الحالة لم تحصل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية إلا نادرا.
يحق للكونغرس مراقبة سير العمل في المصالح الاتحادية العامة. كما يتمتع مجلس الشيوخ بسلطات هامة فيما يتعلق بضرورة موافقته على تعيين كتاب الدولة و بعض كبار الموظفين و خاصة في السلك الدبلوماسي.
ويتمتع مجلس الشيوخ، بمفرده أيضا، بصلاحية تصديق على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي يوقعها رئيس الجمهورية باسمك الولايات المتحدة. ولا تعتبر هذه الاتفاقيات نافذة إلا بعد موافقة مجلس الشيوخ عليها بأغلبية الثلثين.
خامسا: رئاسة الجمهورية
يتولى رئيس الجمهورية في الولايات المتحدة رئاسة السلطة التنفيذية، ويعاونه في تنفيذ مهام هذه السلطة كتاب الدولة (الوزراء).
أ- انتخاب الرئيس: ينتخب رئيس الولايات المتحدة ونائبه من قبل الشعب وفقا لأسلوب معقد يشتمل على مرحلتين تضم كل منهما خطوتين اثنتين.
1- المرحلة الأولى: وهي مرحلة لم ينص عليها الدستور، وإنما استقر عليها العرف السياسي نتيجة الدور الحاسم الذي يقوم به الحزبان الكبيران في عملية الانتخاب. وتتضمن هذه المرحلة التي يجري خلالها انتقاء كل حزب لمرشحه لمنصب الرئاسة، خطوتين : تتمل الأولى بقيام الناخبين المؤيدين لكل حزب، ضمن لإطار كل ولاية، بانتخاب مندوبي الولاية للمؤتمر الوطني للحزب وبإعلان تأييدهم، في نفس الوقت، للمرشح الذي يفضلون أن يكون مرشح الحزب لمنصب الرئاسة، من بين المرشحين العديدين المتنافسين لذلك، وتجري هذه الخطوة فيما بين شهري مارس ويونيو من العام الذي تتم فيه الانتخابات ،وذلك وفق أساليب متنوعة جدا، من أهمها أسلوب الجمعيات الابتدائية التي سبقت الإشارة إليها، أو أسلوب قيام اللجان الحزبية المحلية أو الناخبين مباشرة بانتخاب مندوبي الولاية للمؤتمر الوطني الحزب. أما الخطوة الثانية فتتمثل باجتماع المؤتمر الوطني للحزب خلال شهر غشت حيث يقوم مندوبو الولايات، مهما كانت طريقة اختيارهم، بانتقاء مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية. ويتمتع هؤلاء المندوبون عمليا بحرية التصويت لصالح أي مرشح، وخاصة بعد إجراء الدورة الأولى للاقتراع، وذلك بغض النظر عن آراءهم ومواقفهم المؤيدة لهذا المرشح أو ذاك، والتي سبق أن أعلنوها أو التزموا بها أمام الناخبين الحزبيين خلال الخطوة الأولى.
2- المرحلة الثانية: وهي المرحلة التي نص عليها الدستور والتي يتم فيها انتخاب الشعب لأحد المرشحين وذلك على خطوتين، ففي الخطوة الأولى التي تجري في أول يوم ثلاثاء من شهر نوفمبر، يقوم المواطنون المتمتعون بحق الانتخاب في كل ولاية بانتخاب ناخبين رئاسيين يبلغ عددهم عدد الممثلين والشيوخ الذين يمثلون الولاية في الكونغرس الاتحادي. ويتم الانتخاب بصفة عامة، على مستوى الولاية، وفق أسلوب الاقتراع الأكثر ذي الدورة الواحدة وعلى أساس اللائحة المغلقة، بحيث تتنافس أمام المواطنين، في كل ولاية، لائحتان إحداهما تمثل الحزب الجمهوري والثانية تمثل الحزب الديمقراطي ويفوز بالانتخاب جميع أعضاء اللائحة التي حصلت على أكبر عدد من الأصوات المعبر عنها.
أما الخطوة الثانية فتتم خلال شهر ديسمبر حيث يقوم الناخبون الرئيسيون في جميع الولايات بتوجيه رسائل إلى رئيس مجلس الشيوخ يعلنون فيها اسم المرشح لمنصب الرئاسة الذي يصوتون لصالحه، ويقوم رئيس مجلس الشيوخ بإعلان نتيجة هذا التصويت بمراسلة خلال شهر يناير بحيث يباشر الرئيس مهامه  الدستورية في العشرين منه. بعد أن يدلي بالقسم الدستوري أمام رئيس المحكمة العليا.
وقد فقدت هذه الخطوة الثانية أهميتها العملية نظرا لأن انتخابات نوفمبر الأولى أصبحت تعتبر حاسمة بالنسبة لمصير ونتيجة انتخابات الرئاسة. وذلك لأن هيمنة نظام الثنائية الحزبية على العملية الانتخابية جعلت الناخبين الرئاسيين التابعين لكل من الحزبين الكبيرين ملزمين واقعيا بالتصويت فيما بعد لصالح مرشح الحزب، ولهذا صار من الممكن معرفة نتيجة الانتخابات النهائية فور ظهور نتائج الخطوة الأولى، الأمر الذي أذى لاعتبار أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أصبح ينتخب عمليا مباشرة من الشعب.
والجدير بالذكر أن مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية يختار بنفسه شخصا آخرا ليكون نائبا له في حال فوزه بالانتخابات. ويخوض الاثنان المعركة الانتخابية بصورة تضامنية بحيث يؤدي فوز المرشحين لفوز نائبه معه حتما.
ومدة الولاية الدستورية لرئيس الجمهورية أربع سنوات قابلة للتجديد فورا مرة واحدة فقط.
وقد حدد الدستور الاتحادي الشروط اللازمة للترشيح، فنص على أن المرشح لمنصب رئاسة الجمهورية بجب أن يكون مواطنا أمريكا بالولادة ومقيما في الولايات المتحدة منذ 14 سنة على الأقل، وأن يزيد عمره على 35 سنة.
وفي حال شغور منصب الرئيسة، لوفاة أو استقالة أو لأي سبب آخر، فإن نائب الرئيس يتولى بطريقة آلية المنصب، ويمارس مهام الرئيس طوال المدة التي كانت باقية أمامه لانتهاء مدة ولايته. وإذا كانت هذه المدة تتجاوز العامين، فإن الرئيس الجديد لا يحق له أن ينتخب حين انتهائها لمنصب رئاسة الجمهورية إلا مرة واحدة فقط.
ب- صلاحيات الرئيس: يعتبر رئيس الولايات المتحدة رئيسا للدولة وللسلطة التنفيذية. وهو يتمتع بسلطات هامة جدا تجعل منه الشخصية المركزية في النظام الأمريكي. ومن أبرز صلاحياته
– تولي مهام السهر على تنفيذ القوانين الاتحادية . ولكي يتمكن الرئيس من القيام بهذه المهمة الرئيسية، فقد أناط الدستور به حق رئاسة السلطتين التنظيميتين والإدارية. فبموجب السلطة الأولى يملك الرئيس صلاحية إصدار أوامر تنفيذية  أو إعلانات من شانها جعل القوانين التشريعية الصادرة عن الكونغرس الاتحادي قابلة للدخول في حيز التطبيق. أما بموجب السلطة الثانية فان الرئيس يراقب سير الإدارات العامة الاتحادية ، ويعين الموظفين الاتحاديين بعد اخذ رأي مجلس الشيوخ وموافقته بالأغلبية العادية ويطبق هذا الأمر عمليا بالنسبة لكبار الموظفين كتاب دولة وسفراء وعدد من رؤساء الإدارات الهامة. أما بالنسبة لصغار الموظفين فان مجلس الشيوخ يفوض عادة للرئيس او عادة لكتاب الدولة صلاحية تعيينهم.
وبصفته رئيسا للسلطتين التنفيذية والإدارية، فان الرئيس يعين بعض كتاب الدولة (الوزراء) لمعاونته في تسيير الشؤون والإدارات الهامة. ويخضع هؤلاء الكتاب بشكل تام لمراقبة الرئيس وتوجيهاته وأرائه، ويعتبرون مسؤولين عن أعمالهم ومواقفهم أمامه فقط. ولهذا فانه بإمكانه أن يقيلهم متى أراد.
– ويقوم الرئيس بصفة خاصة بقيادة السياسة الخارجية للاتحاد . ويساعده في هذه المهمة “كتاب الدولة للخارجية”. وتتضمن هذه الصلاحية حق الرئيس بتوجيه وقيادة المفاوضات الدبلوماسية وتوقيع المعاهدات الدولية وتعيين سفراء وقناصل الولايات المتحدة في الدول الأجنبية، وتلقي أوراق اعتماد السفراء الأجانب في بلاده.
– ويعتبر رئيس الجمهورية  القائد الأعلى للقوات المسلحة. وهو يتولى بهذه الصفة مهمة تحديد السياسة الإستراتيجية العسكرية وما يستتبع ذلك من اتخاذ للقرارات الهامة والخطيرة في مجال إنتاج واستخدام الأسلحة الجديدة، كما يتولى قيادة العمليات الحربية في الخارج، ويقرر اللجوء إلى لاستعمال القوات المسلحة من اجل تطبيق القوانين في الداخل. إلا أن الرئيس لا يتمتع بحق إعلان الحرب رسميا، فهذا الحق يعود لاختصاصات الكونغرس.
– ويتولى الرئيس على الصعيد القضائي بعض الصلاحيات الهامة. ومن أبرزها حقه في تعيين قضاة المحكمة العليا، وفي إصدار العفو الخاص عن الأشخاص الذين صدرت بحقهم أحكام عن المحاكم الاتحادية.
– ويتمتع الرئيس في أوقات الأزمات الكبيرة ولاسيما الحروب، بصلاحيات استثنائية واسعة، إذ يصبح بإمكانه إصدار القرارات الخاصة بحجز الأموال والأشخاص لحاجات الدفاع الوطني، كما انه يستطيع القيام باتخاذ قرارات يعود الأصل في اختصاصها للكونغرس. إلا أنه على الرئيس أن يعرض هذه القرارات، فيما بعد، وعندما تسمح الضر وف بذلك، على الكونغرس قصد المصادقة عليها. والواقع أن الدستور الاتحادي لم ينص على مثل هذه الصلاحيات الاستثنائية ولكن بعض الرؤساء الأمريكيين بادروا لاكتسابها عن طريق الاجتهاد. بعد أن احتجوا لذلك بان واجبهم الأساسي كرؤساء للاتحاد يملي عليهم، في أوقات الأزمة، اتخاذ كافة التدابير التي من شانها حماية وحدة الاتحاد وسلامته.
ج- العلاقات بين الكونغرس والرئيس: يتميز النظام الرئاسي في الولايات المتحدة بقيامه على أساس مبدأ الفصل الجامد بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. ويتحقق هذا المبدأ في الواقع من خلال انبثاق كل منهما مباشرة من الشعب، ومن خلال استقللهما شبه التام في ممارسة اختصاصاتهما الدستورية دون ان يكون للكونغرس الحق في حل الكونغرس، ورغم هذا الفصل المبدئي الجامد فان هناك، في الواقع، بعض وسائل التأثير والتدخل التي يمارسها كل منهما تجاه الأخر.
أولا: وسائل تأثير الرئيس على الكونغرس: يتمتع رئيس الولايات المتحدة بعدة وسائل دستورية هامة يؤثر من خلالها على أعمال الكونغرس. ومن أهم هذه الوسائل :
– حق الاعتراض (الفيتو) على القوانين التي يصوت عليها الكونغرس . فالرئيس ينبغي عليه أن يوقع على القوانين الصادرة على الكونغرس تمهيدا لنشرها ودخولها حيز التنفيذ، إلا انه له الحق بالامتناع عن التوقيع والاعتراض على القانون وإعادته للكونغرس من اجل النظر به مجددا، والتصويت عليه بالموافقة في هذه الحالة ، بأغلبية الثلثين في كل من المجلسين، و تعتبر هذه الوسيلة سلاحا فعالا بيد للرئيس للتأثير على مقررات الكونغرس
– حق توجيه خطاب للكونغرس عن حالة الإتحاد، ويتضمن هذا الخطاب الذي يلقى عادة في مستهل كل عام تقييم الرئيس لأوضاع البلاد وخططه السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمعالجة القضايا المختلفة التي تواجهها. ويلعب هذا الخطاب دورا هاما في توجيه الكونغرس ودفعه لإصدار القوانين المختلفة التي يوحي الرئيس بها أو يشير إلى ضرورة اتخاذها.
– المبادرة بصورة غير مباشرة لاقتراح مشاريع القوانين، وحث الكونغرس على إصدارها وذلك من خلال أصدقائه أو من خلال رؤساء الكتل الحزبية واللجان البرلمانية في المجلسين.
– حق إعداد مشروع الموازنة الاتحادية السنوية، ورفعها للكونغرس بشكل تمني للنضر في إقرارها، ويعتبر مشروع الموازنة وثيقة ي غاية الأهمية لأنها تحدد الإطار العملي للسياسة التي يمكن أن تنهجها السلطة التنفيذية خلال السنة التالية.
ثانيا: وسائل تأثير الكونغرس على الرئيس: ويمارس الكونغرس بالمقابل عدة وسائل للتأثير بها على الرئيس من أهمها:
– استخدام طريقة الاتهام . وهي نوع من الصلاحية القضائية للكونغرس يمارسها تجاه الرئيس وكبار موظفي الدولة. فالكونغرس يستطيع توجيه الاتهام إلى لهؤلاء بالخيانة أو الرشوة أو أية جناية أو جنحة مهمة وضارة بالمصلحة العامة. ويعود لمجلس الشيوخ قط صلاحية محاكمة الرئيس. ويترأس المحاكمة رئيس المحكمة العليا. ولا تبدأ المحاكمة إلا بعد أن يقوم مجلس الشيوخ بأداء يمين بأن تجري المحاكمة وفقا للقانون والعدل والضمير. ولا يصدر قرار تجريمي بحق الرئيس إلا بأغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين ولا يكون  من نتيجة لهذا القرار إلا إقالة الرئيس  وحرمانه من أية وضيفة رسمية في المستقبل .
وقد استخدم الكونغرس هذا الحق خلال عام 1974 بمناسبة الإعلان عن فضيحة ووترغيت، ووجه الاتهام إلى عدد هام من كبار الموظفين المعاونين للرئيس ريتشارد نيكسون بسبب تورطهم بهذه الفضيحة. وكاد يوجه الاتهام للرئيس نيكسون شخصيا لنفس السبب، لولا أن الاتصالات الخفية بين كبار المسؤولين الأمريكيين أدت لوضع حد لهذه القضية عن طريق تقديم الرئيس نيكسون لاستقالته من منصبه في الثامن من غشت 1974.
2- وسيلة الضغط المالية: فالكونغرس من خلال صلاحيته في مجال إقرار قانون الموازنة والقوانين المالية الأخرى يستطيع أن يؤثر إ حد كبير على سياسة الرئيس، لأن هذه السياسة بحاجة لاعتمادات مالية لوضعها موضع التنفيذ. ولهذا فإنه في حال معارضة الكونغرس لسياسية الرئيس فإنه بإمكانه أن يعمل على عرقلة تنفيذها من خلال الامتناع عن الموافقة على الاعتمادات المالية التي يطلبها الرئيس .
سادسا: السلطة القضائية
إن أهمية دراسة السلطة القضائية في الولايات المتحدة تعود للدور الهام الذي تلعبه في الحياة السياسية ولاسيما من خلال مراقبتها لدستور القوانين، والتنظيم القضائي في الولايات المتحدة يقوم على مستويين اثنين: المستوى المحلي حيث يوجد في كل ولاية من الولايات تنظيم قضائي يضم محاكم من كافة المستويات مهمتها الفصل في المنازعات على هدي القوانين المحلية، والمستوى المركزي الذي يوجد على صعيد الدولة الاتحادية.
أ- التنظيم القضائي الاتحادي: يضم التنظيم القضائي على المستوى الاتحادي عدة محاكم ابتدائية وبضع محاكم استئنافية أوكل الدستور للكونغرس صلاحية إحداثها وتنظيمها بقانون . ونص الدستور من جهة أخرى على إنشاء محكمة عليا لتكون على رأس التنظيم القضائي الاتحادي، وتتألف المحكمة العليا من تسعة قضاة يعينهم رئيس الولايات المتحدة لمدى الحياة بعد أخذ موافقة مجلس الشيوخ. ويسمى الرئيس من بين هؤلاء القضاة رئيسا للمحكمة . ويعتبر رئيس المحكمة الشخصية الثانية في الولايات المتحدة . وهو يتقدم في المرتبة الشرفية على نائب رئيس الجمهورية وعلى رئيس مجلس الممثلين. ويتولى رئيس المحكمة العليا رئاسة مجلس الشيوخ عندما يقوم بمحاكمة رئيس الجمهورية، كما أن رئيس الجمهورية يقسم أمامه اليمين الدستورية قبل توليه المهام الرسمية.
ب- صلاحيات المحاكم الاتحادية: تمارس المحاكم الاتحادية الأمريكية دورا قضائيا صرفا ودورا قضائيا له طابع سياسي يتمثل في مراقبة التوازن بين السلطة المركزية والسلطات المحلية في الدول الأعضاء، وكذلك في مراقبة دستورية القوانين.
1- الصلاحيات القضائية: وهي الصلاحيات التقليدية التي تمارسها مختلف المحاكم، وتتجلى في النظر في كل نزاع تطاله القوانين الاتحادية أو تكون الدولة الاتحادية طرفا فيه. كما يمكن لهذه المحاكم أن تنظر في الخلافات الناشئة بين الدول الأعضاء أو بين مواطني مختلف الدول الأعضاء أو بين دولة عضو ومواطن من دولة أخرى. وكذلك في المنازعات التي يكون سفراء أو قناصل الدول الأجنبية طرفا فيها.
2- الصلاحيات القضائية ذات الطابع السياسي: وهي الصلاحيات الأهم التي تتمتع بها المحاكم الاتحادية وتتمثل بمراقبة مدى احترام الدولة الاتحادية والدول الأعضاء لما نص عليه الدستور الاتحادي بشأن توزيع الصلاحيات بين السلطة المركزية والولايات، وكذلك بمراقبة دستورية القوانين.
وهذا الدور الهام الذي تقوم به المحكمة العليا لم ينص الدستور الاتحادي عليه أساسا. ولكنه استخرج بفضل اجتهاد رئيس المحكمة العليا القاضي مارشال “Marshall ” في عام 1803. وانطلاقا من هذا الاجتهاد ظهرت في علم القانون الدستوري النظرية المعروفة بمراقبة دستورية القوانين. حيث يكون على المحكمة مراقبة ما إذا كانت القوانين موافقة للدستور نصا وروحا، أو مخالفة له.
ويمكن لمسألة المراقبة الدستورية للقوانين أن تطرح في الولايات المتحدة على ثلاثة مستويات.
في حال مخالفة السلطات التشريعية أو الإدارية في الدول الأعضاء لدساتير هذه الدول.
في حال مخالفة سلطات الدول الأعضاء هذه للدستور الاتحادي.
في حال مخالفة سلطات الدولة الاتحادية للدستور الاتحادي.
ففي كل نزاع يعرض على محكمة يكون على القاضي أن يتحقق مما إذا كان القانون القابل للتطبيق غير مخالف للدستور، ففي حال مخالفة القانون العادي للدستور الذي يعتبر القانون الأسمى في البلاد، يكون على القاضي أنم يحترم القانون الأسمى ويقضي بعدم تطبيق القانون العادي.
وعلى أساس فكرة التنازع بين القوانين استند القاضي مارشال لدعم اجتهاده الخاص باختصاص المحكمة العليا، و كافة الحاكم في الولايات المتحدة، في ممارسة الوقاية الدستورية على القوانين.
وتتبع المحاكم الأمريكية في ممارستها للرقابة الدستورية على القوانين الطريقة المعروفة  ُبالدفعَ ُ وتقوم هذه الطريقة على طلب يقدمه أحد المتقاضين و يطلب فيه من المحكمة عدم تطبيق القانون الذي يحتج به خصمه ، لأنه مخالف للدستور. وبهذه الطريقة يتوصل المتقاضي إلى دفع القانون أي إلى منع تطبيقه. ومن شأن إصدار المحكمة العليا لحكم يقضي بعدم دستورية أحد القوانين أن يؤدي إلى عدم تنفيذه. ويعتبر  حكم المحكمة هذا ملزما في المستقبل لجميع المحاكم الأخرى الأدنى درجة في الولايات المتحدة.
ج- الدور السياسي للمحكمة العليا: تلعب المحكمة العليا في الولايات المتحدة دورا بارزا في الحياة السياسية وذلك من خلال اجتهاداتها التفسيرية لنص وروح الدستور الأمريكي. فالقضاة الأمريكيون، كغيرهم من الأفراد ينطلقون في أفكارهم من مواقع اقتصادية واجتماعية وفلسفية خاصة، ولابد لهذه المواقع من أن تؤثر على مواقفهم وأحكامهم. ولهذا نرى أن المحكمة العليا لعبت في تاريخ الولايات المتحدة دورا محافظا أحيانا وتقديمها أحيانا أخرى وذلك حسب شخصية القضاة في كل حين، ونزعاتهم لتفسير الدستور بنصه أو بروحه في هذا الاتجاه أو ذاك.
وهذا الأمر الذي جعل من المحكمة العليا حكما في الحياة الدستورية وبالتالي في الحياة السياسية دفع بعض الفقهاء لوصف النظام الأمريكي بأنه نظام “حكم القضاة”.
وقد لوحظ أن الدور السياسي للمحكمة العليا مر بالنسبة لاتجاهاتها المحافظة أو التحررية بمرحلتين رئيسيتين وذلك بعد أن تمكنت في الفترة الممتدة من عام 1803 إلى عام 1835 من تكريس حقها في مراقبة الحياة الدستورية.
ولقد امتدت المرحلة الأولى حتى عام 1937 وتميزت باتجاهها الرجعي حين انحازت المحكمة الرقيق في البلاد. وأكدت المحكمة في نهاية هذه الفترة اتجاهها المحافظ من خلال مقاومتها للتدابير التي اتخذها الرئيس روزفلت في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية. وعند إعادة انتخاب روزفلت في عام 1936 بأغلبية ساحقة تحول اتجاه المحكمة نتيجة استقالة اثنان من القضاة المعارضين له. وقد مهد هذا لمرحلة ما بعد 1945 حيث تبنت المحكمة قضية المساواة العنصرية ودفاعها عن الحريات العامة.

النظام السياسي الفرنسي

عرفت فرنسا خلال تطورها التاريخي كل أنواع الأنظمة السياسية. فبعد أن كانت تعيش قبل قيام الثورة الكبرى عام 1789 في ظل النظام الملكي المطلق أخذت تتعاقب عليها بعد الثورة كافة أنواع الحكم الأخرى تقريبا. فمن الملكية الدستورية إلى الجمهورية البرلمانية إلى الإمبراطورية. وهكذا إلى أن استقر فيها النظام البرلماني منذ 1875. ولكن هذا النظام الذي استمر في فرنسا منذ ذلك الحين وحتى عام 1958 بداً يشهد تحولات هامة غيرت إلى حد كبير من طبيعته بحيث أن النظام السياسي في فرنسا حاليا لم يعد ينطبق عليه تماما وصف النظام البرلماني وذلك بعد أن دخلت عليه بعض مميزات النظام الرئاسي. ولهذا يمكن القول أن النظام السياسي الحالي في فرنسا هو نظام مختلط فيه بعض خصائص كل من النظامين البرلماني والسياسي.
وسنتعرض بشكل موجز في فقرة أولى للتطور التاريخي للنظام السياسي الفرنسي ثم سندرس في فقرة ثانية المؤسسات السياسية للنظام الحالي.
الفقرة الأولى: التطور التاريخي للنظام السياسي في فرنسا
تعتبر ثورة 1789 نقطة الانطلاق للتاريخ الحديث لفرنسا. فلقد قامت هذه الثورة لتحل نظاما اقتصاديا واجتماعيا وحقوقيا جديدا محل النظام القديم الذي ظل سائدا في البلاد طوال عشرة قرون.
وطوال تلك المدة كانت فرنسا تعيش في ظل حكم ملكي مطلق حيث كان الملك يركز في يده كل السلطات ويمارسها إلى حد كبير بدون حدود عملية ودستورية. وكان الملك يستند في حكمه المطلق على مبدأ الشرعية الملكية الو راثية وعلى الحق الإلهي بالحكم.
أما المجتمع الفرنسي خلال تلك الفترة فكان مقسما من الوجهة القانونية إلى ثلاث طبقات: طبقة رجال الدين وطبقة النبلاء وطبقة عامة الشعب.
وكان لكل طبقة من هذه الطبقات الثلاث نظام قانوني خاص. وقد خص هذا النظام القانوني رجال الدين والنبلاء بسلسلة من الامتيازات المادية والمعنوية بينما حرمت طبقة عامة الشعب من كافة الامتيازات. وقد شكل الحرمان احد الأسباب الرئيسية لاندلاع الثورة. فالبرجوازية التي كانت تعتبر قانونيا من ضمن فئات طبقة عامة الشعب وجدت، أن النظام القانوني القائم يشكل حاجزا يعرقل حركة صعودها وتقدمها على مسرح الأحداث السياسية بعد أن ازداد وزنها ودورها على الصعيد الاقتصادي.
ونتيجة لذلك التناقض بين الوضع الاقتصادي البارز والمتقدم للطبقة البرجوازية وبين النظرة الاجتماعية والسياسية والقانونية المتخلفة لها قامت ثورة 1789 لتحل نظاما جديدا منسجما بدل النظام القديم الذي استفحلت تناقضا ته.
إلا أن عمق التغيرات الاجتماعية والسياسية والقانونية التي أرادت ثورة 1789 القيام بها أدت إلى إحداث هزة عميقة في ضمير الشعب الفرنسي الذي اعتاد طوال القرون الماضية على الإيمان بقيم النظام القديم المتمثلة بالشرعية الملكية وبالحق الإلهي بالحكم. ولم يستطع الشعب بمجموعه أن يستوعب القيم الثورية الجديدة القائمة على مبدأ الشرعية المستندة إلى السيادة القومية التي تعبر أن الأمة هي المصدر لكل السلطات.
وقد انقسم الشعب الفرنسي منذ قيام الثورة انقساما حادا بين مؤيد لنظام القيم القديم ومناصر لنظام القيم الجديد. وحدث من جراء هذا الانقسام الحاد أن عاشت فرنسا تاريخا مثيرا متميزا بعدم الاستقرار السياسي. فخلال الفترة الممتدة من 1789 إلى 1875 تتالى على فرنسا 15 نظاما سياسيا وحدثت فيها 4 ثورات وانقلابين عسكريين.
وخلال هذه الفترة مرت على فرنسا دورتان دستوريتان تعاقبت في كل منها ثلاث مراحل: مرحلة الملكية المقيدة فمرحلة الجمهورية فمرحلة الدكتاتورية الإمبراطورية.
وبدءا من عام 1875 أصبح بالإمكان التحدث عن نوع من الاستقرار الدستوري حيث أخذت البلاد تشهد نوعا من الاتفاق بين غالبية أفراد الشعب حول أًسس السلطة والنظام السياسي. وقد تجسد هذا الاتفاق بالقبول العام بمبدأ السيادة القومية والنظام الجمهوري البرلماني.
أولا: الدورة الدستورية الأولى( 1715 _1789)
مرت فرنسا خلال هذه الدورة بثلاث مراحل: مرحلة الملكية المقيدة (1789_1792) ومرحلة الجمهورية الأولى (1792 – 1799) ومرحلة الدكتاتورية الإمبراطورية الأولى (1799_1815).
مرحلة الملكية المقيدة (1789_1792)
مرحلة الجمهورية الأولى (1792 – 1799)
مرحلة الإمبراطورية الأولى (1799-1815)
ثانيا: الدورة الدستورية الثانية (1815 – 1870)
مرت فرنسا خلال هذه الدورة أيضا بثلاث مراحل: مرحلة الملكية الدستورية (1815-1848) ومرحلة الجمهورية الثانية (1848-1852) ومرحلة الإمبراطورية الثانية (1852-1870).
مرحلة الملكية الدستورية (1815-1848)
عهد الملكية البوربونية
عهد الملكية الأورليانية
مرحلة الجمهورية الثانية: (1848-1851)
عهد الإمبراطورية الثانية: (1852 – 1870)
ثالثا: الجمهورية البرلمانية – (1875 – 1958)
عرفت فرنسا خلال هذه الفترة نوعا من الاستقرار الدستوري حيث عاشت في ظل نظام جمهوري قائم على الأسس البرلمانية. ولقد تعاقبت على البلاد خلال ذلك الجمهورية الثالثة (1875 – 1940) والجمهورية الرابعة (1946-1958). ومرت البلاد قبل كل من الجمهوريتين بفترة انتقالية.
عهد الجمهورية الثالثة: (1875-1940)
الفترة الانتقالية (1871-1875)
نظام الجمهورية الثالثة
عهد الجمهورية الرابعة (1946-1958)
الفترة الانتقالية
نظام الجمهورية الرابعة
الفقرة الثانية: المؤسسات السياسية لنظام الجمهورية الخامسة
حافظ دستور 1958 الذي قامت بموجب الجمهورية الخامسة على الطابع الأساسي للنظام البرلماني وذلك من خلال إقراره بالقاعدة الجوهرية لهذا النظام والمتمثلة بمسؤولية الحكومة، كهيئة جماعية متضامنة، عن سياستها وأعمالها أمام البرلمان. إلا أن نظام الجمهورية الخامسة اكتسى بعد التعديل الدستوري الهام لعام 1962، بعض مظاهر النظام الرئاسي، والمتجلية بشكل خاص بانتخاب رئيس الجمهورية من طرف الشعب وبدوره المهيمن في الحياة السياسة، وسيطرته العملية على الحكومة واختياره بحرية شبه تامة، لشخص الوزير الأول. وقد أدى هذا التعديل إلى تغيير الطابع العام للنظام السياسي في فرنسا بحيث لم يعد بالإمكان الاستمرار بتصنيفه ضمن نطاق النظم البرلمانية الصرفة وإنما  صار من الضروري اعتباره نظاما مختلطا تتواجد فيه السمات الرئيسية لكل من النظامين البرلماني والرئاسي.
ويتميز نظام الجمهورية الفرنسية الخامسة القائم حاليا بالدور البارز الذي تلعبه مؤسسة رئاسة الجمهورية في الحياة السياسية. فالرئيس يشكل عمليا حجر الزاوية في هذا النظام. وهو يستمد قوته من كونه الممثل الأسمى للإرادة الشعبية والزعيم الفعلي للأغلبية البرلمانية. وقد مكن هذا الأمر الرئيس من إحكام قبضته وسيطرته على الحكومة بشكل خاص فالوزير الأول والحكومة من ورائه لا تستمد وجودها وقوتها الفعلية من دعم الأغلبية البرلمانية لها، وإنما من ثقة الرئيس ورغبته باستمرارها في الحكم ولقد أدى هذا الواقع لجعل الحكومة مجرد هيأة مهمتها وضع السياسة العامة التي يرسمها الرئيس موضع التنفيذ وهي لهذا تعتبر عمليا مسؤولة عن أعمالها أمام الرئيس بالإضافة لمسؤوليتها الدستورية أمام الجمعية الوطنية.
إلا أن الحكومة التي وجدت نفسها، لاعتباراتها عملية، في موقف ضعيف نسبيا أمام رئيس الجمهورية، تتمتع بأهمية بالغة وتمارس، دستوريا وفعليا، دورا مهيمنا في علاقاتها مع البرلمان بصورة خاصة. فمما يتميز به نظام الجمهورية الخامسة أيضا هو إضعافه لمركز البرلمان ونفوذه، كمؤسسة سياسية وذلك من خلال حصره لصلاحيات البرلمان التشريعية ضمن نطاق محدد، وتخويله للوزير الأول اختصاص التشريع عن طريق المراسيم التنظيمية في كل المجالات الأخرى، ووضعه لقواعد محددة من شأنها تنظيم العمل البرلماني وعقلنته بحيث يجعله خاضعا لإشراف حكومة وهيمنتها.
وقد نجح نظام الجمهورية الخامسة في تحقيق ما فشل فيه العهدان السابقان في مجال الاستقرار الحكومي. ولقد تم له ذلك بفضل قيام أغلبية برلمانية منضبطة ومتماسكة إلى حد كاف، وملتفة، بالدرجة الأولى حول شخص رئيس الجمهورية، ومؤيدة للوزير الأول الذي يختاره الرئيس ويمنحه ثقته. وقد سمح هذا الأمر للحكومة، عمليا بتحقيق المزيد من السيطرة على العمل البرلماني ولاسيما في مجال اتخاذ المبادرة لاقتراح مشاريع القوانين والتخفيف من حدة الرقابة السياسية التي تمارسها الجمعية الوطنية على أعمال الحكومة.
هذا وسندرس الآن أهم مؤسسات نظام الجمهورية الخامسة مبتدئين في ذلك بالشعب، ومتطرقين، فيما بعد على التوالي، لرئاسة الجمهورية، والحكومة والبرلمان والمؤسسات الجانبية الأخرى.
أولا: الشعب
نصت المادة الثالثة من دستور 1958 على “أن السيادة القومية تعود للشعب الذي يمارسها بواسطة ممثليه وبطريق الاستفتاء”. كما أشارت المادة الرابعة إلا أن “الأحزاب والمجموعات السياسية تساهم في التعبير عن الآراء وأنها تتشكل وتمارس نشاطاتها بحرية، وأن عليها واجب احترام مبادئ السيادة القومية والديمقراطية”.
الشعب ودوره في الحياة السياسية: يلعب الشعب الفرنسي ولاسيما الجسم الانتخابي دورا هاما في حياة بلاده السياسية ويمارس حقه في السيادة من خلال تدخله الفعال في انتخاب ممثليه، وفي بيان رأيه ببعض القضايا الهامة عن طريق الاستفتاء.
حق الانتخاب: أكد دستور الجمهورية الخامسة حق الشعب الفرنسي في انتخاب ممثليه في الجمعية الوطنية مباشرة، وفي مجلس الشيوخ بصورة غير مباشرة. ثم جاء التعديل الدستوري لعام 1962 ليبرز ويوسع دور الشعب كسلطة سياسية أصلية وذلك بجعله المصدر الذي تنبثق عنه مباشرة أيضا مؤسسة رئاسة الجمهورية والبرلمان، تستمدان وجودهما وشرعيتهما مباشرة من الشعب وتعتبران مسؤولتين تجاهه فقط.
ولقد نص الدستور على مبدأ حق الانتخاب العام والشامل، واعتبر ناخبا، ضمن الشروط التي يحددها القانون، كل مواطن فرنسي راشد، من الجنسين، ومتمتع بحقوقه المدنية والسياسية. وقد خفض القانون الصادر في 5 يوليوز 1974 سن الرشد الانتخابي من 21 إلى 18 سنة. كما حددت القوانين الانتخابية الأخرى شروط التمتع بالحقوق المدنية والسياسية واعتبرت المواطنين الموصى عليهم من غير الراشدين، والمتخلفين عقليا، والمفلسين والمحكومين بجرائم أو جنح خطيرة مجردين من هذه الحقوق ومحرومين من حق الانتخاب. كما أكد القانون ضرورة تسجيل الناخبين لأنفسهم في اللوائح الانتخابية لكي يتمكنوا من ممارسة حقهم في ها المجال.
الاستفتاء الشعبي: أبرز دستور 1958 أسلوب الاستفتاء و جعل منه وسيلة رئيسية يمارس الشعب من خلالها حقه في السيادة. ورغم أن التركيز على هذا الأسلوب قد يبدو في ظاهره كتأكيد على الديمقراطية شبه المباشرة، وعلى دور الشعب كمصدر أصيل للسيادة، فإنه يعتبر في الواقع تجسيدا للرغبة في إضعاف دور البرلمان في الحياة السياسية، وذلك لأن معظم المواضيع التي جعل الدستور صلاحية البت فيها من اختصاص الشعب، كانت في السابق تدخل ضمن اختصاصات البرلمان.
وقد حدد الدستور الحالات التي يجب أو يمكن لللجوء فيها للاستفتاء ومن أهمها تلك المتعلقة بتعديل الدستور، وبإقرار مشاريع القوانين الخاصة بتنظيم السلطات العامة، وبالمصادقة على بعض المعاهدات الدولية.
فمن أجل تعديل الدستور، نصت المادة 89 منه على ضرورة عرض اقتراح القانون الخاص بالتعديل، والصادر عن أحد أعضاء البرلمان. على الاستفتاء لإقراره، أما بعد التصويت عليه بالموافقة في كل من الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ. أما إذا كان الأمر يتعلق بمشروع قانون تعديل صادر عن رئيس الجمهورية، بناء على اقتراح من الوزير الأول فإن عرضه على الاستفتاء أو الاستعاضة عن ذلك بعرضه على اجتماع موحد لمجلسي البرلمان لا قرار بأغلبية ثلاثة أخماس الأصوات المعبر عنها.
أما المادة 11 من الدستور فنصت على أن رئيس الجمهورية يستطيع، بناء على اقتراح من الحكومة يقدم أثناء انعقاد الدورات البرلمانية، أو على اقتراح مشترك مقدم من مجلسي البرلمان، أن يعرض على الاستفتاء الشعبي كل مشروع قانون خاص بتنظيم السلطات العامة أو يتضمن على معاهدة من شأنها أن تؤثر على سير المؤسسات وذلك دون أن تكون مناقضة للدستور.
الأحزاب السياسية: يتميز دستور الجمهورية الخامسة بأنه الدستور الفرنسي الوحيد الذي اعترف صراحة بشرعية وجود الأحزاب السياسية وخصها بدور بارز في تنظيم الشعب والمساهمة في التعبير عن آرائه. فقد أكد الدستور، كما سبقت الإشارة، حق الأحزاب بأن تشكل بحرية وأن تمارس عملها ونشاطها ضمن احترام مبادئ الديمقراطية والسيادة القومية. ويستمد هذا الحق أصوله من القانون الصادر في عام 1901 والمتعلق  بحرية التجمع الذي يتيح للأحزاب وغيرها من التجمعات أن تنشأ وأن تكتسب الشخصية القانونية والاعتبارية بمجرد تقديم طلب شكلي بذلك للسلطات الإدارية المختصة.
خصائص الأحزاب الفرنسية: تتميز الحياة الحزبية الفرنسية بتعددية الأحزاب وطابعها الإيديولوجي والجماهيري.
فلقد ساد المجتمع الفرنسي منذ قيام الثورة الكبرى انقسام حاد في صفوف الشعب بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية وكان ذلك بسبب القيم الجديدة التي جاءت بها الثورة والتطورات الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها. وقد تبلور هذا الانقسام في عهد الجمهورية الثالثة بظهور أحزاب وتيارات سياسية عديدة مازالت امتداداتها قائمة حتى الآن.
وتتسم مختلف الأحزاب الفرنسية بطابعها الإيديولوجي الواضح. فلقد تبنت جميعها منذ قيامها برامج سياسية متناقضة ومتفاوتة بين أقصى اليمين وأقصى اليسار. وهذه البرامج تعكس بطبيعة الحال وجهات النظر المختلفة حول أنظمة القيم وأسس التنظيم الاجتماعي ومضامينه وأشكاله. وقد ساهم هذا الأمر في إضفاء السمة الجماهيرية على هذه الأحزاب، أو على معظمها على الأقل، ذلك أن تعبئة الشعب حول البرامج السياسية المختلفة يتطلب دوما عملا حزبيا ولا يمكن أن يتحقق إلا من خلال نضال الأعضاء الملتزمين وسط الجماهير بغية توعيتها بأهداف الحزب الإيديولوجية وببرنامجه السياسي الاستراتيجي والمرحلي، ودفعها بالتالي لتأييده والانضواء في صفوفه.
ثانيا: رئاسة الجمهورية
إن أهم التغيرات التي جاء بها دستور 1958 وخاصة بعد تعديله في 1962، بالنسبة لما كان عليه الحال في ظل الجمهوريتين الثالثة الرابعة، تتمثل في تحويل رئاسة الجمهورية من مجرد مؤسسة رمزية ومجردة من أية صلاحيات فعلية. إلى مؤسسة فعالة وقادرة على لعب دور مركزي في الحياة السياسية. وقد ارتبط هذا التغير بالأساس بشخصية الجنرال ديغول، وكانت الغاية منه تلافي ثغرات الجمهوريتين السابقتين فيما يتعلق بظاهرة عدم الاستقرار فيما يتعلق بظاهرة عدم الاستقرار الحكومي، وذلك من خلال جعل مؤسسة رئاسة الجمهورية المحور الذي تلتف حوله الأكثرية الشعبية والبرلمانية على السواء، وتحويل الحكومة عمليا إلى مجرد مؤسسة مساعدة للرئيس في القيام بمهام السلطة التنفيذية.
انتخاب رئيس الجمهورية
جاء دستور 1958 بالأصل بأسلوب جديد لانتخاب رئيس الجمهورية. فبعد أن كان الرئيس، في ظل العهدين السابقين، ينتخب من طرف البرلمان، أصبح ينتخب من قبل جسم انتخابي خاص يضم: أعضاء مجلسي البرلمان، وأعضاء مجالس المحافظات (أو المستشارين العامين) وأعضاء مجالس أقاليم ما وراء البحار، وممثلين منتخبين من المجالس البلدية يحدد عددهم وفقا لعدد سكان البلدية، وقد بلغ عدد أعضاء هذا الجسم الانتخابي أثناء الانتخابات الرئاسية الأولى التي جرت عام 1958 نحو 81 ألف شخص. والغاية الرئيسية من هذه الطريقة الجديدة هي تقوية مركز الرئيس تجاه البرلمان باعتبار أنه لم يعد منتخبا من طرفه فقط وإنما من قبل هيئة موسعة لا يشكل البرلمانيون فيها إلا نسبة ضئيلة جدا.
ومع هذا فقد رأى الرئيس ديغول بعد سنوات قليلة من تطبيق الدستور أن تعديل طريقة انتخاب رئيس الجمهورية بحيث يتم عن طريق الشعب مباشرة وبالاقتراع العام والشامل. وكان القصد من وراء ها التعديل توفير المزيد من القوة لمركز رئيس الجمهورية تجاه كل من البرلمان والحكومة على السواء، وذلك باعتبار أنه أصبح الممثل الأسمى، والمجسد للإرادة الشعبية.
ولقد أعلن الرئيس ديغول عن رغبته بإجراء التعديل الدستوري في حطاب له بتاريخ 20 سبتمبر 1962. وصرح فيه بأن التعديل سيجري بالإسناد لنص المادة 11 من الدستور التي تجيز لرئيس الجمهورية، بناء على اقتراح من الحكومة، أن يطرح على الاستفتاء الشعبي مباشرة أي مشروع قانون متعلق بتنظيم السلطات العامة. وكان معنى هذا الاستبعاد وتجاهل الإجراءات التي نص عليها الدستور أصلا في المادة 89 بشأن الأصول اللازمة لتعديل موارده. والتي تتضمن ضرورة عرض مشروع قانون التعديل على كل من مجلسي البرلمان قبل طرحه على الاستفتاء الشعبي. ولقد أثارت الطريقة المقررة لإجراء التعديل عاصفة شديدة من العداء لاسيما في أوساط رجال القانون وأعضاء الذين احتجوا عليها، وشككوا في شرعيتها. وقد عبر عن معارضته للطريقة المقررة، بتصويت الجمعية الوطنية في 5 أكتوبر بالموافقة على ملتمس رقابة ضد الحكومة لأنها تقدمت رسميا باقتراح مشروع التعديل، وأدى هذا من ناحية أولى لإجبار الحكومة على تقديم استقالتها، كما أدى من ناحية أخرى لإصدار رئيس الجمهورية قرار بحل الجمعية الوطنية.
ورغم هذه المعارضة فقد مضى الرئيس في مشروعه، وطرحه على الاستفتاء يوم 28 أكتوبر، فوافق عليه الشعب بأغلبية ضئيلة، وتم نشره ودخوله حيز التطبيق في 6 نوفمبر. وهكذا أصبح رئيس الجمهورية ينتخب بالاقتراع العام والشامل والمباشر من الشعب.
ويجري الانتخاب على أساس قاعدة الأكثرية وعلى دورتين، ففي الدورة الأولى يعتبر أحد المرشحين فائزا إذا حصل على الأكثرية المطلقة للأصوات المعبر عنها (أي أكثر من النصف) شريطة أن لا يقل هذا العدد عن ربع الناخبين المسجلين.
فإذا لم يحصل أحد من المرشحين علي على هذه الأكثرية المطلوبة، تجري الدورة الثانية للانتخاب، بعد أسبوع، ويشترك فيها فقط المرشحان الاثنان اللذان حصلا، بعد انسحاب من يشاء من المرشحين المشاركين في الدورة الأولى، على أكبر عدد من الأصوات فيها. ويعتبر فائزا في هذه الدورة من حصل منهما على الأكثرية النسبية الأصوات المعبر عنها.
وتجري انتخابات رئاسة الجمهورية في مدة تتراوح بين 20 يوما كحد أدنى و35 يوما كحد أقصى قبل انتهاء مدة الولاية أو بعد خلو منصب الرئاسة لأي سبب كان.
ولم ينص الدستور بحد ذاته على شروط محددة للترشيح لهذا المنصب، إلا أن بعض القوانين والمراسيم اللاحقة اشترطت أن يزكى المرشح من قبل مئة مواطن على الأقل، على أن يكون هؤلاء من بين أعضاء البرلمان أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي أو المستشارين العامين، أو رؤساء البلديات، كما ينبغي على المرشح أن يقدم ضمانة مالية يبلغ قدرها عشرة ألاف فرنك، على أن يستردها فقط في حال حصوله على نسبة خمسة بالمائة من الأصوات على الأقل.
ويقوم المجلس الدستوري، الذي توجه إليه طلبات الترشيح، بوضع قائمة بأسماء المرشحين، تنشر في الجريدة الرسمية قبل 15 يوما على الأقل من موعد إجراء الدورة الأولى الانتخاب. كما يقوم المجلس بمراقبة نظامية عمليات الاقتراع، وبإعلان النتائج النهائية للانتخاب.
وتنتهي ولاية الرئيس بشكل طبيعي بانتهاء مدة رئاسته الدستورية. كما يمكن أن تنتهي لأسباب الوفاة أو الاستقالة أو صدور قرار بالمنع النهائي عن المجلس الدستوري وذلك بالأغلبية المطلقة لأعضائه وبناء على طلب الحكومة.
وفي حال شغور منصب الرئاسة لأي سبب كان تشغل رئيس مجلس الشيوخ المنصب بالوكالة. ويتولى الرئيس كافة السلطات الدستورية التي يتمتع بها الرئيس الأصيل باستثناء سلطة اللجوء للاستفتاء الشعبي وحل الجمعية الوطنية واتخاذ المبادرة لتعديل الدستور. وفي حال عدم قدرة رئيس مجلس الشيوخ على تولي منصب الرئيسة بالوكالة لأي سبب كان، تتولى الحكومة مهام المنصب بشكل جماعي.
صلاحيات رئيس الجمهورية
يُعتبر الرئيس في الجمهورية الخامسة الشخصية المركزية التي تتمحور حولها الحياة السياسية، ويعود هذا الأمر لاعتبارات قانونية تتمثل بالصلاحيات الفعلية والواسعة التي أسندها الدستور للرئيس، ولاعتبارات واقعية تستمد قوتها من كون الرئيس الزعيم الفعلي للأغلبية البرلمانية والممثل الأسمى للإدارة الشعبية. وقد مكنت هذه الاعتبارات الأخيرة الرئيس عمليا من لعب دور مهيمن في الحياة السياسية يتجاوز بشكل واضح صلاحياته الدستورية على الرغم من أهميتها واتساعها، ودفع هذا الأمر العديد من رجال الفقه، في فرنسا، بشكل خاص للحديث عن وجود نوع من التناقض بين النصوص الدستورية والممارسات العملية في الواقع السياسي.
ولقد ميز الدستور في مجال الصلاحيات التي يتمتع بها الرئيس، بين تلك التي يمارسها بنفسه أي دون حاجة لأن يشاركه أحد في التوقيع عليها، وتلك التي يمارسها بمشاركة الوزير الأول أو الوزراء المسؤولين عن التنفيذ، في التوقيع عليها.
الصلاحيات الخاصة: تعبير هذه الصلاحيات من مظاهر التجديد الهامة التي أتى بها دستور 1958 بالنسبة لدستوري الجمهوريتين الثالثة والرابعة. ففي ظل العهدين السابقين كانت جميع الصلاحيات التي يتمتع بها رئيس الجمهورية، باستثناء قرار تعيين أو اختيار رئيس الحكومة، خاضعة لمشاركة رئيس الحكومة أو الوزراء المعنيين بالتنفيذ، بالتوقيع عليها. ورغم أهمية هذا التجديد فقد استمر دستور الجمهورية الخامسة بأخذه بعدم مسؤولية الرئيس جزئيا وسياسيا عن أعماله، إلا في حالة الخيانة العظمى. ويتضمن هذا الأمر نوعا من التناقض أنه يحصن الرئيس تجاه أية مسؤولية ناجمة عن عمل يقوم به أو يقرره بنفسه، ويحمل بالمقابل الحكومة والوزير الأول مسؤولية الأعمال التي يقوم الرئيس بها بمفرده دون أن يكون لأي منهما، رأي أو مشاركة في اتخاذها.
ويمكن تقسيم الصلاحيات الخاصة التي يتمتع بها الرئيس إلى فئتين: الصلاحيات التي يمارسها بمفرده، بصورة مستقلة، ودون أن يكون هناك اقتراح بشأنها من أية جهة أخرى، وتلك التي يمارسها بمفرده ولكن بناء على اقتراح سلطة ثانية.
الصلاحيات الخاصة التي يمارسها الرئيس بمفرده وبصورة مستقلة. وهي:
– تعيين الوزير الأول: وهذه الصلاحية يمارسها الرئيس بمفرده بحرية تامة ودون أن يكون مقيدا بأي شرط شكلي أو موضوعي. وهو لذلك يستطيع أن يختار لهذا المنصب أية شخصية سواء أكانت من داخل البرلمان أو من خارجه. ولقد بينت تجربة السنوات الماضية من عمر الجمهورية الخامسة أن هذا الأمر لم يثر أية إشكالات أو صعوبات من نوع خاص، وذلك نتيجة لوجود أغلبية +برلمانية متماسكة إلى حد كاف، وملتفة عمليا حول شخصية رئيس الجمهورية بالدرجة الأولى. إلا أنم هذه الصلاحية الهامة للرئيس تثير من جهة أخرى بعض التساؤلات الخاصة بمسؤولية الوزير الأول اتجاه الرئيس. فرغم أن الدستور لم ينص صراحة أو ضمنا على أي مسؤولية من هذا القبيل إلا أن الواقع يبين بأن الوزير الأول، بالإضافة إلى مسؤوليته الدستورية أمام الجمعية الوطنية، يعتبر عمليا أيضا مسؤولا أمام رئيس الجمهورية وذلك بمعنى أنه لا يستطيع وحكومته أن يستمرا في الحكم إذا لم يظل متمتعا بثقة الرئيس به. ورغم أن الدستور قد نص على أن رئيس الجمهورية هو الذي تقيل الوزير الأول بعد تقديمه لاستقالة الحكومة، فإن الرئيس في الواقع يمتلك عدة وسائل للضغط على الوزير الأول من أجل إجباره على تقديم استقالت حكومته. ومن أهم هذه الوسائل: الإيعاز الأغلبية البرلمانية بالتصويت على ملتمس رقابة ضد الحكومة، ورفضه التوقيع على المراسيم الصادرة عن الوزير الأول.
– مخاطبة البرلمان عن طريق توجيه رسائل له: وهو حق تقليدي للرئيس عرف في ظل العهدين السابقين لكنه كان مشروطا حينذاك بموافقة رئيس الحكومة. وتقرأ رسائل الرئيس من طرف شخصية برلمانية يختارها بنفسه، وهي عادة ما تكون رئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ. ولا تستطيع هذه القراءة أية مناقشة من قبل أعضاء البرلمان.
– حل الجمعية الوطنية: ويقر رئيس الجمهورية بمفرده استعمال هذا الحق ولكن بعد استشارة الوزير الأول ورئيسي مجلسي البرلمان، ولا تعتبر هذه الاستشارة بطبيعة الحال ملزمة للرئيس. وهذا الحق مقيد فقط بشرطين زمنيين: الأول هو عدم إمكانية استعماله أثناء ممارسة الرئيس للسلطات الاستثنائية بموجب المادة 16 من الدستور. والثاني هو عدم إمكانية حل جمعية وطنية انتخبت على إثر حل جمعية سابقة وذلك خلال السنة الأولى التي تلي انتخابها. كما أن استعمال هذا الحق مقصور فقط على رئيس الجمهورية الأصيل لأن الرئيس بالوكالة لا يستطيع اللجوء له مطلقا.
ويعتبر هذا الحق في الواقع سلاحا فعالا يستطيع الرئيس اللجوء له في حال حدوث خلاف سياسي بينه وبين الأغلبية البرلمانية أو بين هذه الأخيرة والوزير الأول، خلافا لما كان عليه الحال في العهدين السابقين، لا علاقة له بمسألة اللجوء لاستعمال هذا السلاح ولا حتى من باب الاقتراح على الرئيس.
ويستتبع حل الجمعية الوطنية وانتخاب جمعية جديدة ضرورة تقديم الحكومة لاستقالتها، وتشكيل حكومة جديدة قد تكون، كليا أو جزئيا، استمرار للحكومة السابقة.
– ممارسة السلطات الاستثنائية بموجب المادة 16 من الدستور: ويعتبر هذا الحق من أهم وأخطر الصلاحيات التي أسندها الدستور لرئيس الجمهورية. وتنص المادة 16 على أنه “عندما تكون مؤسسات الجمهورية واستقلال الأمة وسلامة أراضيها أو تنفيذ تعهداتها الدولية مهددة بصورة خطيرة وفورية، وعندما ينقطع سير العمل المنتظم للمؤسسات العامة الدستورية فإن رئيس الجمهورية يتخذ التدابير التي تتطلبها الظروف وذلك بعد استشارة الوزير الأول، ورؤساء مجلسي البرلمان والمجلس الدستوري،وتوجيه خطاب للأمة لإعلامها بالأمر. وينبغي على هذه التدابير أن تستلهم الإرادة بتوفير السبل التي تمكن السلطات العامة الدستورية من القيام بمهامها، في أقصر الآجال، على أن يستشار المجلس الدستوري في هذا الشأن، وأن يكون للبرلمان الحق بالاجتماع حكما. ولا يجوز أثناء ممارسة السلطات الاستثنائية حل الجمعية الوطنية…”
ويعني هذا أن رئيس الجمهورية يستطيع في بعض الظروف، التي ذكرها الدستور بصورة عامة، والتي يتمتع هو شخصيا بالصلاحية لتقدير شروط توفرها وقيامها، ممارسة سلطات استثنائية تجعل منه شبه حاكم مطلق للبلاد، فالرئيس هو الذي يقرر بمفرده متى يكون التهديد خطيرا، ومتى يكون هذا انقطاع في السير المنتظم للسلطات العامة، ولا يحد من سلطته في هذا الصدد إلا بعض الشروط الشكلية المتمثلة باستشارة رؤساء الجمعية الوطنية، ومجلس الشيوخ والمجلس الدستوري وتوجيه خطاب للأمة لإحاطتها علما بالأمر.
ويحق للرئيس بعد إعلانه لحالة الاستثناء اتخاذ كافة التدابير الضرورية التي تقتضيها الظروف لدفع الخطر عن البلاد ومؤسساتها، وللإسراع في توفير الشروط في توفير الشروط لتمكين السلطات العامة من القيام بمهامها بشكل منتظم ولهذا فإنه يحل محل السلطتين التشريعية والتنفيذية في اتخاذ مختلف القرارات الأعمال التي يوقعها بمفرده، بعد استشارة المجلس الدستوري فقط، والتي لا تكون خاضعة لأية مراقبة قضائية أو سياسية من أي جهة كانت.
أما البرلمان والحكومة فإنهما يستمران أثناء ذلك بممارسة مهامهما ووظائفهما العادية على أن لا يتعارض ذلك مع سلطات الرئيس وقراراته السامية في مختلف المجالات.
ويتوقف تطبيق حالة الاستثناء بعد انجلاء الخطر عن البلاد وعودة السير المنتظم للسلطات العامة، لكن القرار بهذا الشأن يعود أيضا لرئيس الجمهورية وتقديراته الشخصية للأمور. فقد أعلن الجنرال ديغول حالة الاستثناء في 23 ابريل 1961 على إثر العصيان المسلح الذي قام به بعض الضباط الفرنسيين في الجزائر في 21 منه. ورغم أن هذا العصيان لم يستمر إلا أربعة أيام فقد ظلت حالة الاستثناء قائمة حتى 30 سبتمبر حين أعلن الرئيس عن إلغائها بصفة رسمية.
– تعيين رئيس المجلس الدستوري وثلاثة من أعضائه التسعة، وحق إحالة أي اتفاق دولي أو قانون عادي على المجلس للنظر في دستوريته.
– تولي القيادة العليا للقوات المسلحة ورئاسة المجالس واللجان العليا للدفاع الوطني: تكتسي الصلاحية أهمية خاصة بالنظر لما تتضمنه من سلطات فيما يتعلق بالسياسة العسكرية الإستراتيجية وصناعة الأسلحة الحديثة واستخدام القوة النووية.
الصلاحيات الخاصة التي يمارسها الرئيس بمفرده بناء على اقتراح سلطة ثانية: وهي:
– صلاحية إقالة الوزير الأول: بعد تقديمه لطلب باستقالة الحكومة، فرئيس الجمهوري لا يملك دستوريا الحق بإقالة الوزير الأول إلا بناءا على طلب يقدمه هذا الأخير باستقالة حكومته، لكن الممارسة العملية أثبتت أن الرئيس يستطيع في الواقع إجبار الوزير الأول على تقديم طلب الاستقالة متى ظهر أول خلاف يستدعي ذلك ينهما، وهذا يعني أن الوزير الأول يعتبر عمليا مسؤولا عن سياسته وأعماله أمام رئيس الجمهورية وذلك بالإضافة لمسؤوليته أمام الجمعية العامة.
– اللجوء للاستفتاء الشعبي بموجب المادة 11 من الدستور التي تنص على أنه “يجوز رئيس الجمهورية بناء على اقتراح تقدمه الحكومة، خلال الدورات البرلمانية، أو بناء على اقتراح مشترك من جانب مجلسي البرلمان ومنشور في الجريدة الرسمية، أن يعرض على الاستفتاء كل مشروع قانون يتعلق بتنظيم السلطات العامة أو بتصديق اتفاقية خاصة بالجامعة الفرنسية أو معاهدة في شأنها أن تؤثر على سير المؤسسات شريطة ألا تكون متعارضة مع الدستور”.
الصلاحيات المشتركة: وهي صلاحيات يتمتع بها الرئيس فعلا لكنه لا يستطيع ممارستها إلا بمشاركة الوزير الأول والوزراء المعنيين بالتنفيذ في التوقيع عليها. ويجسد هذا التوقيع مشاركة الوزير الأول والوزراء المختصين بصنع القرار، ويبرر، مبدئيا تحملهم لمسؤوليته أمام الجمعية الوطنية. ويمارس الرئيس هذه الصلاحيات في علاقته مع الحكومة والبرلمان وفي المجالات التأسيسية والقضائية والدبلوماسية.
ففي مجال العلاقة مع الحكومة: يمارس الرئيس الصلاحيات التالية:
– رئاسة المجلس الوزاري واللجان الوزارية المتفرعة عنه. ولا يعني هذا الحق مجرد حضور شكلي للرئيس بل أنه يشكل مساهمة جدية وفعالة وحاسمة في أعمال المجلس ومقرراته.
– تعيين وإقالة أعضاء الحكومة بناء على اقتراح الوزير الأول وموافقته التي تتجلى في مشاركته بالتوقيع على المراسيم المتعلقة بذلك.
– التوقيع على الأوامر والمراسيم التنظيمية التي تجري بشأنها التداول في المجلس الوزاري، وتصدر عن الوزير الأول أو أعضاء الحكومة. ويعني ها الحق مشاركة الرئيس الفعلية في ممارسة مهام السلطة التنظيمية التي يعود أمرها للوزير الأول.
– حق التعيين في الوظائف المدنية والعسكرية إلا أن الرئيس لا يمارس في الواقع هذا الحق إلا بالنسبة لبعض الوظائف العليا والهامة، أما معظم الوظائف في الدولة فيفوض أمر التعيين فيها للوزير الأول أو الوزراء المختصين.
في مجال العلاقة مع البرلمان: يقوم الرئيس:
– التوقيع على القوانين الصادرة عن البرلمان تمهيدا لنشرها في الجريدة الرسمية ودخولها حيز التنفيذ. وينبغي على الرئيس أن يقوم بهذا الأمر خلال مدة 15 يوما من تاريخ إحالة القانون على الحكومة لنشره، بعد إقراره بصفة نهائية من طرف البرلمان.
إلا أنه يحق للرئيس خلال هذه المدة أن يعيد القانون إلى البرلمان لقراءته كليا أو جزئيا مرة ثانية، والتصويت عليه من جديد بنفس الأغلبية المطلوبة عادة لإقرار القوانين.
– كما يقوم الرئيس بتوقيع المراسيم الخاصة بافتتاح الدورات الاستثنائية التي يمكن أن يدعى البرلمان لعقدها بغية دراسة جدول محدد بناء على طلب الوزير الأول أو الأغلبية المطلقة لأعضاء الجمعية الوطنية.
– في المجال التأسيسي: يعطي الدستور رئيس الجمهورية صلاحية اتخاذ المبادرة لتعديل الدستور، بناء على اقتراح من الوزير الأول. ويحق للرئيس في هذا الصدد التدخل لتقرير الطريقة التي ينبغي أن تتبع لإقرار مشروع قانون التعديل. فأما أن يقرر دعوة الشعب للاستفتاء على المشروع بعد إقراره في كل من مجلسي البرلمان بالأغلبية النسبية للأصوات المعبر عنها، وإما أن يدعو مجلسي البرلمان لعقد جلسة مشتركة لإقرار بالمشروع بأغلبية ثلاثة أخماس الأصوات.
– في المجال القضائي: يتمتع رئيس الجمهورية علاوة على رئاسته للمجلس الأعلى للقضاء، بصلاحية تعيين أعضائه التسعة وبحق العفو الخاص عن المحكومين بأحكام قضائية.
– وفي المجال الدبلوماسي: يتولى الرئيس مهمة قيادة وتوجيه المفاوضات قصد عقد المعاهدات والاتفاقيات الدولية، ويحق للرئيس في هذا الصدد توقيع المعاهدات التي لا يترتب عليها نفقات مالية تلزم خزينة الدولة، لأن مثل هذه المعاهدات لا  يمكن تصديقها إلا بقانون يصدر عن البرلمان، كما يتولى الرئيس صلاحية تعيين السفراء والمندوبين الدبلوماسيين الفرنسيين لدى الدول الأجنبية وتلقي أوراق اعتماد السفراء الأجانب في فرنسا.
ثالثا: الحكومة
بالرغم من نص الدستور في مادته العشرين على أن الحكومة هي التي:تحدد وتقود سياسة الأمة” وتعتبر في ذلك مسؤولة أمام البرلمان، فإنها ليست في الواقع إلا مجرد هيئة مهمتها تنفيذ السياسة التي يرسم خطوطها العامة رئيس الجمهورية، تلعب دور الوسيط بين الرئيس والجمعية العامة باعتبارهما سلطتان عامتان تنبثقان عن الشعب بالاقتراع العام المباشر، وتجسدان بالتالي الإرادة الشعبية. وفي هذا الأمر يتجلى أبرز مظهر من مظاهر التناقض بين النصوص الدستورية والواقع العملي الذي تعيشه الجمهورية الخامسة منذ قيامها وحتى الآن. ويمكن السبب الجوهري لهذا التناقض في أن رئيس  الجمهورية، وليس الوزير الأول، هو الذي يعتبر الزعيم الفعلي الذي تلتف حوله الأغلبية البرلمانية وتمنحه التأييد. أما الزير الأول فإنه لا يستمد قوته في الواقع إلا من ثقة الرئيس به ودعمه له.
على أن هذه الصورة التي عرفتها الجمهورية الخامسة منذ قيامها يمكن لها أن تتغير باتجاه إزالة هذا التناقض وتقوية دور الوزير الأول والحكومة وتمكينهما من ممارسة المهام التي أناطها الدستور بهما، ودفع الرئيس للعب دور أكثر تواضعا في الحياة السياسية وذلك في حال قيام تعارض جذري أو تناقض بين الاتجاه السياسي الذي يتبناه الرئيس والتيار السياسي الذي تنتمي إليه الأغلبية البرلمانية. ففي هذه الحال ستضطر الحكومة لممارسة دورها الطبيعي في الحكم معتمدة في ذلك على ثقة الأغلبية البرلمانية بها باعتبارها مسؤولة دستوريا فقط أمام الجمعية الوطنية. إلا أن الوصول إلى مثل هذا الوضع من شأنه أن يؤدي لقيام أزمة عميقة في النظام السياسي قد يكون من نتائجها وضع حد نهائي له.
وتعتبر الحكومة مشكلة دستوريا وتستطيع بالتالي مباشرة مهامها بمجرد إصدار الرئيس لمراسيم تأليفها. فالوزير ليس ملزما بالحصول فورا على ثقة الجمعية الوطنية بحكومته كما كان الحال في السابق. إلا أن عليه أن يعرض، فيما بعد، وفي وقت مناسب يقرره بعد التداول بشأنه في المجلس الوزاري، على الجمعية الوطنية برنامج حكمته ويمكنه أن يطلب على أساس ذلك تصويتا بالثقة.
تركيب الحكومة: ميز دستور الجمهورية الخامسة بين الوزير الأول وباقي أعضاء الحكومة. فالوزير الأول يعينه رئيس الجمهورية دون أن يكون له دستوريا الحق بإقالته إلا بناء على طلب يتقدم به ويتضمن استقالة الحكومة بشكل جماعي. إلا أن الواقع، كما سبقت الإشارة، لا تنطبق تماما مع النص لأن الرئيس يتمتع في الواقع بعدة وسائل عملية من شأنها دفع الزير الأول لتقديم طلب الاستقالة. أما باقي أعضاء الحكومة فيعينهم رئيس الجمهورية يقيلهم بناء على اقتراح الزير الأول. ويؤكد هذا ألأمر الأولوية التي يتمتع بها الوزير الأول بالنسبة لباقي أعضاء الحكومة.
وتتألف الحكومة من وزراء الدولة، ووزراء منتدبين لدى الوزير الأول، ووزراء مكلفين بحقيبة وزارية، وكتابة الدولة. ورغم أن الدستور لم يلحظ وجود هذه الفئات، فقد جرت العادة على التمييز بينها لأسباب سياسية في جوهرها، فوزراء الدولة يضمون للحكومة لاعتبارات عديدة من أهمها تحقيق نوع من التوازن في التمثيل داخل الحكومة ب ين التشكيلات السياسية المختلفة التي تستند الحكومة على دعمها داخل البرلمان. ويمكن لهؤلاء الوزراء أن لا يتحملوا أية مسؤولية محددة داخل الحكومة، كما يمكن لهم أن يكلفوا ببعض المهام التي تعود أصلا للوزير الأول فيعتبرون وزراء منتدبين له. أما الوزراء العاديون فيكلفون بحقيبة وزارية ويعتبرون مسؤولين عن لإدارتها سياسيا وإداريا. وأما كتاب الدولة فإنهم يكلفون عادة بإدارة قطاع إداري متخصص أو متفرع عن إحدى القطاعات الوزارية الواسعة التي قد يكون من الصعب على الوزير العادي الإحاطة بمختلف جوانبها بمفرده.
وقد منع الدستور على أعضاء الحكومة الجمع بين عضويتهم فيها وعضويتهم في البرلمان. ويعتبر هذا المنع مخالف من حيث المبدأ للقاعدة التقليدية المتبعة في النظم البرلمانية والتي تقوم على اختيار أعضاء الحكومة أساسا من بين البرلمانيين. ويبدو أن الغاية من هذا المنع هي الحد من تسابق أعضاء البرلمان للحصول على عضوية الحكومة، الأمر الذي كان يعتبر، خلال العهدين السابقين، من بين الأسباب الهامة لظاهرة عدم الاستقرار الحكومي.
كما منع الدستور على أعضاء الحكومة ممارسة أي عمل عام أو نشاط مهني أو وظيفة تمثيل مهني على المستوى الوطني. والغاية الرئيسية من هذا المنع هي الحيلولة دون سوء استخدام أعضاء الحكومة لمناصبهم الرسمية من أجل تحقيق منافع خاصة لهم أو للهيئات التي يمثلونها أو يعملون لصالحها.
صلاحيات الحكومة: تتمتع الحكومة كهيئة جماعية متضامنة ببعض الصلاحيات الدستورية الهامة وذلك علاوة على الصلاحيات التي خصها الدستور للوزير الأول.
الصلاحيات الجماعية للحكومة: وهي تتجلى بشكل رئيسي في المجالات التالية.
– مجال تحديد وقيادة سياسة الأمة وذلك عملا بالمادة 20 من الدستور التي تضيف في فقرتها الثانية بأن الحكومة تتصرف لذلك بالإدارة والقوات المسلحة.
– مجال المساهمة في العمل التشريعي وذلك من خلا حق الحكومة بالتقدم أمام البرلمان بمشاريع القوانين، بعد المداولة بشأنها في المجلس الوزاري، وكذلك من خلال الطلب إلى البرلمان أن يأذن لها، من أجل تنفيذ برنامجها، بإصدار أوامر “Ordonnances”، خلال مدة محددة، تتضمن تدابير تدخل عادة ضمن حيز القانون. وتخضع الأوامر التي نصدرها الحكومة لمراقبة البرلمان اللاحقة وذلك لأن قانون الإذن يجب أن ينص على مدة ثانية، أطول من الأولى، ينبغي على الحكومة خلالها أنم تتقدم أمام البرلمان بمشروع قانون لتصديق الأوامر التي أصدرتها. وإلا اعتبرت الأوامر لاغيت بانتهاء الأجل الذي حدده قانون الإذن. وتدخل الأوامر فور نشرها حيز التطبيق، ويكون لها نفس قيمة النصوص التنظيمية. ولا يستطيع البرلمان خلال المدة التي يحددها قانون الإذن أن يشرع في المواد التي تشكل موضوعا للإذن المعطي للحكومة، وإذا حاول فعل ذلك جاز للحكومة أن تدفع بعدم القبول باقتراحات أعضاء البرلمان في هذا الشأن.
– مجال مسؤولية الحكومة حيث يكون من حق المجلس الوزاري أن يتداول ويوافق على طلب الثقة بالحكومة الذي يقدمه الوزير الأول أمام الجمعية الوطنية ويكون من نتائجه في حال الرفض إجبار الحكومة على الاستقالة.
– مجال السلطات الاستثنائية التي تتجلى في حق الحكومة بإعلان حالات الحصار والتعبئة العامة والتنبيه والحذر وذلك في حال اندلاع أزمة دولية أو قيام اضطرابات داخلية من شأنها تهديد أمن البلاد وسلامتها. وتتمتع الحكومة أثناء ذلك بصلاحيات واسعة تمكنها من مصادرة الأشخاص والأموال والمصالح المختلفة ودعوة القوات الاحتياطية للخدمة العسكرية. كما يمكن للحكومة إذا تطلبت الأوضاع الدولية أو الداخلية الخطيرة ذلك أن تعلن حالة الطوارئ لمدة اثني عشر يوما على الأكثر. ومن شأن الإعلان عن هذه الحالة توسيع صلاحيات القضاء العسكري ليشمل الأفراد المدنيين والحد من الحقوق الفردية والحريات العامة. وتجدر الإشارة إلى أن تمديد حالة الطوارئ فترة أطول لا يمكن أن يتم إلى بموجب قانون.
الصلاحيات الخاصة بالوزير الأول: خص الدستور الوزير الأول بعدد من الصلاحيات من أهمها:
– حق ترأس اجتماعات المجلس الوزاري، واللجان الوزارية ولجان مجلس الدفاع الوطني وذلك في حال تغيب رئيس الجمهورية عنها لأي سبب كان وينبغي حينما يتعلق الأمر بترؤس اجتماع المجلس الوزاري أن يتم ذلك، بصفة خاصة، بناءا على تفويض صريح من الرئيس وبغيت دراسة جدول أعمال محددة.
– توجيه عمل الحكومة وذلك على هدي المقررات المتخذة في مجلس الوزراء، وتأمين تنفيذ القوانين، ومتابعة نشاطات الوزراء وتوجيه التعليمات إليهم والفصل في الخلاف الذي قد ينشأ بينهم في وجهات النظر.
– ممارسة مهام السلطة التنظيمية من خلال إصدار مراسيم لها نفس قوة القانون وذلك في مختلف المواضيع التي لم ينص الدستور صراحة على دخولها ضمن نطاق القانون. وبهذا أصبح الوزير الأول طرفا أساسيا في السلطة التشريعية إلى جانب البرلمان.
– وينفرد الوزير الأول في ممارسة بعض الاختصاصات في مجال علاقة الحكومة بالبرلمان. فهو الذي يتقدم أمام البرلمان بمشاريع القانون، ويطرح مسألة الثقة بالحكومة، ويقترح على رئيس الجمهورية دعوة البرلمان لعقد دورة استثنائية، ويطلب إلى المجلس الدستوري النظر في دستورية القوانين الصادرة عن البرلمان.

رابعا: البرلمان

تميز دستور الجمهورية الخامسة بأنه اضعف، إلى حد كبير، من مركز البرلمان ودوره في الحياة السياسية. وقد تجلى هذا الأمر بحصره لصلاحيات البرلمان التشريعية في مجال محدد وضيق نسبيا. وبتنظيمه وعقلنته للعمل البرلماني بشكل أدى لجعله عميلا خاضعا لهيمنة الحكومة.

1) تنظيم البرلمان: يتألف برلمان الجمهورية الخامسة من مجلسين: الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ.
1- الجمعية الوطنية: وهي تنتخب لمدة خمس سنوات من طرف الشعب بالاقتراع العام والشامل والمباشر وذلك على أساس قاعدة الانتخاب الفردي الأكثري ذي الدورتين. ففي الدورة الأولى يعتبر فائزا المرشح الذي يحصل على الأغلبية المطلقة للأصوات المعبر عنها شريطة أن يكون هذا العدد أكبر من ربع عدد الناخبين المسجلين. فإذا لم يحصل أحد من المرشحين على هذه الأغلبية تجري انتخابات الدورة الثانية التي لا يمكن أن يشترك بها إلا المرشحون الذين اشتركوا في الدورة الأولى وحصلوا فيها على أكثر من 10 بالمائة من أصوات الناخبين المسجلين. ويعتبر فائزا في هذه الدورة المرشح الذي يحصل على الأغلبية النسبية للأصوات.
2- مجلس الشيوخ: وهو ينتخب لمدة تسع سنوات من قبل جسم انتخابي خاص مؤلف من نواب الجمعية الوطنية، والمستشارين العامين، ومندوبين عن المجالس البلدية. ويجري الانتخاب على أساس الدائرة الموسعة التي تتخذ من المقاطعة (département) حدودا لها. ويحدد لكل مقاطعة عدد من الممثلين في مجلس الشيوخ يتناسب وعدد سكانها.
ومجلس الشيوخ بعكس الجمعية الوطنية، هو غير قابل للحل ويجري تجديد ثلث أعضائه كل ثلاث سنوات. ويتم هذا من خلال تقسيم المقاطعات الفرنسية إلى ثلاث فئات يمثل كلا منها عدد متساوي من الشيوخ، بحيث يجري في كل مرة انتخاب شيوخ فئة واحدة من المقاطعات فقط. وقد أقر الدستور فيما يتعلق بانتخاب المجلس مبدأ إلزامية الانتخاب. فأوجب على أعضاء الجسم الانتخابي القيام بعملية الانتخاب وذلك تحت طائلة دفع غرامة، كجزاء كل من يتخلف عن أداء هذا الواجب.
3- الشروط الخاصة بالترشيح والعضوية: نصت بعض القوانين الانتخابية على عدد من الشروط الخاصة التي ينبغي توفرها في المرشح لعضوية البرلمان. فهذا الحق معترف به لكل مواطن متمتع بحق الانتخاب شريطة أن يكون قد أتم سن الثالثة والعشرين من العمر إذا أراد أن الترشيح لعضوية الجمعية الوطنية، وسن الخامسة والثلاثين إذا أراد الترشيح لعضوية مجلس الشيوخ. وأن يكون متمتعا بالجنسية الفرنسية منذ أكثر من عشر سنوات، ومؤديا لواجبات الخدمة العسكرية. وعلاوة على هذه الشروط فقد حرم القانون أيضا عددا من المواطنين الذين يشغلون بعض الوظائف الهامة أو الحساسة ويستطيعون بسبب ذلك التأثير على إرادة الناخبين، من حق الترشيح في الدوائر الانتخابية الخاضعة لإشرافهم. إلا أن هؤلاء يمكنهم بطبيعة الحال أن يرشحوا أنفسهم في الدوائر الأخرى.
ومن جهة ثانية، نص الدستور أو القانون الانتخابي على عدد من الشروط المتعلقة بعدم إمكانية الجمع بين العضوية في البرلمان وممارسة بعض الوظائف أو المهام الأخرى. فعضو البرلمان لا يستطيع الجمع بين عضويته هذه و عضويته في الحكومة. أو المجلس الدستوري أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي. كما أنه لا يستطيع ممارسة أية وظيفة عامة غير انتخابية سواء أكانت  لدى الإدارة الفرنسية أو لصالح دولة أجنبية، ويستثنى من هذا المنع أساتذة التعليم العالي، وأعضاء البرلمان المكلفون من جانب الحكومة بمهمة خاصة لا تتجاوز مدتها الستة أشهر، وبعض الموظفين العاملين في الإدارة الدينية في مقاطعتي الألزاس واللورين. وتفرض العضوية في البرلمان على العضو مراعاة بعض الشروط والقواعد أثناء ممارسته لبعض النشاطات الخاصة: كان يمنع عليه أن يذكر اسمه الشخصي مقرونا بصفته كنائب أو شيخ في أي إعلان خاص بمؤسسة تجارية أو صناعية أو مالية، أو أن يرافع أو يستشار، في حال ممارسته لمهنة المحاماة، في أي قضية تكون الدولة أو أي شخص معنوي عام طرفا فيها أو تكون موجهة ضد الشيء العام أو متعلقة بقضايا الصحافة والاعتماد والتوفير.
ونتيجة لسلسلة الموانع المقررة هذه ورغبة في الحد من الانتخابات الجزئية، فقد جاء دستور الجمهورية الخامسة بتجديد هام يتمثل بانتخاب نائب لعضو البرلمان في نفس الوقت الذي يجري فيه الانتخاب. ويحل النائب بصورة آلية محله في حال وفاته أو توليه لمنصب أو مهمة لا يمكن الجمع بينها وبين عضوية البرلمان. إلا أن النائب لا يحل محل العضو في حال استقالته ففي هذه الحالة فقط تجري انتخابات جزئية جديدة لشغل المقعد الشاغر. ويقوم المرشح الأصيل لعضوية الجمعية الوطنية أو لعضوية مجلس الشيوخ في الدوائر التي يجري الانتخاب فيها على أساس قاعدة الأكثرية عادة باختيار نائبه بنفسه. أما في الدوائر التي يجري فيها انتخاب الشيوخ على أساس قاعدة التمثيل النسبي فإن النائب هو حكما المرشح الذي جاء ترتيبه في اللائحة التي ينتمي إليها الأصيل، مباشرة بعد آخر مرشح انتخب منها فعلا.
وينبغي على عضو البرلمان المنتخب والذي يشغل منصبا أو مهمة لا يمكن الجمع بينها وبين العضوية أن يعلن استقالته من منصبه أو مهمته خلال مدة 15 يوما من تاريخ انتخابه رسميا. كما ينبغي على العضو الذي يعين في منصب رسمي أو يكلف بمهمة لا يمكن الجمع بينها وبين عضويته في البرلمان أن يختار خلال مدة شهر من تعيينه أو تكليفه بين عضويته أو المنصب الذي عين فيه أو المهمة التي كلف بها.
ولا يحق رسميا لعضو البرلمان الأصيل الذي تخلى عن عضويته بعد تعيينه في المنصب أو تكليفه بالمهمة التي لا يمكن الجمع بينها وبين العضوية أن يستعيد عضويته من النائب الذي حل محله وذلك بعد توقفه عن شغل ذلك المنصب أو إنهائه لتلك المهمة. إلا أنه يمكن للنائب الذي أصبح فعلا عضوا في البرلمان أن يستقيل منه إن أراد، ليتيح المجال للعضو الأصيل سابقا لأن يرشح نفسه من جديد في الانتخابات الجزئية التي تجري في حال الاستقالة لشغل المقعد الشاغر.

ب) صلاحيات البرلمان: يختص البرلمان بممارسة صلاحيات عديدة في مجال مراقبة أعمال الحكومة وفي المجالات التشريعية والمالية والتأسيسية والقضائية علاوة على بعض الصلاحيات السياسية المتفرقة الأخرى. ويتميز دستور الجمهورية الخامسة بأنه أعاد لمجلس الشيوخ الاعتبار الذي كان له في ظل الجمهورية الثالثة ثم فقده في ظل الجمهورية الرابعة. فجميع الصلاحيات المخصصة دستوريا للبرلمان، باستثناء تلك المتعلقة بمراقبة أعمال الحكومة، يمارسها المجلسان على قدم المساواة. وليس للجمعية الوطنية أية أولوية على مجلس الشيوخ في هذا الصدد إلا إذا كان الأمر متعلقا بالنظر في مشاريع القوانين المالية التي يجب أن تعرض أولا عليها ثم تعرض فيما بعد على المجلس. على أن هذه المساواة المبدئية بين الجمعية والمجلس يمكن أن تسقط إذا استمر الخلاف بينهما حول مشروع أو اقتراح قانون ما بعد قراءته قراءة ثانية في كل منهما أو قراءته مرة واحدة فقط في حال إعلان الحكومة لصفة الاستعجال بالنسبة له. ففي هذه الحالة يعطي الدستور للوزير الأول سلطة تقرير اللجوء لتشكيل لجنة توفيق مشتركة من المجلسين لحل الخلاف آو دعوة الجمعية الوطنية لتبث في الأمر بمفردها.
1- صلاحية مراقبة أعمال الحكومة:  تنحصر هذه الصلاحية كما سبقت الإشارة بالجمعية الوطنية فقط. أما مجلس الشيوخ فليس له أي دور في هذا المجال. وتتجلى الرقابة السياسية التي يحق للنواب ممارستها تجاه الحكومة في عدة وسائل أهمها: مناقشة البيانات التي تدلي بها لحكومة أمام الجمعية دون أن يؤدي ذلك بالتالي إلى التصويت عليها، وتوجيه الأسئلة الخطية أو الشفهية لأعضاء الحكومة قصد الحصول على معلومات محدد أو استفسارات. وطرح قضية إلزام مسؤولية الحكومة سياسيا.
ويمكن لهذه القضية أن تطرح بأسلوبين مختلفين وذلك بغية التحقق من تمتع الحكومة بثقة الجمعية الوطنية. أما الأسلوب الأول فيتم بمبادرة من الوزير الأول بعد التداول بشأنه في المجلس الوزاري. ويتجلى فيما يسمى ” بطلب الثقة “. ويطلب الوزير الأول الثقة بحكومته بناء على البرنامج الذي تتقدم به أمام الجمعية أو على بيان متعلق بالسياسة العامة. وتتم الموافقة على طلب الثقة بالأغلبية النسبية للأصوات المقترعة (أي أكثر من نصفها).
أما الأسلوب الثاني الذي يتم بمبادرة يوقع عليها عشر أعضاء الجمعية الوطنية فيسمى “بملتمس الرقابة” ويجري التصويت على الملتمس علنا ويعتبر مقبولا إذا وافقت عليه الأغلبية المطلقة للأعضاء. والغاية من إقرار مثل هذه الأغلبية هي الحد من احتمالات وضع الحكومة في موضع صعب، لأن من شأن التصويت سلبا على طلب الثقة أو إيجابا على ملتمس الرقابة إجبار الحكومة على تقديم استقالتها.
2- الصلاحية التشريعية: وهي الصلاحية الرئيسية التي يتمتع بها البرلمان وتتجلى في إصداره لما يسمى بالقانون. وقد جاء دستور الجمهورية الخامسة في هذا الصدد بتجديد هام يمثل تحولا جذريا في المفاهيم القانونية التي كانت سائدة في فرنسا ولا سيما في عهد الجمهورية البرلمانية الثالثة والرابعة. ففي ذلك الحين كان البرلمان الفرنسي يتمتع بسلطة التشريع أو إصدار القوانين في كافة المجالات ودون أي قيد أو حد. إلا أن دستور 1958 غير هذا الوضع بصورة جذرية للمرة الأولى. وذلك من خلال تحديده لصلاحيات البرلمان التشريعية وحصره للمجالات التي يمكن أن يصدر فيها القوانين. وقرر الدستور ن كل المجالات التي لم يدخلها صراحة ضمن حيز القانون تعتبر من الآن فصاعدا، داخلة ضمن نطاق اختصاصات السلطة التنظيمية التي أوكل أمرها للوزير الأول. وهكذا فإن البرلمان في ظل الجمهورية الخامسة لم يعد يجسد بمفرده السلطة التشريعية لأن الوزير الأول أصبح يشاركه في تحمل أعباء جزء هام من العمل التشريعي. فقد صار بمقدور الوزير الأول دستوريا أن يصدر مراسيم تنظيمية لها نفس قوة القانون في كافة المجالات التي لم ينص الدستور على جعلها من اختصاص البرلمان.

ولقد حدد الدستور بصورة رئيسية المجالات التي يمكن أن يشرع فيها القوانين وذلك في المادة 34 منه. وتتناول هذه المجالات:
– الحقوق المدنية والضمانات الأساسية الممنوحة للمواطنين من أجل ممارسة الحريات العامة، والأعباء التي يفرضها الدفاع الوطني على المواطنين في أشخاصهم وأموالهم.
– الجنسية والحالة المدنية للأشخاص وأهليتهم والأنظمة المتعلقة بالزواج والإرث والهبة.
– تحديد الجرائم والجنح والعقوبات المطبقة عليها، والإجراءات الجنائية، والعفو العام وإحداث محاكم جديدة والنظام الأساسي للقضاة.
– الأسس التي تستوفى بموجبها الضرائب من أي نوع كانت، ونظام إصدار النقود.
– النظام الانتخابي للمجالس البرلمانية والمحلية.
– إحداث أصناف المؤسسات العامة.
– الضمانات الأساسية الممنوحة للموظفين المدنيين والعسكريين في الدولة.
– تأميم المشاريع وانتقال الملكية من القطاع العام إلى القطاع الخاص.
وتضيف المادة 34 أن القانون يكتفي بتحديد القواعد الأساسية في المجالات التالية:
– التنظيم العام للدفاع الوطني.
– الاستقلال الإداري للجماعات المحلية وصلاحياتها ومواردها.
– نظام الملكية، والحقوق العينية والالتزامات المدنية والتجارية.
– قانون العمل والحق النقابي والضمان الاجتماعي.
وعلاوة على ذلك، توضح المادة 34 أن القوانين المالية تحدد موارد الدولة ونفقاتها وفق الشروط والأحكام المنصوص عليها بموجب قانون تنظيمي.
3- الصلاحية المالية: وهي تتجلى في حق البرلمان بالموافقة على مشاريع القوانين المالية، ولاسيما قانون الموازنة، انطلاقا من مبدأ عدم إمكانية فرض أعباء ضريبية أو مالية على الشعب قبل موافقته على ذلك من خلال ممثليه.
إلا أن دستور الجمهورية الخامسة أخذ ببعض القيود المحددة لسلطة البرلمان في هذا المجال. ومن أهم هذه القيود:
– منع المبادرة البرلمانية في مجال النفقات فأعضاء البرلمان لا يحق لهم اقتراح أي تعديل على مشاريع القوانين المالية من شانه زيادة أو إحداث النفقات العامة أو تخفيض الإيرادات. وذلك منعا لسياسة محاولة كسب عطف وتأييد القطاعات الشعبية التي قد يلجأ إليها بعض البرلمانيين.
– إعطاء البرلمان مهلة 70 يوما كحد أقصى لدراسة مشروع قانون الموازنة والتصويت عليه وذلك من تاريخ إحالة المشروع إليه من طرف الحكومة. وإذا لم يتم التصويت على المشروع خلال المدة المحددة جاز للحكومة أن تضعه موضع التنفيذ بمرسوم.
4- الصلاحية التأسيسية: أعطى الدستور لأي عضو من أعضاء البرلمان الحق باتخاذ المبادرة لتعديل الدستور. وأعلن أن كل اقتراح بالتعديل ينبغي أن يعرض على كل من مجلسي البرلمان لإقراره بصورة منفردة بالأغلبية المطلقة للأصوات المعبر عنها وذلك قبل عرضه حتما على الاستفتاء الشعبي لإقراره بصفة نهائية. أما إذا تعلق الأمر بمشروع قانون تعديل صادر عن رئيس الجمهورية، بناء على اقتراح من الوزير الأول، فإن كلا من مجلسي البرلمان يحق له أيضا أن يصوت على المشروع بالأغلبية المطلقة للأصوات. وبعد ذلك يمكن لرئيس الجمهورية أن يدعو الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ لعقد جلسة مشتركة لإقرار مشروع التعديل بأغلبية ثلاثة أخماس الأصوات وذلك بدلا من عرضه على الاستفتاء الشعبي.
5- الصلاحية القضائية: وتتجلى هذه الصلاحية في حق البرلمان بإصدار قانون بالعفو العام على المحكومين وفي حقه أن ينتخب من بين أعضائه هيئة محكمة العدل العليا التي يعود لها اختصاص محاكمة رئيس الجمهورية وأعضاء الحكومة والمواطنين في بعض الحالات الخاصة.
6- الصلاحيات السياسية المتفرقة: وهي تتمثل بصورة رئيسية في حق البرلمان بالتصديق على بعض المعاهدات الدولية، وبالإذن للحكومة بإعلان حالة الحرب، وبتمديد حالة الطوارئ بعد إعلانها من جانب الحكومة لمدة 12 يوما.

ج) تنظيم العمل البرلماني وعقلنته: يتميز دستور الجمهورية الخامسة بتنظيمه للعمل البرلماني وعقلنته بشكل جعله خاضعا، إلى حد كبير، لهيمنة الحكومة وإشرافها. ولقد كانت الغاية الأساسية من هذا التنظيم الحد من شطط أعضاء البرلمان في استعمالهم حقوقهم، ولاسيما في مجال مراقبة الحكومة، الأمر الذي كان يعتبر من بين العوامل الهامة لعدم الاستقرار الحكومي في ظل الجمهوريتين الثالثة والرابعة.
ويتجلى تنظيم العمل البرلماني، علاوة على ما سبقت الإشارة إليه بالنسبة لطريقة التصويت على ملتمس الرقابة والأغلبية المطلوبة للموافقة عليه، في بعض القواعد التفصيلية التي يمكن أن نذكر من أهمها:
– حق الحكومة في التحكم بترتيب جدول أعمال المجلس البرلماني وتحديد الأولوية بالنسبة للنقاط الواردة فيه. وبهذا تستطيع الحكومة أن تؤخر إلى ما لا نهاية الاقتراحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان والتي لا تحبذ دراستها أو تصويت المجلس عليها.
– حق الحكومة في أن تدفع بعدم القبول كل اقتراح قانون صادر عن أحد أعضاء البرلمان أو تعديل تتقدم به على مشروع قانون مقدم من قبلها. وذلك إذا رأت أنه يتجاوز حيز القانون أو يناقض تفويضا سبق للبرلمان أن أعطاه للحكومة بشأن التشريع في مواضيع محددة وفي مدة لم ينته أجلها بعد. ويحق للوزير الأول ولرئيس المجلس البرلماني أن يرفع الخلاف حول هذا الأمر إلى المجلس الدستوري للبت به في ظرف ثمانية أيام.
– ويحق للحكومة بعد افتتاح المناقشة العامة حول مشروع قانون ما في أي من المجلسين أن تدفع بعدم القبول كل تعديل لم يتقدم به عضو المجلس سابقا أثناء دراسة المشروع أمام اللجنة البرلمانية المختصة.
– وتستطيع الحكومة أن تضمن إجراء الحكومة المناقشة العامة حول مشروع القانون كما ورد في النص الأصلي الذي تقدمت به. وخلال المناقشة يمكن تناول التعديلات المقترحة من قبل البرلمانيين أثناء دراسة المشروع في اللجان المختصة.
– ويمكن للحكومة أن تطلب التصويت على نص المشروع كليا أو جزئيا حسب المواد. وبهذا الأسلوب يمكنها أن تلزم المجلس على التصويت مرة واحدة على كل النص أو على جزء منه وبذلك تستبعد عمليا المقترحات المقدمة من الأعضاء والتي لا تروق لها.
– وتطيع الحكومة كذلك أن تربط مصير استقرارها بالحكم بمصير نص تشريعي تقدمت بمشروعه وكذلك بطرحها لقضية طلب الثقة على أساس هذا النص.
ومن مظاهر تنظيم العمل البرلماني، أخيرا وضع قواعد تفصيلية محددة للأسئلة الخطية التي يمكن لأعضاء البرلمان أن يوجهوها للحكومة، وتخصيص جلسة واحدة بالأسبوع فقط، أثناء الدورات لطرح الأسئلة الشفهية والإجابة عليها.

خامسا: المؤسسات الجانبية
نص دستور 1958 على إنشاء بعض المؤسسات الجانبية ذات الطابع السياسي أو القضائي أو الاستشاري، وهذه المؤسسات هي: المجلس الدستوري، ومحكمة العدل العليا، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي.

أ) المجلس الدستوري: وهو مجلس ذو طابع سياسي وقضائي، يتألف من فئتين من الأعضاء: الأعضاء حكما وهم رؤساء الجمهورية السابقين الذين ما زالوا على قيد الحياة، والأعضاء بالتعيين وعددهم تسعة.
ويعين هؤلاء كل من رئيس الجمهورية، ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ على أساس ثلاثة أعضاء لكل منهم. ويعود لرئيس الجمهورية حق تعيين رئيس المجلس من بين هؤلاء ومدة ولاية المجلس تسع سنوات وينبغي أن يجدد ثلث أعضاء المجلس المعينين كل ثلاث سنوات. ولا يحق لهؤلاء الجمع بين عضويتهم في هذا المجلس والعضوية في الحكومة أو البرلمان أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي.
ويمارس المجلس عدد من الاختصاصات من أهمها:
– مراقبة دستورية القوانين العادية والتنظيمية والنظام الداخلي للجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ والمعاهدات الدولية وذلك قبل نشرها ودخولها حيز التنفيذ. وإذا أعلن المجلس عدم دستورية أي من هذه الأعمال كان من نتيجة ذلك تأجيل تنفيذها لحين تعديلها بما يتوافق وأحكام الدستور. وينظر المجلس في دستورية هذه الأعمال بناء على طلب رسمي من رئيس الجمهورية، أو الوزير الأول أو رئيس الجمعية الوطنية أو رئيس مجلس الشيوخ و ستين عضوا من أعضاء الجمعية الوطنية أو مجلس الشيوخ.
– السهر على احترام السلطات العامة لقاعدة العمل ضمن الاختصاصات التي حددها لها الدستور. وينظر المجلس في الخلاف الذي ينشأ بين الحكومة والبرلمان في هذا الصدد بناء على طلب من الوزير الأول أو أي من رئيسي المجلسين وينبغي عليه أن يبث في الخلاف في ظرف ثمانية أيام.
– مراقبة عملية الاستفتاء والانتخابات البرلمانية والرئاسة والفصل في النزاعات القائمة بشأنها.
– إعلان حالة المنع التي يكون رئيس الجمهورية فيها غير قادر على القيام بمهامه الدستورية.
– إبداء آراء استشارية لرئيس الجمهورية في حال لجوء هذا الأخير لممارسة السلطات الاستثنائية بموجب المادة 16 من الدستور.

ب) محكمة العدل العليا: وهي هيئة قضائية مؤلفة من 24 عضوا أصيلا و 12 رديفا. وتنتخب الجمعية الوطنية نصف هؤلاء من بين أعضائها كما ينتخب مجلس الشيوخ النصف الآخر من بين أعضائه أيضا.
وتتولى المحكمة محاكمة رئيس الجمهورية في حال اتهامه بارتكاب الخيانة العظمى. وذلك بعد صدور قرار الاتهام في الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ كل على حدة وبالأغلبية المطلقة لعدد الأعضاء.
كما تقوم المحكمة بمحاكمة الوزراء في حال ارتكابهم لجرائم وجنح خلال ممارستهم لوظائفهم. وكذلك بمحاكمة أي مواطن في حال مشاركته لأعضاء الحكومة في ارتكاب الجرائم والجنح ضد سلامة الدولة.

ج) المجلس الاقتصادي والاجتماعي:  وهو مجلس استشاري تتمثل فيه مختلف الفئات المهنية في البلاد، ويقوم بمهمة المستشار للحكومة في القضايا ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي.
ويتألف المجلس من أعضاء تكلفهم المنظمات المهنية، وأعضاء تختارهم الحكومة. وهناك أعضاء دائمون في المجلس وأعضاء مؤقتون لحضور بعض الجلسات. فالأعضاء الدائمون تختارهم كافة المنظمات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد لمدة خمس سنوات وعددهم 200 عضو. أما الأعضاء المؤقتون فتعينهم الحكومة لمدة سنتين بسبب اختصاصاتهم وعددهم نحو 70 عضوا.
وسلطات المجلس استشارية فقط. والغاية من إيجاده تشجيع التعاون بين مختلف الفئات المهنية، وتأمين مشاركة هذه الفئات في تحديد السياسة الاقتصادية والاجتماعية للحكومة. كما يقوم المجلس بدراسة اقتراح التعديلات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية بسبب التقدم العلمي.
ويمكن للمجلس أن يقوم بمهامه بناء على طلب يقدمه الوزير الأول باسم الحكومة أو بناء على مبادرة خاصة منه. وتكون الحكومة ملزمة بطلب استشارة المجلس حين يتعلق الأمر بمشاريع قوانين البرامج أو الخطط ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي. ( وذلك باستثناء القوانين المالية). ويمكنها أن تطلب رأيه في مشاريع القوانين أو المراسيم أو اقتراحات القوانين التي تدخل ضمن نطاق اختصاصه، كما يمكنها أن تطلب إليه تقديم بعض الآراء أو الدراسات الخاصة.
ويستطيع المجلس أن يتخذ المبادرة للفت انتباه الحكومة للإصلاحات التي من شانها بنظره، أن تساعد على تحقيق الأهداف التي أنشئ من أجلها، ولبيان رأيه بشأن تنفيذ الخطط والبرامج ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي. كما يستطيع المجلس أن يعين عضوا منه ليشرح أمام البرلمان وجهة نظره حول النصوص التي عرضت عليه.

    

ملاحظة أساسية

المحتويات

تقديم

الباب الأول: القسم النظري

        القسم الأول: مفهوم الدول النامية

        القسم الثاني: النظام السياسي الغربي والنظام السياسي الاشتراكي
                    الفصل الأول: النظام السياسي في المجتمعات الغربية
                    الفصل الثاني: النظام السياسي في المجتمعات الاشتراكية

الباب الثاني: القسم التطبيقي

       القسم الأول: مرحلة ما قبل منتصف الثمانينات

                    الفصل الأول: الخصائص العامة للحياة السياسية
                                المبحث الأول: أسباب فشل نقل التجارب الدولية
                                المبحث الثاني: خصائص الحياة السياسية
                    الفصل الثاني: تطبيقات الأنظمة السياسية
                                المبحث الأول: الإطار الدستوري
                                             أولا: دساتير مقتبسة أو منقولة
                                             ثانيا: مراحل تكون الحركة الدستورية
                                المبحث الثاني: الأنظمة السياسية
                                             المطلب الأول: الأنظمة الديمقراطية (النظام البرلماني، النظام الرئاسي)
                                            المطلب الثاني: الأنظمة الدكتاتورية (الدكتاتورية العسكرية، الحزبية، الفردية، نظام الهيمنة الرئاسية)
       القسم الثاني: مرحلة ما بعد منتصف الثمانينات

                                المبحث الأول: أسباب الأخذ بالنظام الديمقراطي أو العودة إليه

                                المبحث الثاني: أشكال اعتماد الديمقراطية

دراسة النماذج

                                المبحث الأول: التجربة المغربية (مرحلة ما قبل الحماية، مرحلة الحماية، مرحلة ما بعد الاستقلال)
                                المبحث الثاني: التجربة الجزائرية (مرحة ما قبل أحداث أكتوبر 1988، مرحة ما بعد أحداث أكتوبر 1988)
                                المبحث الثالث: التجربة الموريتانية (النظام السياسي قبل سنة 78، المرحلة العسكرية 78- 84 ، من 84 إلى الآن)
                                نموذج ناجح من التجارب  البرلمانية : الهند
                                نموذج عن نظام الحزب المسيطر : حالة المكسيك

 

 

 

 

 

 

تقديـم

إن دراسة الأنظمة السياسية للبلدان النامية، تقتضي أن نحدد في البداية مفهوم النظام السياسي. إنه يعني مجموع المؤسسات السياسية التي تتقاسم مسؤولية التقرير والحكم في المجتمع السياسي أو التأثير عليه.
والمؤسسات السياسية تشمل بصفة عامة كل مل يؤسسه المجتمع من أجهزة وتنظيمات في المجال السياسي. أي الأجهزة التي لا تمارس السلطة فقط (رئاسة الدولة، الحكومة، البرلمان…) أو تلك التي ينص عليها الدستور (الانتخابات، المجلس الدستوري…)، بل أيضا تلك التي تؤثر فيها (الأحزاب السياسية، الجماعات الضاغطة…).
وبناء على مزاولة مؤسسات الحكم للسلطة، يوصف النظام بالرئاسي إذا كانت المسؤولية بين يدي شخص واحد غير مسؤول أمام نواب الشعب (كالنظام الرئاسي الأمريكي)، أو يوصف بالنظام البرلماني إذا كانت الحكومة غير مسؤولة أمام المجلس التشريعي (كالنظام البريطاني)، أو النظام المجلسي إذا كانت المسؤولية بيد هيأة عليا (النظام السويسري)، أو نظام الحزب الوحيد (كالنظام السوفييتي).
وتبعا لذلك، فإن الدراسة الموضوعية للنظام السياسي تستوجب دراسة جميع هذه المؤسسات السياسية، ليس فقط من أجل معرفتها في حد ذاتها، ولكن أيضا لمعرفة علاقاتها بمختلف عناصر النظام الاجتماعي : العوامل الاقتصادية و الثقافية و الإيديولوجية و التقنية    والتاريخية…
وتكتسي دراسة الأنظمة السياسية في دول العالم الثالث ميزة خاصة تتمثل في أن هذه الأنظمة نشأت و تطورت في بيئة تختلف جذريا عن البيئة التي ظهرت فيها.
وإذا كنا سنحلل بعض الأنظمة السياسية من الدول النامية (القسم التطبيقي)، فإننا سنحلل في البداية بعض المفاهيم والمبادئ العامة التي لها علاقة بمفهوم الدول النامية وبالنظام السياسي الغربي    والاشتراكي (القسم النظري).
الباب الأول: القسم النظري
سنحلل في هذا الباب الأول مفهوم الدول النامية (القسم الأول)، ثم النظام السياسي في المجتمعات الرأسمالية والنظام السياسي في المجتمعات الاشتراكية (القسم الثاني).
القسم الأول: مفهوم الدول النامية
 سنتجاوز في البداية مشكل المصطلحات المستعملة للدلالة على البلدان النامية : العالم الثالث، الدول المتخلفة، الدول السائرة في طريق النمو، الدول السائرة في طريق التخلف…
وسنركز هنا بإيجاز شديد على مفهوم العالم الثالث، ونظريات تفسير التخلف.

المبحث الأول : مفهوم العالم الثالث

إن هذا المفهوم لا يعني في البداية ثلث العالم، لأن كل المقاييس المستعملة لا يمكن أن تؤدي إلى تطابق العالم الثالث مع ثلث العالم.
كذلك هناك صعوبة في جعل مفهوم العالم الثالث متطابقا مع القارات الثلاثة : أمريكا اللاتينية، آسيا (مثلا حالة اليابان).
لذا يبقى علينا أن نستعمل محددات أخرى (متفاوتة الأهمية) للإحاطة بهذا المفهوم :
–     التحديد الجغرافي : ويقصد به انتشار جغرافي معين، لكن غير محدد بدقة. فهو قبل المرحلة الاستعمارية كل ما ليس بأوربا، لكن خلال هذه المرحلة انفصلت مجموعة من الأقاليم من “العالم الثالث” وأصبحت تنتمي إلى أوربا (مثلا الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، أستراليا…). أما بعد زوال الاستعمار فقد أصبح هذا المجال يشمل مجموع الأراضي، الواقعة في إفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا، حيث تشكل الشعوب غير الأوربية غالبية السكان.
ويمكن أن نشير هنا أيضا إلى لتحديد المناخي الذي يربط بين دول العالم الثالث والمناخ الاستوائي والمداري الغالب في معظم المساحات من هذا المجال الجغرافي.
–     التحديد البشري : يجد العالم الثالث هويته من  هذه الزاوية في التنوع القومي. فالعالم الثالث هو كل مكان لا تشكل فيه الشعوب الأوربية أغلبية السكان.
–     التحديد التاريخي : ويلاحظ هنا أن مركز الحضارات القديمة (المصرية، السومرية، الصينية، الهندية…) والإمبراطوريات الأولى قد تشكلت في مجالات جغرافية تنتمي اليوم إلى العالم الثالث.
–     التحديد السياسي : وهو التحديد الذي يطبق بين العالم الثالث وبين “الطبقة الثالثة” في التاريخ الفرنسي. فالعالم الثالث في مواجهة الدول المتقدمة بنفس الدور الذي قامت به البورجوازية تجاه طبقتي النبلاء والكهنوت.
–     التحديد الاقتصادي : ويتعلق الأمر هنا بتحديد يتوخى الدقة : دول العالم الثالث هي دول متخلفة أم دول سائرة في طريق النمو أم دول نامية ؟

المبحث الثاني : نظريات تفسير التخلف

1-    النظريات الشائعة
–        هناك أولا النظريات التي بين التخلف والفقر، فيحاول أنصارها الاستدلال على ذلك إما بمجموعة من المؤشرات الجزئية (الصحة، الأمية، التغذية، التزايد السكاني، نسبة الوفيات،…)، وإما عن طريق مؤشر عام (متوسط الدخل الفردي).
–        نظرية روستو: وهي نظرية شاملة تقوم على أساس خمسة مراحل مرت بها، أو لابد أن تمر بها، جميع المجتمعات. وهذه المراحل هي: مرحلة المجتمع التقليدي، مرحلة الظروف السابقة للنمو، مرحلة الإقلاع، مرحلة النضوج، ثم مرحلة الاستهلاك الجماهيري.
–        نظرية التزايد السكاني: تعتبر التخلف ناتج عن هذه الظاهرة الديموغرافية.
–        نظرية حلقات الفقر المفرغة: إن التخلف حسب هذه النظرية ناتج عن حلقة مفرغة تدور فيها الدول المتخلفة نتيجة فقرها. “إن شعوب البلدان السائرة بطريق النمو هي في حالة من الجوع لأنها فقيرة. و لأن الشعب في حالة مريعة من الفقر، فهو لا يستطيع الادخار. ولأنه لا يستطيع الادخار فليس في وسعه أن يوفر الرساميل من أجل توفير الغذاء عن طريق إقامة المؤسسات الزراعية والصناعية… والنتيجة تقود إلى ظهور انخفاض مذهل في الإنتاج و الإنتاجية، و بالتالي صعوبة أكبر في إنشاء المؤسسات من فائض الإنتاج والإنتاجية. ولأنه لا توجد صعوبة في إقامة المؤسسات والمعامل، فإن هذا يؤدي إلى إيجاد أماكن عمل قليلة، ويؤدي بالتالي إلى أن يكون المجموع الإجمالي للأجور أقل، لقلة عدد العاملين. و لأن الأجور أقل فإن الضرائب التي تجنيها الدولة بنتيجة ما يفرض على الأجور من رسوم وخصومات هو أقل أيضا. ولأن الضرائب أقل فإن ما يوجد في خزانة الدولة من أموال سيكون أقل و لن تكون وافرة بما فيه الكفاية… ولن تستطيع الدولة تأمين الغذاء والصحة والتربية والسكن والتأهيل، ومن لا يستطيع الحصول على التأهيل لا يستطيع العمل، أي لا يحصل على أجر، وبالتالي لا يستطيع أن يشتري الغذاء، وسيبقى في حالة فقر وجوع”.
–        النظريات السوسيولوجية : أي النظريات التي تفسر التخلف من خلال العوامل الاجتماعية، الدين أو العامل السكاني…
إن هذه النظريات التبسيطية لا يمكن أن تفسر ظاهرة التخلف. فهي أحيانا تحاول وضع دول العالم الثالث في نفس ظروف الدول المتقدمة عند انطلاق التنمية بها، وفي هذا قفز على الواقع لا يأخذ بعين الاعتبار الصدمة الناتجة عن اصطدام دول العالم الثالث في نفس ظروف الدول المتقدمة عند انطلاق التنمية بها، وفي هذا قفز على الواقع لا يأخذ بعين الاعتبار الصدمة الناتجة عن اصطدام دول العالم الثالث بالاستعمار ومسلسل انخراطها في المنظومة العالمية؛ وأحيانا تحاول البحث عن مؤشرات تميز العالم الثالث عن الدول المتقدمة دون أن يكون ذلك صحيحا دائما: إن بريطانيا و ألمانيا قد نمتا بين 1870 و 1910 رغم الارتفاع الشديد في التزايد السكاني (58 في المائة خلال 40 عاما) بينما بقيت الهند متخلفة خلال نفس الفترة رغم أن عدد سكانها لم يرتفع إلا بنسبة 19 في المائة.
أما نظرية الحلقات المفرغة فلا تقدر على تفسير كيف كسرت الدول المتقدمة حاليا هذه الحلقات.
2-    نظرية التراكم على الصعيد العالمي 
لقد طور المفكر سمير أمين نظريته حول “نمو التخلف” بناء على أن وجود سوق عالمية  رأسمالية قائمة بشكل يسمح للمركز بأن ينمو ويدفع المحيط إلى المزيد من التخلف. و يرجع هذا إلى عوامل متعددة: التخصص الدولي غير المتكافئ، التبادل غير المتكافئ،…

 هذا وينبغي أن نشير في الأخير إلى بعض المشاكل الأساسية التي يعاني منها العالم الثالث، وهي: النمو السكاني، الأزمة الغذائية، نقل التكنولوجيا، هجرة الكفاءات العلمية، الاستثمارات الأجنبية، المديونية، ومشكل الفساد الإداري الذي سنعالجه لاحقا بشكل مفصل.

القسم الثاني: النظام السياسي الغربي والنظام السياسي الاشتراكي
الفصل الأول : النظام السياسي في المجتمعات الغربية
 سنعالج في هذا المبحث الأفكار الأساسية التي تميز الحضارة الغربية (المبحث الأول)، ثم مفهوم الليبرالية السياسية (المبحث الثاني).

المبحث الأول : الأفكار الأساسية في الحضارة الغربية

تتميز الحضارة الغربية بأفكار تعتبر أساسية وتتمثل فيما يلي:
أولا : الثقة بالفرد
لقد لعبت مختلف المراحل التاريخية دورا في تأكيدها سواء خلال العصور القديمة أو من خلال دور المسيحية، ثم الإقطاع، ثم فلسفة عصر الأنوار.
وقد تمركزت هذه الثقة من خلال مبدأ المساواة والحرية، ومن خلال تطبيقهما في تكافؤ الفرص وشمولية الاقتراع…
ثانيا: الإيمان بفضيلة الحوار
والمتجسد من خلال مستويات متعددة: حوار بين النائب والناخب، حوار بين الأغلبية والأقلية،…
ثالثا: التنظيم العقلاني
ويتمثل في: النظام التمثيلي، رقابة ممثلي الأمة على الحكام، تحديد مدة الانتخاب، إتباع رأي الأغلبية دون التقيد بمبدأ الإجماع.
 رابعا: أنظمة البحث عن التوازن
إن الأنظمة الغربية تتميز بتوازن بين مختلف مكوناتها يظهر في شكل معادلات، وعلى جميع الأصعدة. فهناك :
المعادلات الاجتماعية: والمتمثلة في تطور مختلف أنواع الأنظمة الانتخابية.
المعادلات السياسية: والمتمثلة في وجود أغلبية ومعارضة.
المعدلات المؤسساتية: وتتمثل في وجود سلطة مركزية مقابل سلطة محلية، وداخل السلطة المركزية معادلة بين الحكومة والبرلمان (رغم اختلاف الأسلوب البرلماني عن الأسلوب الرئاسي).
المبحث الثاني: مفهوم الليبرالية السياسية
رغم أن هدف الليبرالية السياسية واضح، فإن أساليبها متنوعة، مما يؤدي إلى صعوبة تحديدها. فالهدف العام لليبرالية السياسية هو الاعتراف للمحكومين بالحريات في أقصى معانيها أي ممارسة الحريات دون ضغوط من الدولة. أما الوسائل فمتعددة، وتتمثل في:
–        منح الحقوق والحريات للأفراد مع ضمانات لصالحهم ضد الدولة.
–        التركيز على إحدى الحريات الرئيسية وهي حق الفرد في إدارة الشؤون العامة بنفسه (أو بواسطة من يختارهم)، أي اعتماد الديمقراطية.
وقد توسعت هذه الفكرة الأخيرة لدرجة أن أصبحت الليبرالية مرادفة لحق التصويت أي للحقوق السياسية. فالديمقراطية بهذا المعنى هي مثال للدولة الليبرالية.
لكن مع ذلك فإن الليبرالية لا تقتصر على الديمقراطية وحدها:
*        فهناك الديمقراطية الليبرالية التي تعتمد رأي الأغلبية الخاضعة لبعض القيود مثل:
–               حقوق وحريات الأفراد.
–               إسناد الحكم السياسي إلى الأغلبية.
–               عدم القضاء على الأقلية أو تصفية المعارضة.
*        وهناك الديمقراطية غير الليبرالية المتمثلة في اعتماد رأي الأغلبية فقط، أي الديمقراطية التي قد تتحول إلى سلطة تعسفية (مثال فرنسا في عهد الجنرال ديغول).
الفصل الثاني: النظام السياسي في المجتمعات الاشتراكية
 سنعالج هذا الموضوع من خلال الأساس الإيديولوجي (المبحث الأول)، ثم من خلال التنظيم السياسي (المبحث الثاني).

المبحث الأول: الأساس الإيديولوجي للمجتمعات الاشتراكية

تعتمد الإيديولوجية على كتابات كارل ماركس وإنجلز ولينين الذين وضعوا تصورا لمجتمع اشتراكي أو شيوعي.

أولا : الأسس الفلسفية

وتتمثل في تفسير مادي شامل للعالم قائم على أن المادة هي الحقيقة الأساسية، أما الفكر والروح فليسا سوى حصيلة ظواهر مادية. إنها المادية التاريخية التي تفسر تطورات المجتمعات الإنسانية عن طريق العناصر المادية.

ثانيا: العقيدة الاجتماعية

وتقوم على أساس أن المجتمع، وبالتالي العلاقات بين البشر، تتحدد بالظروف المادية التي تحيط بالظواهر الفكرية وتؤثر فيها. وفي هذا الإطار تعتبر تقنية الإنتاج العامل الحاسم. وهكذا يتم التمييز بين البنيات التحتية (القوى الاقتصادية وعلاقات الإنتاج والتقنيات…)، والبنيات الفوقية (الأشكال السياسية والأخلاق والقانون والدين والفن…).
كما أن العقيدة الاجتماعية تعتمد التفسير من خلال وجود الطبقات المتمايزة وبالتالي الصراع الطبقي.

ثالثا: العقيدة الاقتصادية

إن قيمة الشيء تقاس بكمية العمل الداخلة فيه. ولذلك تقتطع الرأسمالية من عمل العامل فائض القيمة وتغتصبه، وعلى العمال وعي هذه الحقيقة والتعجيل بسير التاريخ.

رابعا: العقيدة السياسية

–        الدولة: وقد ظهرت مع التقسيم الطبقي ولذلك فهي أداة للتنظيم السياسي للطبقة الحاكمة اقتصاديا. وزوال هذه الدولة مرتبط بتحقيق النظام الاشتراكي.
–        دور البروليتاريا: انقسم أنصار النظرية الاشتراكية بهذا الصدد إلى اتجاهين رئيسيين :
فالاشتراكيون الغربيون تعتمدون الأسلوب التطوري، أي استعمال الديمقراطية للاستيلاء على السلطة وتحقيق الاشتراكية.
أما أنصار المذهب اللينيني فيعتمدون الأسلوب الثوري الذي يعتبر القوة المولد الحقيقي للمجتمعات.
إن الأبعاد النهائية المرتقبة تتلخص في مرحلة أولى تجسد استمرارية الدولة من خلال دكتاتورية البروليتاريا للوصول إلى الاشتراكية الحقة والشيوعية التي ستؤدي إلى زوال الدولة.

المبحث الثاني: النظام السياسي الاشتراكي

إن الغرب يعتبر أن الحياة السياسية في إطار النظام الاشتراكي هي حياة الدولة المركزية الدكتاتورية. أما أنصار هذا النظام فيعتبرونه شكلا جديدا للديمقراطية.

أولا: التأكيد على الديمقراطية

إذ أن أنصار النظام الاشتراكي يعتبرون أن الديمقراطية في النظام الغربي ديمقراطية شكلية نظرا لوجود الصراع الطبقي وبالتالي الحكم البرجوازي.

ثانيا: تقليد المخطط الدستوري الغربي

رغم التناقض في وجهات النظر فإن النظام السياسي الاشتراكي يعتمد صيغة الدستور المكتوب، ومبدأ سمو الدستور، والاقتراع العام المباشر… كما أنه يعتمد مؤسسات تتشابه مع ما هو بالغرب: رئيس الدولة، رئيس الحكومة، الحكومة، البرلمان،…
الباب الثاني: القسم التطبيقي
سنعالج في هذا القسم التطبيقي الأنظمة السياسية لدول العالم الثالث، على أننا سنميز بين مرحلة مل قبل الثمانينيات (القسم الأول) وما بعدها (القسم الثاني)، جاعلين انهيار المعسكر الاشتراكي الحدث الفاصل بين المرحلتين.
القسم الأول: مرحلة ما قبل منتصف الثمانينيات
تمتد هذه المرحلة، بصفة عامة، منذ حصول الدول النامية على الاستقلال إلى غاية صعود غورباتشوف إلى رئاسة الاتحاد السوفيتي. وإذا قلنا بصفة عامة فلأن هذه المرحلة تبدأ بالنسبة لدول أمريكا اللاتينية منذ القرن التاسع عشر، وتبدأ من منتصف القرن العشرين بالنسبة لباقي الدول النامية. كما أن نهاية هذه المرحلة ليست واحدة بالنسبة لكل الدول المعنية.
ومن أجل أخذ فكرة واضحة عن هذه المرحلة، فإننا سنعالج الخصائص العامة للحياة السياسية بهذه الدول (الفصل الأول)، قبل الدراسة التطبيقية لأنظمتها السياسية ( الفصل الثاني).
 الفصل الأول : الخصائص العامة للحياة السياسية
 إذا كانت الحياة السياسية تتميز بتأثير واضح للإرث الاستعماري، فإنه ينبغي أن نبحث في البداية عن الأسباب المختلفة التي تفسر فشل عملية نقل التجارب الدولية السائدة في هذه المرحلة (المبحث الأول). إلا أن هذه التفسيرات تبقى نظرية فقط إذا لم نعالج خصائص هذه الحياة السياسية (المبحث الثاني).
المبحث الأول: أسباب فشل نقل التجارب الدولية
إن ما يميز تجربة دول العالم الثالث هو محاولة الاستفادة من التجارب الدولية القائمة؛ وبالتالي لم يكن أمامها إلا التأقلم مع الإرث الاستعماري ونقل التجارب الغربية للدول الاستعمارية التي تركت بصمات واضحة على الأنظمة السياسية رغم رحيلها، أو اعتماد التجربة النقيض المتمثلة في النظام الاشتراكي. إلا أن عدم اكتمال تأسيس الأمة أثر بشكل جلي على مستقبل هذه التجارب (المطلب الأول).
إضافة إلى ذلك، يعتبر التخلف الاقتصادي ميزة لا يمكن تجاوزها في أي تحليل، إذ أن مظاهر هذا التخلف والجهود اللازمة لإنجاح العملية التنموية تفرض اعتماد أساليب تُدخِل تعديلات جوهرية على النموذج الذي تم اختياره (المطلب الثاني).
المطلب الأول: عدم اكتمال تكوين الأمة
تعتبر بعض الفقهاء أن الدولة ليست إلا نتيجة لتكوين الأمة. ولذلك فإرادة الأمة باعتبارها تجمعا بشريا يرتبط أفراده بروابط مادية (العِرق، اللغة، الدين،…) أو هما معا، تتجسد في شكل سياسي وقانوني واحد. وهذا شرط أساسي لنجاح تأسيس الدولة (التجربة الفرنسية، البريطانية، الألمانية، الإيطالية،…).
وإذا كانت هناك تجارب أخرى بينت العكس، أي أن تأسيس الدولة هو الذي كان السبب في تكوين الأمة، فإن نجاح هذه التجارب كان يستند على وجود عوامل ساعدت على انصهار المجموعة البشرية ودعمت روابطها (التجربة الأمريكية).
أما فيما يخص تجربة العالم الثالث فإنها قد اصطدمت بعراقيل (الفرع الأول) ترتبت عنها نتائج سلبية في جلها (الفرع الثاني).

الفرع الأول : العراقيل

إن دول العالم الثالث بصفة عامة، حصلت على استقلالها وفق سياسة استعمارية اعتمدت التقسيم والبلقنة. وهذا ما جعل تكوين الأمة يصطدم بعراقيل مختلفة، منها ما هو جغرافي (أولا)، ومنها ما هو عرقي أو لغوي (ثانيا)، إضافة إلى استمرارية الهياكل الاجتماعية التقليدية وتعايشها إلى جانب هياكل وقطاعات عصرية (ثالثا).
أولا: العراقيل الجغرافية
إذا كان استمرار الإقليم أو التجاور الجغرافي يساعد على تكوين الأنة، فإن بعض دول العالم الثالث تعاني من بعض هذه المشاكل. فإندونيسيا تتكون من آلاف الجزر الموزعة على ما يقرب من خمس المحيط الهادي. أما باكستان عند استقلالها فقد كانت مقسمة إلى باكستان الغربية وباكستان الشرقية وتفصل بينهما 2400 كلم عند أقرب نقطة، مما فتح المجال سنة 1971 إلى استقلال هذه الأخيرة تحت اسم بنغلادش. أما القارة الإفريقية، فإنها تعاني من مخلفات التقسيم الاستعماري، لذا فقد حاولت تفادي المشاكل المترتبة عن هذا الوضع بإقرار مبدأ عدم المس بالحدود الموروثة عن الاستعمار في ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية. إلا إن مساوئ هذا المبدأ تتمثل في أنه لا تساعد على تكوين الأمم بشكل قوي، مما يؤثر سلبا على تأسيس الدولة.
ثانيا: انعدام الترابط العرقي أو اللغوي
تعرف جل دول العالم الثالث ظاهرة التنوع العرقي الذي يعرقل بناء الدولة القوية وتشكيل الأمة بشكل واضح، لأنها عادة ما يكون سبب الاضطرابات و الحروب الأهلية. ويمكن إرجاع سبب هذه الظاهرة أساسا إلى الدور الذي لعبه الاستعمار عند تقسيمه لمناطق النفوذ، وإلى الهجرات التي عرفتها جل هذه المجتمعات.
وقد أدى ضعف الترابط العرقي إلى العديد من محاولات الانفصال التي نجح بعضها (باكستان، بنغلادش) وفشل البعض الآخر (نيجيريا، الزايير، السودان،…)
وإلى جانب ذلك، تعدد اللغات واللهجات بشكل لا يساعد على تمتين الروابط بين أعضاء المجموعة الواحدة. وقد يصل الأمر إلى درجة استعمال لغة المستعمِر كلغة رسمية.
وفي بعض الحالات، يتعمق المشكل بانعدام الوحدة الدينية، مما يجعل عدة ديانات “تتعايش” بشكل لا يكون دائما سلميا.
وتشكل حالة الهند نموذجا للتعدد العرقي واللغوي والديني.
 ثالثا: استمرارية خصائص المجتمع التقليدي
إن مجتمعات دول العالم الثالث تعرف عدم الانسجام بين مكوناتها، نتيجة انفتاح بعض القطاعات على العالم “العصري”، مع استمرار خصائص المجتمع التقليدي. وهذا ما جعل هذه المجتمعات تتميز بظاهرة الثنائية سواء على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي.
فعلى الصعيد الاجتماعي، نلاحظ الثنائية في كل المجالات: ثقافة تقليدية إلى جانب ثقافة عصرية، تباين بين المدينة والبادية، وحتى داخل المدينة الواحدة تناقض بين العمران ومدن القصدير المنتشرة نتيجة الهجرة الريفية القوية إلى المدينة.
أما على الصعيد الاقتصادي، فنلاحظ: قطاع تقليدي يعتمد على الزراعة والصناعة التقليديتين، وقطاع عصري يتمثل في زراعة عصرية تصديرية ومؤسسات صناعية وتجارية عصرية.
وفي المجال السياسي، تتجسد هذه الثنائية في استمرارية المؤسسات التقليدية القائمة على العلاقات العائلية والقبلية وما ينتج عن ذلك، إلى جانب المؤسسات التي تقيمها الدولة العصرية.
الفرع الثاني: النتائج
إن النتائج المترتبة عما سبق، تتمثل في نقص الوعي لدى الشعب وعدم امتلاكه لوسائل مراقبة الحكام (أولا)، وعدم رغبة الحكام في الخضوع للمراقبة (ثانيا)، مما يؤدي إلى صعوبة إقامة حوار بين الحكام والمحكومين (ثالثا).
أولا: نقص الوعي لدى الشعب وعدم امتلاك وسائل مراقبة الحكام
إن مجتمعات العالم الثالث، نتيجة حدة التناقضات والمشاكل وانتشار الأمية، لم تستطع أن تشكل رأيا عاما يكُون ترجمة لثقافة سياسية. ويضاف إلى هذا احتكار الدولة لوسائل الإعلام الرئيسية في البلاد، والمتمثلة في الإعلام السمعي والبصري، الذي يستطيع وحده العمل على توعية أفراد المجتمع (خاصة وأن قراءة الصحف ضئيلة جدا). إن هذه العوامل تجعل الشعب غير قادر على القيام بمهمة مراقبة الحكام التي تعتبر الحجر الأساسي في البناء الديمقراطي.
ثانيا: عدم رغبة الحكام في الخضوع للمراقبة
أما الحكام، فمن جانبهم لا يعملون على توفير الوسائل التي تمكن المجتمع من مراقبة أعمالهم، مما يُصَعب المسؤولية على النخبة السياسية الضئيلة العدد؛ التي إن لم تكن تدعم السلطة مباشرة باعتبارها مستفيدة من تلك الوضعية، فإن تطلعاتها قد تكون بعيدة عن تطلعات المجتمع. لذا فلا يمكن أن تصور هذه المبادرة بالخضوع للرقابة ستأتي من جانب الحكام.
ثالثا: صعوبة إقامة حوار بين الحكام والمحكومين
إن وضعا مثل هذا، لا يستطيع فيه المحكوم أن يراقب الحاكم، ولا يرغب فيه الحاكم في الخضوع لهذه الرقابة، يؤدي إلى صعوبة إقامة حوار بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني.
المطلب الثاني: التخلف الاقتصادي
إن التخلف الاقتصادي يعتبر سببا رئيسيا في جعل المؤسسات السياسية، وبالتالي النظام السياسي، يسير بشكل يختلف عما هو عليه الحال في الدول المتقدمة. فضخامة المسؤولية التنموية تفرض إتباع أساليب تبدو غير ديمقراطية. ولهذا الاتجاه أنصاره الذين يعتبرون أن مظاهر التخلف (الفرع الأول) وضخامة الجهود التي يجب أن تُبذل تجعل سير الديمقراطية الغربية في الدول المتخلفة أمرا صعبا (الفرع الثاني).
الفرع الأول: مظاهر التخلف
من الصعوبة بمكان دراسة كل مظاهر التخلف، لكن هذا لا يمنع من أخذ فكرة موجزة عن بعضها للوقوف على ضخامة هذه المشاكل. وسنكتفي بالإشارة إلى المظاهر التالية:
¬ النمو السكاني
تعرف دول العالم الثالث تزايدا ديموغرافيا واسعا يجعل مسألة توفير الاحتياجات المتزايدة مسألة صعبة.
إن معدلات النمو مرتفعة بالمقارنة مع معدلات الدول المتقدمة لدرجة أن البعض يتحدث عن “القنبلة السكانية”.
¬ الأزمة الغذائية
يربط العديد من الباحثين مسألة الأزمة الغذائية بموضوع التزايد السكاني. فهناك من يعتبر أن ظاهرة الجوع ناتجة عن هذا التزايد، خاصة وأن ثلثي سكان العالم موجودين في العالم الثالث وأن غالبيتهم يعيشون في الأرياف لكنهم لا يستطيعون توفير الأمن الغذائي لأنفسهم. وهناك من يعتبر أن مشكلة الجوع والعجز ظاهرة اجتماعية قبل كل شيء إذ أنها تتعلق بعدم كفاية الإنتاج، بل بسوء توزيعه، إضافة إلى طبيعة النظام الاقتصادي الدولي الراهن والعلاقات الغير المتكافئة وطابع الاحتكار الدولي لتجارة المواد الأساسية في التغذية. وهذا ما يطرح على دول العالم الثالث مهام دولية صعبة إضافة إلى المهمات الوطنية للخروج من هذه الوضعية وتحقيق الأمن الغذائي لنفسها.
¬ نقل التكنولوجيا
إن الظرف الاقتصادي الحديث، الذي يقوم على بروز وتزايد أهمية الاحتكارات العملاقة، لا يسهل عمل المؤسسات الصغيرة المستقلة. وقد أدت هذه الظاهرة إلى ضرورة الاعتماد على القدرة المالية الهائلة وعلى مستجدات البحث العلمي بشكل يجعل الدول المتقدمة وحدها القادرة على السير في هذا الاتجاه.
وإذا كانت دول العالم الثالث قد حاولت اعتماد سياسة تصنيعية، فإن ذلك فَرَضَ استيراد التكنولوجيا تمت في إطار محدود لا يخرج عن القواعد التالية:
بالنسبة للدول المتقدمة والمصدرة:
–        التخلص من التكنولوجيا المتخلفة التي ليس هناك مجال لتطويرها؛
–        طرد الصناعات التافهة أو الملوثة؛
وبالنسبة للدول المتخلفة والمستورِدة:
–        إحلال الصناعات المستورَدة محل الاستيراد؛
–        إقامة صناعات مرتبطة أساسا بالتصدير

وعادة ما يلاحظ أن الصناعات المستورَدة تكون بصفة عامة دخيلة على الهيكل الاقتصادي المحلي، بحيث لا تخرج عن الحالات التالية:

–        إما صناعات محرومة من أي ارتباط لاحق للاقتصاد المحلي؛
–        أو صناعات محرومة من أي ارتباط سابق بالاقتصاد المحلي؛
–        أو صناعات محرومة من أي ارتباط سابق أو لاحق بالاقتصاد المحلي.
¬ هجرة الأدمغة
تمثل هجرة الكفاءات العلمية من دول العالم الثالث إلى الدول المتقدمة نقلا معاكسا للتكنولوجيا. وهي ظاهرة لا تستفيد منها بتاتا الدول التي أنفقت الأموال الطائلة لتكوين  الأطر العالية والمتعددة الاختصاصات. ودون أن نخوض في تفاصيل أسباب هذه الهجرة، نشير إلى اعتمادات البحث العلمي الضعيفة في دول العالم الثالث، وقلة مراكز البحث، وسيطرة جيل الاستقلال على المناصب بشكل يحرم الأجيال الجديدة من المساهمة في تطوير الدولة، والاضطهاد السياسي والعشائري والديني، إضافة إلى ما تقدمه الدول المتقدمة المستفيدة من إغراءات مالية. 
¬ مشكل المديونية
اعتمدت دول العالم الثالث لتمويل سياساتها التنموية على الاستدانة من المؤسسات المالية الخارجية سواء الخاصة أو العمومية أو الدولية. وقد تراكمت الديون إلى أن وصلت درجة أصبحت معها تشكل عبئا على الاقتصاد الوطني. وقد ساهمت المؤسسات المالية الدولية في تأزم الوضع نتيجة فرض سياسة التقويم المالي الذي يعطي الأولوية للتوازنات المالية على حساب السياسة الاجتماعية اللازمة لتلبية حاجيات المواطنين في التعليم والصحة والشغل…
وفي الختام نشير إلى أن هذه المشاكل ليست إلا جزءا يسيرا مما يعاني منه العالم الثالث، يضاف إليها مشاكل الاستثمارات الأجنبية، وتحكم اقتصاديات الدول المتقدمة في أسعار المواد الخام التي تخصصت دول العالم الثالث في تصديرها، ونظام التبادل التجاري الغير المتكافئ،… وباختصار كل ما له علاقة بالنظام الاقتصادي الدولي الراهن. (وسنعالج لاحقا مشكل الفساد الإداري والسياسي الذي ينخر هذه المجتمعات).
الفرع الثاني: صعوبة سير الديمقراطية الغربية في الدول المتخلفة
إن بلدان العالم الثالث مدعوة إلى الاعتماد على إمكانياتها الذاتية للقيام بعملية التنمية. وهذا يستلزم بذل جهود جبارة للتغلب على التخلف ابتداء من توفير البنية التحتية اللازمة وصولا إلى إقامة المؤسسات المختلفة.
وأمام قصور القطاع الخاص عن القيام بدور ريادي، وجدت الدولة نفسها ملزمة بالقيام بهذا الدور عن طريق التدخل المباشر في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وقد قامت بهذا الدور بشكل واضح عند اعتماد إستراتيجية التنمية عن طريق القطاع العام بشكل جعل هذه الأنظمة تميل إلى الأسلوب الاشتراكي، بل أن الدول التي اعتمدت الإستراتيجية الليبرالية قامت بهذا الدور أيضا بالتدخل بشكل واسع لملء الفراغ الناتج عن ضعف القطاع الخاص وضآلة الاستثمارات الخارجية.
إن وضعية كهذه جعلت آليات سير النظام السياسي، خاصة في شكلها الغربي، غير متلائمة مع الظروف التي تمر منها هذه الدول. لذا انتشرت الأنظمة التي تسمح بهيمنة السلطة التنفيذية إضافة إلى الأنظمة التي تعمل على تركيز السلطة في يد هيأة واحدة (الجيش أو الحزب الواحد) أو حتى في يد شخص واحد. لذا لم يكن غريبا أن يطرح البعض الفرضية التالية: الديمقراطية لا تتلاءم مع التنمية.

المبحث الثاني: خصائص الحياة السياسية

للحياة السياسية في العالم الثالث العديد من الخصائص التي تؤكد بشكل واضح ما تتميز به هذه الدول عن الدول المتقدمة. وإذا كان من غير الممكن أن نعالج كل هذه الخصائص، فإننا سنكتفي هنا بطرح موضوع النظام الحزبي (المطلب الأول)، والدور السياسي للمؤسسة العسكرية (المطلب الثاني)، وظاهرة الفساد المتفشي في الحياة الإدارية والسياسية (المطلب الثالث).
المطلب الأول: النظام الحزبي
إذا كانت الأحزاب السياسية قد ظهرت وتطورت في الديمقراطيات الغربية للتعبير عن مصالح مشتركة لفئات تحمل نفس التصور، وإذا كانت الدول الغربية قد يسرت لهذه الهيئات القيام بدورها في تأطير المواطنين وتسهيل عملية التناوب على السلطة، فإن تأسيس الأحزاب السياسية في دول العالم الثالث قد تم لاعتبارات وأسس أخرى. وتختلف الأنظمة التي تم اعتمادها لكنها لا تبتعد عن بعضها البعض كثيرا.
إذا كانت بعض الدول –القليلة العدد- قد اعتمدت نظام تعدد الأحزاب، فإن تطبيق هذا النظام يختلف من حالة إلى أخرى. فأحيانا تشجع السلطات هذه التعددية لأغراض معينة، كما أن الأحزاب تساهم بدورها في هذا المجال نتيجة الانشقاقات التي تعرفها.
إلا أن الملاحظة الأساسية، هي أن أية تجربة من تجارب العالم الثالث لم تكرس ممارسة ديمقراطية في مجال التناوب على السلطة: فإما أن يحتكرها حزب كبير، وإما أن تتولاها مجموعة أحزاب تنتمي إلى نفس الاتجاه الذي ما يكون مدعما للسلطة. أما أحزاب المعارضة فإن هامش تحركها يحدد من قبل السلطة، ويضيق و يتسع حسب توجهات ومطالب وبرامج هذه الأحزاب واستعداد النظام.
أما النظام الحزبي الأكثر انتشارا فيتمثل في الحزب الواحد. وهو نظام يقضي بأن لا يوجد في الدولة إلا حزب واحد يحتكر النشاط السياسي، و ممارسة السلطات العامة، ويتمتع بجميع الامتيازات. وإذا كان هذا النظام من مبتكرات النظام الاشتراكي وعرف تطبيقات في الأنظمة النازية والفاشية، فإن دول العالم الثالث قد تبنته ودافعت عنه بأساليب وذرائع مختلفة.
فهذا النظام يمكن حسب مؤيديه من خلق نخبة وزعماء سياسيين وإداريين مؤهلين لإدارة شؤون الدولة، وذلك بانتقاء أصحاب المؤهلات والكفاءات أو ذوي الاستعداد لاكتسابهما، والإعداد والتثقيف الحزبي الذي يمكن من خلق طبقة قادرة على قيادة المجتمع. ويقوم هذا الحزب بمراقبة جميع أجهزة الدولة على مختلف مستوياتها. ولعل السبب الرئيسي لتفضيل هذا النظام في دول العالم الثالث يتمثل في العمل على إقامة رابطة بين الحكام والشعب، وتمتين وحدة الأمة والدولة في مرحلة تكون في حاجة إلى توحيد الجهود قصد التمكن من محاربة التخلف وتطبيق برنامج تنموي.
وإلى جانب هذا، عرفت بعض دول العالم الثالث نظاما حزبيا تعدديا لكن مع سيطرة حزب واحد يسمى بالحزب القائد أو المهيمن. إن هذا الشكل الذي يسمح للأحزاب بممارسة النشاط السياسي كتنظيمات مستقلة و معترف بها رسميا، يفترض تقارب هذه الأحزاب في المبادئ والأهداف واتفاقها على التعاون في إدارة شؤون الدولة وتوجيه سياستها تحت قيادة أقواها. وسنأخذ كنموذج عنها لاحقا تجربة الهند و المكسيك.

المطلب الثاني: الدور السياسي للمؤسسة العسكرية

إذا كان الدور الأساسي للجيش يتمثل بصفة عامة في الدفاع الوطني، فإننا نلاحظ في دول العالم الثالث أن المؤسسة العسكرية تتجاوز ذلك للتدخل في الشؤون السياسية للبلد. فعوض أن يكون تحت إمرة السلطة المدنية، فإن العكس هو الذي ساد في جل تجارب الستينات والسبعينات. ولا زالت آثاره ممتدة إلى الوقت الحالي ولو أن المعنيين قد نزعوا عن أنفسهم الزي العسكري.
وسنأخذ كنموذج عن تدخل الجيش في الحياة السياسية للدولة حالة غانا التي عرفت سلسلة من الانقلابات العسكرية.
فمنذ الانقلاب العسكري ضد الزعيم “نكرومه” سنة 1966، وهي تخضع لسيطرة العسكريين عبر ثلاثة انقلابات وقعت في أعوام 1972، 1978، 1979، باستثناء فترة من الحكم المدني لم تستمر سوى 27 شهرا من أكتوبر 1969 إلى يناير 1972، مما جعل البلاد تغرق في دوامة من الفساد السياسي والتدهور الاقتصادي.
إن غانا هي أول دولة في إفريقيا جنوب الصحراء تحصل على استقلالها من الاستعمار البريطاني سنة 1957. وقد مرت أساسا وإلى غاية بداية الثمانينات بأربعة مراحل سياسية منذ الانقلاب الأول ضد “نكرومه”. وهذه المراحل هي:
أولا: حكم تحالف الجيش مع البوليس
عندما أطاح الانقلاب العسكري بالرئيس “نكرومه” سنة 1966 أكد كل المهتمين أن هذا الانقلاب الذي قام به رجال الجيش والبوليس يعد حلقة في المخطط الاستعماري الجديد لضرب ثورة التحرر الوطني التي تصاعدت في إفريقيا. وكان هذا المخطط الاستعماري يهدف إلى تصفية القيادات الوطنية والثورية في الدول الإفريقية المتحررة (تمت الإطاحة بحكم الرئيس “موديبو كيتا” في مالي سنة 1968، وكانت هناك محاولة للغزو العسكري لإسقاط حكم الرئيس “سيكوتوري” في غينيا). ولهذا فإن حكومة الانقلاب العسكري التي تشكلت من تحالف الجيش والبوليس تحت ما يسمى بمجلس التحرير الوطني وجهت ضربات متلاحقة لسياسة “نكرومه” في التأميم والتحول نحو الاشتراكية، وأكدت تمسكها بسياسة الاقتصاد الحر. وقد مارس هذا التحالف السلطة حوالي ثلاث سنوات تدهور خلالها الوضع الاقتصادي، وكسد الإنتاج الزراعي، وارتفع استيراد السلع الغذائية، وتفاقم العجز في ميزان المدفوعات، ولم تستطع الحكومة العسكرية التحكم في نسبة التضخم مما أدى إلى زيادة أسعار السلع الأساسية.
ومع ذلك،التزمت الحكومة العسكرية بالوعد الذي قطعته على نفسها، بعد ثلاث سنوات من الحكم، فقامت بإجراء انتخابات عامة سنة 1969، وتولى الدكتور “كوفي بوسيا” زعيم حزب التقدم رئاسة الوزارة. وقد كان بوسيا “من أبرز المناهضين لساسة “نكرومه” قبل الاستقلال وبعده، وعاش في المنفى 13 سنة خلال حكمه ثم عاد إلى البلاد بعد الانقلاب حيث تعاون مع العسكريين وعمل كمستشار لهم.
ثانيا: فترة الحكم المدني
حاولت الحكومة المدنية تحرير التجارة وتنشيط التنمية خاصة في المناطق الريفية إلا أنها لم تنجح في ذلك. وازداد الوضع الاقتصادي تدهورا، وانتشر الفساد السياسي والمالي في الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية.
ونتيجة لهذه الوضعية تصاعد الصراع السياسي  والنقابي بين الحكومة من جهة والعمال والطلبة والفلاحين من جهة أخرى نتيجة الحد من النشاط السياسي العام؛ مما دفع الحكومة إلى منع نشاط حزب الشعب المعارض والأحزاب المعارضة الأخرى بدعوى أن عملاء “نكرومه” يتآمرون لقلب نظام الحكم.
إضافة إلى ذلك، اتبعت الحكومة على الصعيد الإفريقي سياسة مناهضة لحركات التحرر الوطني عن طريق إلغاء كافة أنواع التأييد و المعونات التي كانت غانا تقدمها لحركات التحرير؛ وبلغت هذه السياسة ذروتها، بإعلان “بوسيا” تأييده لدعوى إجراء حوار سياسي مع حكومة جنوب إفريقيا “العنصرية”، الأمر الذي أثار استياء القوى الوطنية.
وأيا كان، فبينما كان “بوسيا” في زيارة لبريطانيا، قام كولونيل مغمور في 13 يناير 1972 بانقلاب جديد ضده.
ثالثا: عودة العسكريين للسلطة
شكل الكولونيل “اتشيا” فور نجاح انقلابه العسكري، ما أسماه “بمجلس الإنقاذ الوطني” (الذي فيما بعد المجلس العسكري الأعلى) من رجال الجيش والبوليس لحكم البلاد. وأصبح رئيسا للمجلي وللسلطة التنفيذية. وبادر بحظر نشاط الأحزاب السياسية.
وقد اتسمت فترة حكم “اتشيا” التي استمرت ست سنوات ونصف سنة، بالتدهور الاقتصادي بسبب سوء الإدارة وتفشي الفساد، وبالمواجهة بين الشعب والحكومة احتجاجا على ارتفاع الأسعار، واختفاء السلع الأساسية، والمطالبة بعودة الحكم المدني.
وقد أرغمت هذه المظاهرات النظام على الدعوة إلى “حكومة اتحادية” يشترك فيها ممثلو كافة السكان بما في ذلك الجيش والبوليس. وقد صاحب ذلك تصريحات بأن الحكومة ستقوم على أساس التقاليد الغانية وليس على أساس التقاليد الغربية. وهي فكرة غامضة انتقدتها المعارضة بأنها محاولة لاستمرار الحكم العسكري وراء واجهة من المدنيين وأصرت على ضرورة رفع المنع عن نشاط الأحزاب السياسية، وإجراء انتخابات عامة خلال سنة 1977. إلا أن الحكومة نفذت مخططها بطرحه في استفتاء ادعت تأييد غالبية الشعب لتشكيل هذه الحكومة الاتحادية، وشكلت لجنة لصياغة دستور جديد. لكن المعارضة أكدت تزوير الاستفتاء ومعارضة الشعب لتشكيل هذه الحكومة.
وفي هذا الوقت قام نائب الرئيس الجنرال “فريدريك اكوفو” بانقلاب عسكري مفاجئ سنة 1978 أرغم من خلاله “اتشيا” على الاستقالة ووضعه تحت الحراسة. وقد برر الجنرال “اكوفو” انقلابه فقط بأن سلفه كان ينفرد بإصدار القرارات دون التشاور مع أعضاء المجلس العسكري. ومع دلك فإن هذا الانقلاب كان مقدمة لسلسلة من الإجراءات السياسية في اتجاه العودة إلى الحكم المدني.
رابعا: الطريق إلى الحكم المدني
بعد الانقلاب تقرر إلغاء فكرة “الحكومة الاتحادية” وإقامة “حكومة وطنية” بدلا منها على أساس أنها حكومة مؤقتة لمدة أربع سنوات على الأقل يتم بعدها العودة إلى الحكم المدني بحكومة وطنية سيتم تشكيلها بعد إجراء انتخابات عامة غير حزبية عام 1979.
إلا أن المعارضة انتقدت الاقتراح، لأن الأمر يتعلق بتغيير اسم اللعبة من حكومة اتحادية إلى حكومة وطنية، مع فارق واحد هو التعهد بعدم إعطاء أي دور خاص للجيش أو البوليس. لذلك تشبثت بإصرارها على رفع الحظر على نشاط الأحزاب السياسية وإجراء انتخابات عامة على أساس حزبي.
وقد تطور الوضع نتيجة تطبيق ميزانية التقشف ووصل الاحتجاج ذروته في منتصف نوفمبر 1978 عندما نظم العمال سلسلة من الإضرابات انضم إليها الموظفون.
وقد اضطر المجلس العسكري الحاكم إلى تلبية هذه المطالب بعد أيام هذه الإضرابات حيث قرر رفع الحظر عن نشاط الأحزاب ابتداء من فاتح يناير 1979 تمهيدا لإجراءات انتخابات عامة في منتصف يونيو 1979. وهكذا تشكل حوالي 13 حزبا سياسيا.
وهكذا نلاحظ أن المؤسسة العسكرية أصبحت طرفا في الحياة السياسية، فهي تارة تتولى شؤون الدولة مباشرة، وتارة تملي على المدنيين المشاريع السياسية الواجبة الإتباع، ثم أنها لا تتنازل عن السلطة كلما أمكن ذلك إلا للأطراف التي تتعامل معها.
وتبقى تجربة سوار الذهب في السودان رائدة في هذا المجال.
المطلب الثالث: ظاهرة الفساد الإداري و السياسي
إن دول العالم الثالث تعرف فسادا قاتلا ينخر أسس المجتمع والأمة والحضارة. لقد عم الفساد وأصبح حائلا دون التقدم. وهكذا لم يفكر العديد من الحكام في تنمية بلادهم بقدر ما اهتموا بوضعيتهم الخاصة.
إن الأمر لا يتعلق بتهريب رؤوس الأموال فقط ولكن ينتشر ليشمل جميع نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية… ففي مجال التجارة الدولية تخضع جل المشاريع والصفقات التجارية إلى أسلوب العمولات، كما أن الفساد أدى إلى جلب مشاريع لا علاقة لها بالتنمية بقدر ما لها علاقة بصنع العمولات، إضافة إلى انتشار سماسرة مختصين في جميع المجالات ابتداء من الحصول على أية وثيقة من إحدى الإدارات إلى غاية التدخل لدى الإدارات المركزية. ولا تقتصر عملية السمسرة على تلك الأعمال، بل تتعداها إلى مجلات أخرى كتجارة النساء والمخدرات تحت حماية السلطة… مما يمكن هذه الفئة من السماسرة من تكديس أموال طائلة تستغل في إفساد الحياة السياسية والإنفاق على مظاهر البذخ.
وقد احتكر بعض زعماء العالم الثالث السلطة وجمعوا حولهم جماعات يهمها بالدرجة الأولى سرقة ثروة بلادهم والسيطرة على اقتصادها تحت أسماء وأعمال مختلفة.
ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى حالة المكسيك التي وصل الوضع بها إلى حد انهيار مالي كاد أن يؤدي إلى انهيار مجمل النظام المالي العالمي، لولا تدخل العديد من الدول من أجل إيجاد حل سريع لمشكلة الديون الضخمة التي فاقت 80 مليار دولار. وقد كان هذا الوضع مفاجئا، لأن المكسيك قدمت نفسها عبر دعاية كبيرة على أنها ستلعب دورا مهما إلى جوار البلدان الصناعية الكبرى. لقد جرى احتضان هذا البلد، الذي لم يقبل الانضمام إلى الدول المصدرة للنفط، من قبل الدول الرأسمالية، ليشارك مع دول أخرى للوقوف في وجه منظمة “الأوبيب” لكسر احتكارها. وهكذا فتحت لها الأبواب المالية، وبالتالي العمولات، مما زاد في فساد وإفساد السلطات المسؤولة هناك. فكثر التوقيع على العقود وزادت العمولات: مصانع للفولاذ، مجمعات سياحية، قطار الأنفاق في مدينة المكسيك، مصافي النفط، أعمال مدنية مختلفة ضخمة… وكل ذلك دون حذر ودون تنسيق. وكان الرئيس “لوبيز بورتيلو” على رأس المشجعين لتلك الأعمال، إلى جانب بعض المحيطين به الذين كان لهم دور هام في نشر الرشوة والفساد.
لقد وعد كل الرؤساء الذين تسلموا السلطة في المكسيك بالعمل على “محاربة الفساد”. وكانت النتيجة أن أصبح الرئيس “لوبيز” أحد عشرة أفراد الأكثر غنى في العالم.
ويمكن أن نذكر بعض الأمثلة عن ثروات بعض حكام العالم الثالث التي تمثل أموال طائلة جدا إذا قورنت بمديونية بلادهم. فالرئيس موبوتو كان يملك ما يعادل ديون الزايير، كما أن الرئيس ماركوس وعائلته قد اختلسوا من البلاد ملايير الدولارات، إضافة إلى سيطرتهم على العديد من الشركات والاقتطاع من فوائد الكازينوهات وشراء المجمعات التجارية بالخارج. أما رئيس سوموزا فقد حول جزءا كبيرا من ديون بلاده لحسابه الخاص قبل سقوط نظامه سنة 1979. فإذا أضفنا إلى ذلك ما يتم استخدامه لتمويل المصاريف الكمالية كالقصور والبنايات الإدارية الضخمة ومظاهر البذخ والتباهي والاستثمار في المشاريع الفاشلة التي تقام للدعاية فقط، فإن حجم الفساد يظهر في شكله الواسع.
وقد تطور الوضع ليشمل “تجارة الموت” التي تتمثل في قبول دفن النفايات الصناعية السامة والنفايات الذرية تحت تربة البلاد مقابل عمولات ورشاوي. ويمكن أن نذكر كنموذج على ذلك قبول “غينيا بيساو” دفن فضلات سامة من أوربا والولايات المتحدة وأستراليا. ويتعلق الأمر باتفاقيتين من أجل دفن نفايات سامة ذات أصل صيدلي تهم الأولى شركة سويسرية بكميات تتراوح بين 50 ألف و500 ألف طن حسب الحاجة، كما تهم الثانية شركة بريطانية بحجم سنوي يصل إلى ثلاثة ملايين طن وكل ذلك مقابل بضع دولارات عن كل طن. ولولا الحملة الدولية التي دفعت السلطات سنة 1988 إلى تعليق هذه الأنشطة والمفاوضات لتطورت الأمور إلى مستوى أوسع. لكن السؤال الأساسي هو مثلا لماذا وقعت السلطات الاتفاق مع الشركة السويسرية على أساس 2.5 دولار للطن الواحد في حين اقترحت الشركة المعنية 40 دولار عن كل طن ؟
وقد وصل الفساد درجة يشكل فيها خطرا على الديمقراطية في دول العالم الثالث، ويمكن أن نذكر كمثال على ذلك حالة نيجيريا.
ففي ظل الجمهورية الأولى (1960- 1966) تحولت العقود الحكومية وبرامج القروض بشكل منظم إلى عملية لإثراء المسؤولين المنتخبين والمقربين منهم على المستوى الإقليمي والفدرالي. ورغم أن هذه الجمهورية قد سقطت أساسا نتيجة الصراع العرقي والإقليمي، فإن التذمر الشعبي المتزايد من انتشار الفساد ومن طبقة رجال السياسة عموما كان أيضا من أسباب سقوط الجمهورية.
وفي أواخر الستينات، و بعد الحرب الإقليمية في لإقليم “بيافرا”، تزايد الإنتاج البترولي مع حدوث زيادة واضحة في نسبة الفساد في البلاد. فقد تمكن الحكام العسكريون والوزراء الفدراليون والطبقات الأخرى وثيقة الصلة بالنظام من تحقيق ثروات ضخمة بأساليب مفضوحة. وقد أدى الارتفاع الهائل في أسعار النفط بعد سنة 1973 إلى زيادة عائدات الحكومة، وبالتالي إلى زيادة كبيرة في عمليات الفساد والتباهي بالثراء غير المشروع والانحراف وتبديد الأموال العامة.
وعند تأسيس لجنة تحقيق عقب انقلاب 1975 تمت إدانة عشرة من المحافظين العسكريين في اختلاس أموال يبلغ مجموعها أكثر من 20 مليون دولار. لكن الرئيس “مرتضى الله” الذي كان يتمتع بتأييد شعبي كبير والمعروف بدفاعه القوي عن الإصلاحات تم اغتياله في السنة الموالية (3 فبراير 1976). وسرعان ما عاد الفساد إلى الانتشار، إذ أن الرئيس اللاحق وزع مواد البلاد على وزرائه ومسؤوليه ومؤيديه وأعضاء حزبه لدرجة أن أصبح الحزب الحاكم الحزب الأكثر فسادا. وقد استفادت هذه الفئات من الطفرة البترولية الثانية بين عامي 1979 و1980 (حيث وصل حجم العائدات إلى 24 مليار دولار) مما أدى إلى انتشار الفضائح، وأصبح الاقتصاد يعاني من الاستنزاف التام لدرجة أصبحت معه حكومة الولايات غير قادرة على دفع رواتب المدرسين أو الموظفين المدنيين أو شراء الأدوية للمستشفيات. وقد أدت هذه الوضعية إلى سخط شعبي لم تنفع معه انتخابات 1983 التي وصل الفساد السياسي خلالها إلى تزوير نتائج الانتخابات. لذلك لم يكن غريبا أن يثير الانقلاب الذي قام به الجيش خلال نفس السنة فرحة عارمة في البلاد. وباختصار فإنه رغم عدة تغيرات في السلطة التي كانت ترفع كل مرة شعار محاربة الفساد، فإن الفساد سرعان ما كان يظهر مرة أخرى (ويكفي للاطلاع على حجم الظاهرة بالإشارة إلى أنه قد صدرت الأوامر خلال سنة 1986 لمحاكمة 800 شخص بتهمة الفساد لكن هذه المحاكمات لم تتم أبدا).
الفصل الثاني: تطبيقات الأنظمة السياسية
 المبحث الأول: الإطار الدستوري
إن دراسة أي نظام سياسي لا يمكن أن تتجاهل المجال الدستوري الذي يتحرك هذا النظام في إطاره. ولذلك فإنه لابد من أخذ فكرة ولو موجزة عن دساتير دول العالم الثالث. فعند حصولها على الاستقلال سارعت هذه الدول إلى اعتماد دساتير يلاحظ عنها أنها تتشابه بشكل واسع مع دساتير أقطار غرب أوربا والولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة للدول النامية الليبرالية، أو تتشابه مع دساتير دول من العالم الاشتراكي بالنسبة للدول التي اعتمدت هذا النهج. بل أنه في بعض الأحيان نلاحظ تطابقا كاملا مع هذه الدساتير. لذا نتساءل هل هنا يتعلق الأمر بدساتير مقتبسة أو منقولة (أولا)، وما هي مراحل تطور هذه الحركة الدستورية (ثانيا).
أولا: دساتير مقتبسة أو منقولة
إن الدول النامية نتيجة لخضوعها للاستعمار لفترة طويلة قد تأثرت بالتنظيم الدستوري للدول المستعمِرة لذلك سنبحث عن الأسباب المختلفة لعملية الاقتباس أو النقل (أ)، ثم نركز على عاملين أساسيين منها (ب) مع أمثلة مختلفة (ج).
أ‌-      لماذا عملية الاقتباس أو النقل

هناك أسباب متعددة دفعت الدول النامية إلى لاقتباس من التجارب الدولية السائدة آنذاك حتى تضع إطارا دستوريا لنظامها السياسي.

فعندما استرجعت الدول النامية استقلاها اتجهت إلى إقرار دساتير مكتوبة حتى تتمكن من المساهمة في الحياة الدولية بشكل كامل. وهكذا يلاحظ أن الدول التي كانت لها تنظيمات دستورية لم تكن في حاجة إلى الاستعجال في إقرار الدستور المكتوب: فالهند حصلت على استقلالها في 15 غشت 1947 ولم تقر دستورها إلا في نوفمبر 1949 ليبدأ العمل به في 26 يناير 1950، وتونس والمغرب حصلتا على الاستقلال في 1956 ولم يقرا الدستور إلا تباعا سنة 1959 وسنة 1960. إن هذه الدول كانت تتوفر على تنظيمات ومؤسسات تعمل باسم الشرعية التاريخية فأخرت إعلان الدستور المكتوب إلى غاية ترسيخ أسس الدولة.
أما الدول الأخرى فقد اعتبرت أن تبني التنظيمات السياسية والدستورية الغربية اختيار يرفع الدولة إلى مستوى الدولة العصرية، لذلك سارعت إلى طلب الاستعانة بخبراء أجانب لوضع دساتيرها. وطبعا فإن هؤلاء الخبراء لا يمكن أن يتأثروا إلا بالتنظيمات الدستورية المطبقة في دولهم. ونجد أن هذه الظاهرة منتشرة خاصة في إفريقيا السوداء ( إن القانونيين الدستوريين الفرنسيين هم الذين حرروا دساتير الغابون، ومدغشقر، والتشاد، وموريتانيا، والكونغو، وجمهورية إفريقيا الوسطى، فجاءت دساتيرها تعكس مقتضيات الدستور الفرنسي لسنة 1958، كما أنهم ساعدوا خبراء وطنيين على وضع اللمسات الأخيرة على عدد من الدساتير).
وهكذا يمكن القول أن أحد أسباب عملية الاقتباس أو النقل تتمثل في التأثير الذي مارسه الخبراء الأجانب المساهمين في وضع الدساتير، إضافة إلى حالات الاستعجال التي جعلت بعض الدول تسرع في الإعلان عن الدستور لأسباب داخلية أو لأسباب خارجية.
فبالنسبة للأسباب الخارجية نجد نموذج غينيا معبرا في هذا الصدد. فقد أعلن عن استقلالها في 02 أكتوبر 1958 وأُقِر الدستور في 10 نوفمبر من نفس السنة. فالسبب في هذه السرعة هو رغبة غينيا في الانضمام إلى الأمم المتحدة قبل دورتها المنعقدة آنذاك. وفعلا تم ذلك في 10 دجنبر 1958. يضاف إلى ذلك عامل خارجي آخر يتمثل في إعلان الاتحاد في 28 نوفمبر من نفس السنة، لذلك كان إقرار الدستور يهدف إلى تحديد سلطات رئيس الدولة ليسهل عليه القيام بمفاوضات خارجية.
أما بالنسبة للاستعجال لأسباب داخلية فنجد مثالا عنه في إعلان الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) الذي تم في 5 مارس 1958 بعد أن أعلن رئيس الدولتين الاتحاد في فاتح فبراير 1958. فهذه السرعة كانت تهدف إلى صرف الأنظار عن المشكل الداخلية التي كان يواجهها النظام السوري.
ونفس الوضع ينطبق على الاتحاد العربي بين العراق والأردن الذي تم توقيعه في 14 فبراير 1958 (الاتحاد الفدرالي الهاشمي) وإقرار دستوره في 5 مارس من نفس السنة.
وهناك حالات أخرى نلاحظ فيها أن بعض الأقطار حصلت على الاستقلال عن طريق التفاوض من ناحية وانسحاب الاستعمار بشكل تدريجي من ناحية أخرى، فأقرت دساتيرها قبل الحصول على الاستقلال (حالة بيرمانيا التي أُقِر فيها الدستور في 24 شتنبر 1947 ولم تحصل على استقلالها إلا في 19 دجنبر 1947).
وبصفة عامة فإن عملية النقل أو الاقتباس تحكم فيها عنصران أساسيان نعالجهما بصفة مستقلة.
ب‌-    الاختيار بناء على الإرث الاستعماري أو الأسلوب الاقتصادي
إن بلدان دول العالم الثالث تميل إلى تقليد المؤسسات السياسية القائمة في الدول التي كانت تستعمرها. فنلاحظ هذه الظاهرة بالنسبة للمستعمرات البريطانية (الهند، الباكستان، بيرمانيا، غانا، ماليزيا…) كما نلاحظها بالنسبة للمستعمرات الفرنسية. إلا أن هذه الظاهرة كانت تعرف استثناء حينما تكون الدولة المستعمِرة تمانع في استقلال المستعمَرة: إن مصر لم تقتبس في دستورها لسنة 1923 أساسا عن بريطانيا بل كذلك من النظام الفرنسي للجمهورية الثالثة والنظام الدستوري البلجيكي لأن النخبة المصرية كانت تعارض الحكم البريطاني وتفضل الاقتباس من أنماط دستورية أخرى. ونفس الاستثناء نجده في دساتير المستعمرات الفرنسية التي كانت فرنسا تمانع في الاعتراف باستقلالها: فدستور فيتنام الجنوبية لسنة 1956 أقاما نظاما ذا طابع رئاسي يميل إلى الدستور الأمريكي، وكذلك الشأن بالنسبة للدستور التونسي.
إن الاقتباس من النظام الدستوري للدولة المستعمِرة يجد تفسيره في أن النخبة الوطنية في أغلب دول العالم الثالث كانت إما متشبعة بثقافة المستعمر فتتأثر بها، أو أنها كانت مناهضة لها فتلجأ إلى الاقتباس من التجربة النقيض أي من الدستور السوفييتي.
وإلى جانب هذا فإن الأسلوب الاقتصادي المعتمد في دول العالم الثالث كان يفرض عليها اختيار أنماط دستورية معينة:
–        فإذا كان اقتصاد البلد من النمط الرأسمالي التحرري مصححا ببعض أساليب التخطيط المرن فإن المؤسسات السياسية تكون من نوع النظام البرلماني: إن المرونة الاقتصادية تساعد على خلق مرونة سياسية تتمثل في التوازن بين السلطات وتناوب الأحزاب عن الحكم، رغم أنه في بعض الأحيان قد يسيطر حزب كبير على الأغلبية البرلمانية لفترة طويلة: حالة الهند حيث كان يسيطر حزب المؤتمر على الأغلبية البرلمانية منذ استقلال البلاد إلى غاية نهاية الثمانينات.
–        أما عندما تأخذ الدولة بنمط رأسمالي ممزوج بتخطيط صلب فإنه ينتج عن ذلك غياب المرونة السياسية ويتحول إلى حكم مستبد: حالة إندونيسيا حيث التعددية الحزبية أفقدت الحكم الأغلبية البرلمانية وجعلت النظام البرلماني يفقد تطبيقه ويتحول إلى ديكتاتورية تنفيذية.
–        وإذا كان الأسلوب المتبع من النمط الرأسمالي المسير بتخطيط صلب فإن نظامه السياسي يأخذ شكل حكم مهيمن قد يكون الجيش على رأسه، وتتجه المؤسسات نحو الترعة الرئاسية بتركز السلطة دون أن يبدو أي خلل في توازن السلطات من الناحية المظهرية: وهناك أمثلة متعددة في أمريكا اللاتينية، وكذلك حالة سوريا التي أقرت دستورا من النمط البرلماني من خلال دستور 1950، بينما كان دستور 1953 الذي أعلن على إثر انقلاب عسكري ذا نزعة رئاسية.
–        وأخيرا إذا كان النمط الاقتصادي يعتمد على التخطيط السلطوي للإنتاج من تأميم عوامل الإنتاج، فإن المؤسسات السياسية ستكون إما دكتاتورية محضة أو مؤسسات من الاشتراكي الديمقراطي الشعبي.     

ج‌  –   نماذج الاقتباس أو النقل (عبد الهادي بوطالب)
  • الاقتباس من النظام البرلماني البريطاني

وقد عكسته في مرحلة الاستقلال دساتير الدول الخاضعة للنفوذ البريطاني: في إفريقيا وآسيا ومنطقة الكرايب، كما عكسته مقتضيات الدستور العراقي الأول، وبعض مقتضيات الدستور المصري لسنة 1923.

  • الاقتباس من النظام الرئاسي الأمريكي

وقد أخذت به دول أمريكا الجنوبية في مرحلة إعلان الاستقلال، وتبنته في آسيا الفيليبين (دستور 1958)، وكوريا الجنوبية، كما أخذت به ليبيريا في إفريقيا.

  • الاقتباس من النظام الفرنسي

لقد عكس دستورا سوريا ولبنان مقتضيات دستور الجمهورية الثالثة، واقتبست الكامبودج واللاووس من دستور الجمهورية الرابعة (1946). بينما عرف دستور الجمهورية الخامسة (1958) نقلا واقتباسا في الأقطار التي كانت مرتبطة بالنفوذ الفرنسي كإفريقيا الناطقة بالفرنسية، ومنه اقتبس المغرب طائفة من مقتضيات دستور 1962 والتي أصبحت ثابتة في كل الدساتير اللاحقة، كما أن الباكستان اقتبست منه في دستورها لسنة 1962.

  • الاقتباس من النظام البلجيكي

وقد اقتبست منه الدول التي كانت خاضعة للاستعمار البلجيكي: بوراندا، والزايير أو الكونغو البلجيكي.

  • الاقتباس من النمطين الألماني و الإيطالي

لقد أخذت الباكستان في دستورها لسنة 1973 عن دستور الجمهورية الفدرالية الألمانية، كما نقل الدستور الصومالي المعلن سنة 1948 عن الدستور الإيطالي.

  • الاقتباس من دستور الاتحاد السوفييتي

لقد كان دستور الاتحاد السوفييتي مرجعا للاقتباس من كل الدول التي أخذت بالنهج الماركسي، فأخذت به الصين الشعبية، والديمقراطيات الشعبية الأوربية الشرقية، وفيتنام الشمالية، ومنغوليا، وكوبا.

  • الاقتباس من دساتير أخرى

لقد اقتبست بعض الدول الأخرى من الدستور التركي الذي أعلنه أتاتورك سنة 1924 لأنها كانت تميل إلى تبسيط سير العمل بالنظام البرلماني، بينما استكملت دساتير أخرى شكلها بطريقة تدريجية على مراحل كانت خلالها تقتبس من دساتير مختلفة، كدستور البرازيل (6 يوليوز 1934) الذي استمد من دستور “ويمار’ الألماني لسنة 1919 ثم الدستور البرتغالي لسنة 1934. وتأثرت دول أخرى بدستور إسبانيا الفرانكوية عند إدخال بعض التعديلات على دساتيرها الأولى ككولومبيا والبيرو وفنزويلا.
في حين نجد دساتير أخرى اقتبست بعض التقنيات من دساتير مختلفة، كما هو الشأن بالنسبة لدستور أندنوسيا لسنة 1950. ففي قسمه الاجتماعي وطريقة صياغته للحقوق والحريات وحتى في طريقة تأكيده للمبادئ الاجتماعية جاء النص مقتبسا من دستور “ويمار” الأماني ومن دستور الاتحاد السوفييتي ومن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أما قسمه السياسي ومقتضياته القانونية التنظيمية فإنها أُخِذت من النظام الرئاسي والنظام البرلماني. ولاعتبارات سياسية ظهر الدستور قريبا من التنظيمات الدستورية للجمهورية الفرنسية الثالثة والرابعة، ونتيجة لذلك ظهر دستور غير قابل للتطبيق وظل بالتالي معلقا على مستوى الواقع.
ثانيا: مراحل تطور الحركة الدستورية
يمكن تصنيف المراحل التي مرت منها الحركة الدستورية في الدول السائرة في طريق النمو كما يلي:

  1. المرحلة الأولى تميزت بتبني النظام الرئاسي الأمريكي في دول أمريكا الجنوبية، وتبني النظام البرلماني في إفريقيا وآسيا مع محاولة تكييفه مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الخاصة. وإذا كانت هذه التجربة قد نجحت في بعض الدول (الهند، الباكستان، لبنان، مصر، ماليزيا،…) فقد فشلت في جل الدول الأخرى. وتعود أسباب الفشل إلى كون النظام البرلماني يضع الحكومة والمعارضة على قدم من المساواة. فعند تطبيقه في الدول الغربية يبدو منطقيا نظرا لتوفر الوحدة الوطنية والتوافق حول الخطوط العامة للسياسة الداخلية والخارجية إضافة إلى النمو الاقتصادي. أما دول العالم الثالث فلا تتوفر على هذه المعطيات لأن الدول تبحث عن الاستقرار الحكومي وبالتالي تعتبر المعارضة تهديدا لسلطة الحكومة أو سلطة الحزب الحاكم.
  2. المرحلة الثانية تميزت بفشل الأنظمة البرلمانية والرئاسية مما فتح المجال للدكتاتوريات العسكرية والمدنية التي تتناقض مع الديمقراطية. فقد سادت الدكتاتوريات في أمريكا الجنوبية والعالم العربي وإفريقيا. إن هذه الدول اعتبرت أن توزيع السلطات بين المؤسسات يتعارض مع نظام الحكم القوي، لذلك كان الحكم يتحول كرد فعل على أسلوب التنظيم الجماعي كأن تتم العودة بالبلاد إلى الليبرالية الفردية (حالة دول أمريكا الجنوبية الكبيرة أو الغنية كالبرازيل والأرجنتين)، وإما من أجل تصحيح الأوضاع للعودة بالبلاد إلى حكم ديمقراطي، وإما تحت شعار مراجعة التركة الاستعمارية (حالة الجزائر)، أو القيام بإصلاح (محاربة الرشوة في إفريقيا الوسطى)، أو القيام بإصلاح زراعي (بعض انقلابات أمريكا الجنوبية). ولكن في كل الحالات كان الهدف هو فرض حكم دكتاتوري أو فرض استمراره.
  3. المرحلة الثالثة التي عرفت تقلص الدكتاتوريات لتنتشر بدلا منها أنظمة ذات نزعة رئاسية تعتمد الحزب الوحيد أو تقيم نظاما دكتاتوريا فرديا. وقد انطلقت هذه المرحلة بعد أن تبين أن النظام ذو الترعة الرئاسية يمكن من تأطير واسع لمختلف فئات الشعب مما يساعد الحكم على الهيمنة. إلا أن الأمر لا يتعلق بنظام دستوري رئاسي كما هو مطبق في الولايات المتحدة الأمريكية بل بنظام يركز السلطة لأسباب مختلفة بيد السلطة التنفيذية بصفة عامة ورئيس الدولة بصفة خاصة. ومن بين هذه الأسباب نشير إلى الأسباب السياسية (متطلبات بناء الوحدة الوطنية) والأسباب الاقتصادية (ضرورة التخطيط المركزي) والأسباب الثقافية (انتشار الأمية). ونتيجة لهذا أصبحت السلطة التنفيذية تهيمن على الحياة السياسية خاصة إذا كانت مدعمة بنظام الحزب الوحيد أو المسيطر مما جعل النظام يفقد عنصر التوازن. هذا إضافة إلى الترعة الاستبدادية لبعض الحكام.
  4. المرحلة الأخيرة تتمثل في العودة إلى النظام الديمقراطي المتمثل في التعددية الحزبية والليبرالية السياسية (وهو ما سنعالجه بصفة مستقلة في القسم الثاني من هذا الباب).
المبحث الثاني: الأنظمة السياسية

لاحظنا سابقا أن أغلبية دول أمريكا الجنوبية اعتمدت النظام الرئاسي على إثر استقلالها، بينما أخذت بقية دول العالم الثالث في إفريقيا وآسيا في المرحلة الأولى من استقلالها بالنظام البرلماني. وإذا كانت هذه الدول قد حاولت تكييف هذه الأنظمة خاصة منها البرلمانية مع ظروفها الخاصة فإن هذه التجارب باءت بالفشل.
وسندرس تباعا التجارب ذات الترعة الديمقراطية (المطلب الأول) ثم التجارب ذات الترعة الدكتاتورية (المطلب الثاني).

المطلب الأول: الأنظمة الديمقراطية

إن التجارب ذات الطبيعة الديمقراطية بدول العالم الثالث رغم أنها استفادت من التجارب الغربية في هذا الصدد إلا أن ذلك لا يعني التطبيق الحرفي للعملية الديمقراطية بهذه الدول. لقد تمت إضافة العديد من التقنيات التي تجعل النظام البرلماني (الفرع الأول) والنظام الرئاسي (الفرع الثاني) مختلفا عن النموذج الذي تم اقتباسه نظرا لاعتبارات عديدة منها أساسا الرغبة في ضمان الاستقرار الحكومي وفي التدخل الواسع للدولة في عملية التخطيط الاقتصادي.
الفرع الأول: النظام البرلماني
يتميز النظام البرلماني بالتعاون بين السلطات. إن كل جهاز يمتلك وظيفته الأساسية لكنه يساهم في تعيين الأجهزة الأخرى وفي ممارسة وظيفتها. إن الأجهزة تتوفر على وسائل ضغط فيما بينها مما يساعد على تحقيق التوازن عند ممارسة سلطاتها.
وإذا كان المعيار الأساسي لتحديد مفهوم النظام البرلماني يتمثل في المسؤولية الجماعية للوزراء أمام البرلمان مقابل إمكانية حل البرلمان من قبل الجهاز التنفيذي، فإن هذا النظام يستلزم توفر العناصر التالية:

  • ثنائية الجهاز التنفيذي؛
  • تقلص سلطة رئيس الدولة؛
  • مسؤولية الحكومة أمام البرلمان؛
  • حق حل البرلمان.

إن هذا النظام السائد آنذاك في معظم الدول الغربية الاستعمارية (بريطانيا، فرنسا، بلجيكا) قد انتقل إلى عدة دول إفريقية وآسيوية في بداية استقلالها: الهند، باكستان، بيرمانيا، وماليزيا في السودان، نيجيريا، غانا، ملاوي، الصومال ، السنغال، والزايير في إفريقيا، كما عرفته جمايكا وغويان في منطقة الكرايب.
وينبغي الإشارة إلى أن بعض دول العالم الثالث كانت تتوفر على بعض أنماط الحكم بخصوصيات وتقاليد تاريخية فجاءت دساتيرها الممنوحة مجرد استمرار للنظام التقليدي كالدستور الإيراني لسنة 1906 الممنوح من الشاه مظفر الدين، والدستور المصري لسنة 1923 الممنوح من الملك فؤاد، ودستور العراق لسنة 1924 المعلن من قبل الملك فيصل، ودستور إثيوبيا لسنة 1936 الممنوح من الإمبراطور هيلاسي لاسي.
وسنعالج هذا النظام من خلال دراسة السلطة التنفيذية (أولا) ثم السلطة التشريعية (ثانيا) ثم العلاقة بينهما (ثالثا).

أولا: السلطة التنفيذية

تقوم السلطة التنفيذية في النظام البرلماني الكلاسيكي على أساس ثنائية الجهاز التنفيذي: رئيس الدولة (أ) ثم رئيس الحكومة (ب).
أ‌  – رئيس الدولة
يتسع النظام البرلماني لجميع أشكال الحكم سواء كان النظام ملكية أو جمهورية أو إدارة جماعية. ورغم اختلاف طرق تعيينه فإن رئيس الدولة غير مسؤول سياسيا.
ففي النظام الملكي يتولى الملك الحكم بالوراثة وليس للبرلمان أي دور ف تعيينه. إلا أن الدستور قد يحدد نظام تولي الحكم: الدستور المصري لسنة 1923، والدستور العراقي لسنة 1924، والدستور المغربي لسنة 1962 والتعديلات التي أدخلت عليه.
أما في النظام الجمهوري فإن رئيس الدولة ينتخب عادة من طرف البرلمان، سواء كان يتكون من مجلس واحد (لبنان و سوريا سنة 1950) أو كان مكونا من مجلسين (كوريا الجنوبية، نيجيريا، تركيا، الباكستان، الهند). وقد تتبع بعض الدول مسطرة خاصة كدستور غانا لسنة 1969 الذي يجعل انتخاب الرئيس من اختصاص هيأة تتكون من بعض نواب المجلس وأربعة وعشرين عضوا من بين قادة القبائل.
وبغض النظر عن طريقة الانتخاب فإن ذلك لا يضعف من مركز رئيس الدولة لأنه غير خاضع للهيأة التي انتخبته إذ يعد غير مسؤول من الناحية السياسية ولا يمكن عزله إلا عند الخيانة العظمى أو خرق الدستور، وبمسطرة طويلة ومعقدة. وإذا كان رئيس الدولة في الأنظمة الجمهورية مسؤول مع ذلك عن الجنح والجنايات التي يقترفها، فإن رئيس الدولة في الأنظمة الملكية معفى من كل مسؤولية سياسية كانت أو جنائية.
 ب‌  –         الحكومة
تعتبر الحكومة وخاصة رئيسها الرأس الآخر للجهاز التنفيذي. وينبغي أن تتمتع الحكومة كهيأة وزارية بثقة البرلمان، ولذلك لا بد من موافقته على تعيين رئيس الدولة للوزير الأول ثم اختيار الوزراء من بين النواب. إن رئيس الدولة يعين الوزير الأول فقط وهذا الأخير هو الذي يختار الوزراء أعضاء الحكومة ويعرضهم على رئيس الدولة. وتختلف الإجراءات المعتمدة من نظام إلى آخر، فقد يتعلق الأمر بقبول ضمني من قِبل البرلمان لأعضاء الحكومة (1) أو قد تتبع إجراءات أمام البرلمان لتنصيب الحكومة(2).

  1. القبول الضمني: تستمد الحكومة وجودها في بعض الدول من تعيين رئيس الدولة وليس من تصويت البرلمان. إن الأمر يتعلق بقبول ضمني من طرف البرلمان، غير أن كل تصويت بالرفض من قبله يؤدي إلى استقالة الحكومة. وفي هذه الحالة يتمتع رئيس الدولة بسلطة واسعة في تعيين الوزراء: لبنان، الأردن، مصر (1923)، إيران (1906)، وكذلك المغرب إلى غاية 1992 حيث كان للملك حق تعيين الوزراء وإقالتهم دون أن يحتاج ذلك إلى تصويت البرلمان أو إلى موافقة الوزير الأول.

وفي الأنظمة البرلمانية ذات الجهاز التنفيذي المزدوج لابد للوزير الأول من الحصول على ثقة البرلمان وثقة رئيس الدولة في نفس الوقت. أما في الأنظمة ذات الرأس الواحد فإن البرلمان لا يتدخل إلا شكليا في تعيين الحكومة لأن قرار رئيس الدولة وحده كاف لتشكيلها.
ويلعب النظام الحزبي دورا مهما في تحديد مجال حرية رئيس الدولة في اختيار الوزير الأول. فهذه الحرية تتوسع في حالة التعددية الحزبية، كما أنها تتقلص إذا كانت تكريسا لواقع انتخابي. 

  1. التنصيب: إن النظام البرلماني في بعض الدساتير يضمن تفوق البرلمان بسلطة الموافقة بالتصويت على أعضاء الحكومة من طرف رئيس الدولة. وهذا يؤدي إلى سقوط الحكومة في حالة رفض البرلمان للتعيين الصادر عن رئيس الدولة. وهو ما يطبق في الهند، والكامبودج،ولبنان، والمغرب انطلاقا من دستور 1992.

إن الحكومة في هذا النظام تستمد وجودها من تنصيبها من قبل البرلمان.
وتُسنَد إلى الحكومة إدارة السياسة الحكومية التي لا تدخل في نطاق مهام رئيس الدولة (لأنه غير مسؤول سياسيا أمام البرلمان)، لأنها هي التي تتحمل مسؤولية تطبيق هذه السياسة. وتنص بعض الدساتير على ذلك: الأردن، بوركينافاصو، الصومال، كوريا الجنوبية.
ثانيا: السلطة التشريعية
يمارس البرلمان السلطة التشريعية. وهو يتكون من غرفة واحدة أو غرفتين حسب ظروف كل مجموعة من البلدان:

  • فبعض الدول تعرف وجود غرفة ثانية كنتيجة لتركيبها الفيدرالي، إذ تمثل الغرفة الأولى المواطنين وتمثل الغرفة الثانية الولايات الأعضاء في الاتحاد: الهند، ماليزيا، نيجيريا، البرازيل، المكسيك، فنزويلا، الأرجنتين،…
  • كما أن هناك دول أخرى تهدف من تأسيس غرفة ثانية توجيه النظام عن طريق الحد من سلطة المجلس المنتخب بخلق غرفة ثانية غير منتخَبة.
  • أما بعض الدول الأخرى، فتعتمد غرفة ثانية لضمان تمثيل نخبة معينة مكونة من الأعيان أو ممثلي الغرف المهنية أو المجالس المحلية. فالأردن يعرف مجلس النواب إلى جانب مجلس الأعيان أو ممثلي الغرف المهنية أو المجالس المحلية. فالأردن يعرف مجلس النواب إلى جانب مجلس الأعيان الذي يعينه الملك، كما يوجد إلى جانب مجلس الشعب بمصر مجلس الشورى المعين. وقد تحدد لنصوص الدستورية طبيعة هذه النخبة: فقد نص الدستور العراقي لسنة 1924على أن “هذه النخبة تتألف من الأشخاص الذين اكتسبوا ثقة الشعب من خلال أعمالهم وماضيهم الحافل الشريف في خدمة الوطن”، كما تتشكل الغرفة الثانية في تايلاندا من “ذوي الكفاءات التقنية والفكرية المؤهلة لإدارة البلاد”.
  • وتذهب دساتير دول أخرى في اتجاه تأسيس غرفة ثانية تتكون من أعضاء منتخبين وأعضاء معينين بنسب متفاوتة: أفغانستان، سريلانكا…
  • وتكتفي الدول البسيطة باعتماد برلمان من غرفة واحدة. 

إن الاختيار بين برلمان مكون من غرفة واحدة أو غرفتين يقوم على أساس وأهداف متعددة، أهمها بالنسبة لدول العالم الثالث أن الغرفة الثانية تضمن تحقيق التوازن مع الغرفة المنتخَبَة بالاقتراع العام المباشر من أجل دعم الاستقرار الحكومي. وتتشبث دول أخرى بنظام الغرفة الواحدة رغم أن بعض المنظرين يعتبرون أن الازدواجية على مستوى السلطة التنفيذية يجب أن تقابلها ازدواجية على مستوى السلطة التشريعية لتفادي احتمال دكتاتورية برلمان قوي على حساب حكومة ضعيفة.
وقد عرف المغرب تطورا في هذا المجال إذ عرف في البداية برلمانا مكونا من مجلسين (1962)، ثم إدماجهما في مجلس واحد (1970،1972،1992)، وأخيرا تمت العودة إلى نظام المجلسين (1996).
أما من حيث الاختصاصات فإن المهمة الأساسية للبرلمان تتمثل في التصويت على القوانين وخاصة القانون المالي. إلا أن الملاحظ هو أن دور البرلمان أخذ يتقلص إلى مجال محدد (بناء على تأثير الدستور الفرنسي لسنة 1958).
وقد تعمد بعض الدول إلى منح الغرفتين اختصاصات متساوية، أو قد تعطي لإحداهما اختصاصات أقوى من الأخرى.
ثالثا: العلاقة بين السلطات
تقوم العلاقة بين السلطات في النظام البرلماني على أساس التعاون (أ) والتوازن (ب).
أ‌.        التعاون
رغم أن الجهاز التنفيذي والجهاز التشريعي يمارسان مهامهما الرئيسية، فإن كلا منهما يساهم في بعض وظائف الجهاز الآخر.

  • فالسلطة التنفيذية تساهم في وضع القوانين، وفي بعض الأنظمة تعطى الأسبقية لمشاريعها، ولرئيس الدولة حق طلب قراءة جديدة، كما أنه يمارس سلطة إصدار الأمر بتنفيذ القانون…
  • أما السلطة التشريعية فتساهم في أعمال السلطة التنفيذية عن طريق إقرار القانون المالي والتشريعات اللازمة، والمصادقة على المعاهدات، إضافة إلى مراقبة العمل الحكومي بوسائل مختلفة كالأسئلة الكتابية، والشفوية، والاستجوابات، والتحقيقات…

ب‌.     التوازن
يتحقق التوازن في النظام البرلماني من وسائل الضغط المتبادلة: المسؤولية السياسية (1) وحق الحل (2).

  1. المسؤولية السياسية

يقصد بهذا المبدأ بصفة عامة أن الحكومة لا يمكن أن تمارس السلطة إلا بعد الحصول على ثقة البرلمان. إن ممارسة الحكم رهينة باكتساب ثقة الأغلبية البرلمانية، وكل سحب لهذه الثقة يترتب عنه سقوط الحكومة. ولذلك لم يعد من الضروري أن يتمتع الوزراء بثقة رئيس الدولة والبرلمان في آن واحد إلا بالنسبة لعدد قليل من الدول: الأردن، المغرب، مصر، ماليزيا،…
وتعتبر المسؤولية السياسية الوسيلة الأساسية لممارسة البرلمان مراقبة حقيقية للعمل الحكومي. وهي تتعلق كما رأينا سابقا بعمل الوزراء لا بعمل رئيس الدولة. ويمكن أن تكون إما فردية أو جماعية، ولو أنه عادة ما يطبع هذه المسؤولية طابع التضامن الوزاري.
وتمارَس المسؤولية السياسية بمسطرتين مختلفتين حسب الطرف الذي يتخذ المبادرة:

  • طرح مسألة الثقة إذا تم ذلك بمبادرة حكومية.
  • ملتمس الرقابة إذا تم ذلك بمبادرة برلمانية

ونظرا لما يمكن أن تشكله هذه الإجراءات من خطر على الاستقرار الحكومي، فإن النظام البرلماني يفترض وجود أغلبية متماسكة، إلا أنها قد لا تكون متوفرة في حالة التعددية الحزبية. وقد عملت الدساتير على تنظيم هذه الإجراءات ببعض الصرامة.
فالحكومة ليست ملزمة بتقديم استقالتها إلا بعد طرح مسألة الثقة أو بعد تصويت إيجابي على ملتمس الرقابة تفاديا لإثارة المسؤولية الوزارية بشكل مفاجئ: الزايير، كوريا الجنوبية، المغرب، الأردن،…
كما أن الدساتير تنص على ضرورة احترام أجل معين بين طرح الملتمس والتصويت عليه: ثلاثة أيام في المغرب، خمسة أيام في الصومال، عشرة أيام في الأردن؛ وعادة لا يقبل ملتمس رقابة ثاني إلا بعد مدة معينة (سنة في المغرب)، إضافة إلى ضرورة التصويت بنسبة هامة من أعضاء المجلس: الأغلبية المطلقة من الأعضاء أو ثلثي الأعضاء.

  1. حل البرلمان

يقصد بهذا الإجراء العمل على عرض الخلافات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية على الناخبين. ويعرف الحل بأنه قرار رئيس الدولة بوضع حد لممارسة البرلمان لمهامه قبل انقضاء المدة العادية لولايته التشريعية.
وتعتبر هذه الممارسة تحريفا للنظام البرلماني المطبق في بريطانيا مهد هذا النظام، حيث أن هذا الحق يملكه الوزير الأول.
إن الدساتير تخول هذا الحق لرئيس الدولة (رئيسا أو ملكا) ليمارسه بمقتضى سلطته التقديرية: الهند، الأردن، تايلاندا، المغرب… أو وفق شروط دقيقة للحد من فعاليته: كحالة حصر استعمال هذا الحق بعد وقوع أزمات وزارية متعددة، أو قد يمنع من استعمال هذا الحق خلال أجل محدد: 18 شهرا بعد انتخاب البرلمان الجديد في سوريا، وسنة بعد هذا الانتخاب في المغرب والصومال.
أما بالنسبة للدول التي تبنت ثنائية المجلس، فإن الحل قد يشمل مجلسي البرلمان (ماليزيا، نيجيريا، غينيا)، أو قد يقتصر على المجلس الممثل للسكان لوحده (مصر، الأردن).
الفرع الثاني: النظام الرئاسي
إذا كان النظام البرلماني في العالم الثالث، وخاصة في إفريقيا و آسيا، لا يتلاءم مع مرحلة البناء الوطني لمرحلة ما بعد الاستقلال، فإن الملاحظ أن هذه الدول سرعان ما تحولت إلى النظام الرئاسي. وبذلك انضافت إلى دول أمريكا الجنوبية التي تبنت هذا لنظام مباشرة بعد حصولها على الاستقلال دون المرور بالنظام البرلماني.
إن النظام الرئاسي إذ يعمل على تقوية السلطة التنفيذية ليمنحها إمكانية تأطير المواطنين بشكل يسمح بالمحافظة على الوحدة الوطنية الهشة، يعمل في نفس الوقت من الحد من سلطة الرئيس حتى لا تتحول إلى نظام دكتاتوري.
ويتميز النظام الدكتاتوري في شكله الأصلي كما تم تطبيقه في الولايات المتحدة الأمريكية بالفصل الكامل بين السلطات مع قيام توازن بينهما.
أولا: السلطة التنفيذية
يمارس رئيس الدولة السلطة التنفيذية بأكملها بما في ذلك السلطة التنظيمية. فهو الذي يسير السياسة الخارجية، وهو القائد الأعلى للقوات العسكرية، كما يوجه العمومية ويعين كبار الموظفين. وإذا كان مجلس الشيوخ الأمريكي يتدخل في مسطرة التعيين فإن ذلك لا يطبق في دول العالم الثالث.
كما أن الرئيس يتدخل في المجال التشريعي إما عن طريق الخطابات التي يوجهها للبرلمان، وإما عن طريق تقديم مشاريع قوانين بواسطة أعضاء حزبه.
ويلاحظ أن سلطة الرئيس تتسع في المجال التشريعي بواسطة حف الاعتراض على النصوص الصادرة عن البرلمان، وذلك قبل إصدارها، بشكل لا يُمَكن من إعادة إصدار نفس النص إلا بموافقة أغلبية الثلثين. وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعتمد نظام الاعتراض الشامل على النص كله قبولا أو رفضا، فإن دساتير أمريكا الجنوبية تعتمد صيغة الاعتراض الجزئي، أي أن رئيس الدولة يمكن أن يعترض على بعض الفصول من النص دون فصول أخرى.
أما في حالة الاستثناء، فإن سلطات الرئيس تتعزز، رغم أن مسطرة إعلانها تختلف من دولة إلى أخرى. ففي الفيليبين وبيرو وكولومبيا يملك الرئيس صلاحية اتخاذ هذا القرار، وفي المكسيك يلزمه قبل هذا الإعلان الحصول على موافقة مجلس الوزراء، في حين أن الشيلي تُخَوِّل هذا الحق للبرلمان وحده.

ثانيا: السلطة التشريعية

لقد تبنت معظم الدول ازدواجية التمثيل. ويعود ذلك أساسا إلى الطبيعة الفدرالية (المكسيك، البرازيل، الأرجنتين)، أو إلى الرغبة في تمثيل المجالس المحلية والهيئات المهنية. فالإكواتور مثلا تخصص 15 مقعدا داخل مجلس الشيوخ لممثلي المهن والتعليم والنقابات ومختلف المصالح الاقتصادية بالإضافة إلى التمثيل الجهوي وإلى تمثيل الجيش والأمن.
وقد أحدثت بعض الدساتير (المكسيك وبناما) لجنة دائمة منبثقة عن البرلمان مهمتها النيابة في الفترة الفاصلة بين الدورات.
أم من حيث الاختصاصات، فإن البرلمان إضافة إلى سلطته في مجال الميزانية، يمارس السلطة التشريعية بأكملها، لكن مع إمكانية تفويض تلك السلطة لفائدة سلطة أخرى: دستور نيكاراغوا يسمح بهذا التفويض خلال الفترة الفاصلة بين الدورات، أما دستور فنزويلا فقد سمح بهذا التفويض لصالح رئيس الدولة بصفة مؤقتة إذا كان الهدف هو حماية الحياة الاقتصادية والمالية للدولة، كما أن دستور كولومبيا سمح بذلك عندما تدعو الضرورة أو المصلحة الملحة.
ثالثا: العلاقة بين السلطات
يملك البرلمان بعض الوسائل لمراقبة العمل السياسي لرئيس الدولة الذي يمكن أن تُطَبَّق عليه مسطرة التهام التي تؤدي إلى إقالته. وخارج ذلك فإن الرئيس غير مسؤول سياسيا.
وقد تأثرت النظم الرئاسية في أمريكا اللاتينية، إضافة إلى الدستور الأمريكي، بالدستور الفرنسي للجمهورية الثالثة. ولذلك نلاحظ اعتماد بعض الوسائل التي تُعَد من تقنيات النظام البرلماني. ومن ذلك مثول الوزراء أمام المجلس للإجابة عن الأسئلة الموجهة إليهم وتقديمهم لتقرير سنوي حول نشاطهم، وكذلك مراقبة الوزراء ومؤاخذتهم بتوجيه التوبيخ لهم. وإذا كان هذا الأمر لا يصل إلى درجة المسؤولية السياسية للوزراء في جل الدول، فإنه قد يؤدي أحيانا إلى إقالة وزير أو عدة وزراء (البيرو وفنزويلا).
ويمكن القول بصفة عامة، أن النظام الرئاسي في أمريكا اللاتينية يتبع أساليب تخالف جوهر هذا النظام، إذ أن البرلمان الذي يملك دستوريا جميع السلطات التشريعية، يخضع في الواقع لإرادة رئيس الدولة.
المطلب الثاني: الأنظمة الدكتاتورية
إذا كانت مختلف تجارب العالم الثالث لم تؤدي عمليا إلى تطبيق كامل للديمقراطية، فإن أنظمتها كانت تميل إما إلى الأغلبية أو إلى حكم فردي. وهذا الاتجاه سهل المرور إلى مرحلة النظام الدكتاتوري الذي كان يُمارَس بأشكال مختلفة: منها الدكتاتورية العسكرية (أولا)، والدكتاتورية الحزبية (ثانيا)، و الدكتاتورية الفردية (ثالثا). ولكي يتم التخفيف من حدة هذا الأسلوب تم اعتماد نظام مختلط يرتكز على الهيمنة الرئاسية (رابعا).

أولا: الدكتاتورية العسكرية

إذا كان دور الجيش يقتصر بصفة عامة على القيام بدور الدفاع الوطني، فقد لاحظنا سابقا أنه يتجاوز ذلك في دول العالم الثالث إلى التدخل مباشرة في الحياة السياسية سواء لممارسة السلطة أو لقيادة المدنيين عند ممارستهم للسلطة. وقد انتشر هذا النظام خلال الستينات و السبعينات بشكل واسع في هذه الدول.
وعادة ما يتدخل الجيش بقوة للاستيلاء على السلطة وإلغاء النظام القائم. وبعد مرور بعض الوقت يحاول إقامة مؤسسات تضفي عليه طابع الشرعية: فيضع دستورا ويجري انتخابات تكرس له على الأقل رئاسة الدولة (مصر، سوريا، ليبيا، موريتانيا، الجزائر إلى عهد الشاذلي، إضافة إلى عدد واسع من الدول الإفريقية والآسيوية ومن أمريكا الجنوبية).
كما أن الجيش قد يعلن منذ البداية أن تدخله مؤقت إلى أجل يحدده هو بنفسه.
ونظرا لكون النظام العسكري قائم على الانضباط، فإن ذلك يجعل الجيش لا يقر أي اضطراب أو فوضى، لذلك فهو لا يرى في المطالب الشعبية إلا أعمالا للتخريب يحاربها بقوة.
وفي بعض الحالات نجد أن الجيش يستولي على الحكم بناء على عجز من الحكام المدنيين عن ممارسة السلطة نتيجة الاضطرابات الداخلية. وهذا ما حدث في بعض الحالات كانقلاب الطوغو 1963، وانقلاب الغابون 1964، وانقلاب الزايير 1965، وانقلابي بوركينافاصو وجمهورية جنوب إفريقيا سنة 1966…
كما أن الجيش قد يتزعم ثورة مبنية على مذهب مناهض للنظام القائم (مصر).
ويصعب تحديد العوامل التي تدفع الجيش للاستيلاء على السلطة:
¬ فقد يتعلق الأمر بدول كثيفة السكان أو بدول ضعيفة السكان؛
¬ وقد يتعلق الأمر بدول غنية (الزايير) أو بدول فقيرة ( النيجر)؛
¬ كما أن الأمر قد يتعلق بدول ترتكز على نظام الحزب الوحيد (مالي) أو دول تعتمد على التعددية (مصر)؛
¬ وأخيرا قد يتعلق الأمر بدول تطمح إلى تطبيق الاشتراكية (مالي، غانا) أو بدول موالية للغرب (النيجر).
ويُنظَّم الانقلاب من طرف جيش الهيئة أو من طرف مجموعة منه فقط، وذلك للإطاحة بنظام مدني، أو لقلب نظام عسكري في حالة نشوب خلاف على مستوى القيادة العسكرية (انظر لاحقا حالة موريتانيا).
أن النظام العسكري يوصف بالنظام الدكتاتوري لأنه يجمد العمل بالدستور أو يلغيه، وبالتالي يحكم بالشرعية القانونية، كما أن الحريات الديمقراطية تعرف تقليصا كبيرا، حيث يتم حظر نشاط الأحزاب، بل أن الأمر يصل إلى درجة إعلان نظام الأحكام العرفية (حالة بنغلادش).
وتعتبر ظاهرة منع الأحزاب من ممارسة المشاط السياسي ظاهرة عامة باعتبار أن الجيش يعتبرها المسؤولة عن فشل الحكم السابق.
ويمارس الجيش السلطة بواسطة تنظيمات غير دستورية، تتمثل في البلاغات والبيانات والمجالس العسكرية، التي تأخذ أسماء متعددة: مجلس الإصلاح الوطني، مجلس الثورة، مجلس التحرير الوطني، مجلس القيادة، مجلس الإنقاذ الوطني… بحيث يكون جل أعضاء الحكومة من العسكريين الذين قد يضاف إليهم بعض المدنيين على رأس بعض الوزارات الفنية.
وطبعا فإن هذا النوع من الأنظمة إما أن ينسحب تحت الضغط الشعبي، أو بعد أن يفي بالتزاماته بإرجاع السلطة إلى المدنيين (حالة السودان). إلا أن الوضعية الغالبة هي أن يستمر الحكم العسكري بشكل جديد مبنيا على دستور وانتخابات.

ثانيا: الدكتاتورية الحزبية

من بين الأنظمة السياسية التي ميزت دول العالم الثالث تركيز السلطة لفائدة حزب معين، قد يكون حزبا وحيدا أو حزبا مسيطرا. وإذا كان من الصعب وضع كل الأنظمة التي تعتمد أحد هذين النظامين بالدكتاتورية اعتبارا لضرورات دفعت بعض الدول إلى تبني هذا الأسلوب قصد المحافظة على الوحدة الوطنية، فإن بعض الحالات تمكن من إطلاق وصف الدكتاتورية لأن الحزب يكون هو الجهاز الرئيسي للحكم بحيث تكون المؤسسات الأخرى نابعة منه.
ومن خلال الممارسة تبين أن هذه الدكتاتورية الحزبية قد تتم دسترتها لتصبح ضمن مذهب الحكم، بحيث أن المشروعية الحزبية تحل محل المشروعية الوطنية أو الشعبية. ولذلك فإن الحزب السياسي لن يكون أداة للتعبير عن سياسة الشعب، بل مصدر السلطة السياسية (جبهة التحرير الوطنية الجزائرية في عهد الرئيس بن بلة وبومدين التي سندرسها لاحقا).
وفي حالة أخرى فإن الممارسة تذهب في اتجاه الاحتفاظ بالتعددية لكن مع سيطرة واقعية لحزب معين (الحزب الثوري التأسيسي بالمكسيك الذي سنشير إليه لاحقا).
وإذا كانت تجارب الدول الاشتراكية في اعتماد هذه الأنظمة الحزبية تقوم على أسس إيديولوجية، فإن تجارب دول العالم الثالث لم تؤد إلى تمكن الحزب من تأطير المواطنين بشكل جيد، وبالتالي فشلت التجربة نتيجة الضعف البنيوي للتنظيم الداخلي للحزب وقلة الأطر ولإبعاد الجماهير.

ثالثا: الدكتاتورية الفردية

بعد المراحل السابقة دخل العالم الثالث مرحلة دكتاتورية الرؤساء. إن هذا النظام الذي يرتكز ظاهريا على سند وتزكية الشعب وبواسطة دستور يركز السلطة في يد القائد. ويتم الجوء إلى أسلوب الاستفتاءات التي تكون بمثابة تزكية للرئيس (كامبودج، كوريا الجنوبية، مصر في عهد السادات…).
وفي بعض الحالات يتم اللجوء إلى الاقتراع الشعبي لاختيار الرئيس الذي يتمكن من ممارسة حكم دكتاتوري استنادا إلى تأييد شعبي. وقد وصلت الأمور إلى حد أن عمل بعض القادة على تقليص دور الدولة وتشخيصها فيهم. فبما أن القائد هو واضع الدستور فهو الذي يضع القواعد المناسبة لوضعيته حتى إذا كان الدستور موجود مسبقا فهو يؤول مقتضياته أو يعمل على مراجعتها حسب إرادته.
وتعتبر المادة الدستورية التي تمنع إعادة انتخاب الرئيس المادة الأكثر تعديلا في دول العالم الثالث: فقد تم هذا في الأرجنتين و البيرو، وفي كوريا الجنوبية تم إلغاء القاعدة التي تمنع الترشيح لولاية ثالثة، وفي الإكواتور أعيد انتخاب الرئيس خمس مرات ولم يتم عزله إلا بعد تدخل الجيش، وفي تونس خول الرئيس بورقيبة لنفسه سلطات رئيس الدولة مدى الحياة إلى أن تمت تنحيته في 7 نوفمبر 1987 بعد أن ثبت طبيا عجزه الكامل عن ممارسة السلطة…
يضاف إلى ما سبق عدم مسؤولية الرئيس سياسيا، وتعيينه للوزراء والقضاة وكبار الموظفين المدنيين والعسكريين، وصفته كقائد أعلى للقوات المسلحة، ورئاسته للحكومة، وتسييره للسياسة الداخلية والخارجية وجمعه لعدة وزارات… مما يجعله يقوم مقام الدولة (لقد كان رئيس جمهورية الغابون في بداية عهده وزير الدفاع الوطني والخارجية والإعلام والتخطيط). أما علاقته مع البرلمان فتتميز بفوق واسعة يجعل البرلمان جهازا لتزكية قرارات الرئيس. وتكتمل الوضعية برئاسته للحزب الوحيد أو الحزب القائد.
ولهذا ليس غريبا أن نجد في دستور الباراغواي ما يلي: “إن رئيس الدولة هو القائد الأعلى للدولة، والمسؤول عن حكم البلاد ولا يتقاسم الرئيس السلطة التنفيذية مع الحكومة، فهو الشخص الوحيد الذي يحكم، ولا يمثل الوزير الأول على الساحة السياسية إلا أحد أعوان الرئيس وحافظ سره”.
إن وضعا كهذا، يجعل الدولة مركزة في شخص الرئيس، يجعل غياب القائد بمثابة فراغ. وهو ما فهمه منظمو الانقلابات الذين كانوا يستغلون وجود الرئيس خارج البلاد لعزله: فقد وقع الانقلاب ضد نكرومه وهو غائب عن غانا، وعلى أوبوتي وهو خارج أوغندا، وعلى النميري وهو في طريق عودته من أمريكا.

رابعا: نظام الهيمنة الرئاسية

للتخفيف من حدة الشكل الدكتاتوري، لجأت بعض دول العالم الثالث إلى نظام يمزج بين الديمقراطية والدكتاتورية، وهو نظام الهيمنة الرئاسية. فعوض أن يكون النظام لا يقبل أية معارضة منظمة فإنه يتم فتح هامش ديمقراطي يتم الوصول إليه عن طريق جمع بعض تقنيات النظام البرلماني و النظام الرئاسي، وحتى بعض تقنيات الدكتاتورية “المهذبة” (كما سماها الأستاذ عبد الهادي بوطالب).
ونكتفي هنا بالإشارة بإيجاز إلى بعض هذه التقنيات:

  1. بالنسبة للأنظمة غير الملكية يتم انتخاب رئيس الدولة عن طريق الاقتراع الشعبي حتى لا يستمد سلطته من البرلمان، كما أنه في جل الحالات يتم تقديم مرشح واحد يتم اختياره بأشكال متعددة.
  2. اتساع سلطات رئيس الدولة بشكل يجعله يمارس وظيفة رئيس الدولة ورئيس الحكومة.
  3. لجوء الرئيس إلى الاستفتاء الذي عادة ما يعتبر استفتاء للتزكية.
  4. السلطات الواسعة للرئيس في حالة الأزمات.
  5. منح الرئيس (أو السلطة التنفيذية) حق اقتراح القوانين.
  6. الحضور والتدخل في المناقشات البرلمانية.
  7. إعطاء الأولوية لمشاريع القوانين على اقتراحات القوانين.
  8. حق الرئيس في قراءة ثانية للقانون.
  9. إضعاف سلطة البرلمان عن طريق تحديد القانون أو اعتمادا على آليات الحزب الوحيد أو بناء على دعم الحزب المؤيد.
  10. التحكم في عمل البرلمان عن طريق حق إصدار الأمر بتنفيذ القوانين دون أجل محدد.
  11. تنفيذ سلطة البرلمان في المجال المالي.
  12. إضعاف وسائل مراقبة البرلمان لمراقبة السلطة التنفيذية.

وعلى هذا الأساس أصبحت الهيمنة الرئاسية هي السائدة بين أنظمة دول العالم الثالث بحجة أن غياب هذه السلطة القوية للرئيس تجعل النظام عاجزا عن السير بانتظام. وطبعا هذا النوع من الهيمنة قابل لأن يتحول إلى دكتاتورية، إن لم تكن منظمة بنصوص دستورية تطبق في الواقع بأشكال دستورية.
القسم الثاني: مرحلة ما بعد منتصف الثمانينات
مع منتصف الثمانينات، عرف المجتمع الدولي تطورات كبيرة غيرت من طبيعة العلاقات الدولية. وهذه التغييرات كانت ناتجة أساسا عن تحولات داخلية عرفها النظام الداخلي للاتحاد السوفييتي. وذلك إضافة إلى عوامل ترجع إلى أسباب داخلية خاصة بكل دولة. وهكذا فبعد دراسة أسباب الأخذ بالنظام الديمقراطي أو العودة إليه (المبحث الأول) سنعالج مختلف الأشكال التي تم التوجه فيها إلى النظام الديمقراطي (المبحث الثاني).
المبحث الأول: أسباب الأخذ بالنظام الديمقراطي أو العودة إليه
تتعدد هذه الأسباب وتتداخل فيما بينها. فبعد صعود غورباتشوف إلى رئاسة الاتحاد السوفييتي وتطبيقه لمجموعة من الإصلاحات، سقط النظام الشيوعي المعتمَد في الدولة بشكل سريع. وهكذا تفككت الكتلة الاشتراكية وخاصة منها أوربا الشرقية، ثم تفككت دول الاتحاد السوفييتي نفسها. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تجاوزه إلى اعتماد الديمقراطية بمفهومها الغربي.
وطبعا، فإن تحولا مثل هذا، كان له الأثر الواسع على صعيد كل المجتمع الدولي. لقد اختفى الصراع الإيديولوجي الذي كان أساس الاستقطاب الدولي، وانتهت بذلك الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي و المعسكر الاشتراكي، ودخل المجتمع الدولي مرحلة جديدة، يبدو أن سمتها الأساسية هي هيمنة النظام السياسي الغربي المعتمد على التعددية الحزبية والديمقراطية.
و بما أن دول العالم الثالث كانت تنتمي إما لهذا المعسكر أو لذاك (رغم اعتمادها نظام عدم الانحياز)، فإنها وجدت نفسها ملزمة بإتباع النظام المهيمن.
لقد بدأ الرأي العام الدولي يهتم ويتتبع الشؤون الداخلية لكل الدول التي لا تحترم حقوق الإنسان أو التي لا تطبق الديمقراطية الحقة. وبضغط من هذا الرأي العام بدأت الدول الغربية ترفع شعار الديمقراطية في تعاملها مع دول العالم الثالث، لدرجة وجدت معها هذه الأخيرة نفسها في وضعية لا تسمح لها بالخروج عن التيار العام.
إن دمقرطة المؤسسات، واحترام نتائج الاقتراع الحر، و الاعتراف بالتعددية الحزبية، وضرورة تراجع الأنظمة الدكتاتورية السافرة، أصبحت مطالب لا يمكن تجاهلها.
وقد ساهمت شعوب الدول المعنية في العالم الثالث برفع مطالب تهدف إلى تكريس الديمقراطية و أصبحت مطلبا شعبيا.
ففي القارة الإفريقية سادت ظاهرة المؤتمرات الوطنية التي يتم تنظيمها من أجل تحديد ملامح النظام الجديد. وقد كان الرؤساء المستبدون يمانعون في عقد هذه المؤتمرات لأنها عادة ما تؤدي إلى محاكمة رموز النظام القائم.
وتجدر الإشارة إلى أن المؤتمر الذي انعقد بدكار في ماي 1992 و الذي شاركت فيه غالبية الدول الإفريقية حول “الديمقراطية وإدارة المرحلة الانتقالية” و الذي أكد على ضرورة تهذيب العلاقات بين الحكومة والمعارضة، وذلك بأن تعترف الحكومة للمعارضة بحقها في أن تعارض، وأن تعترف المعارضة للحكومة بحقها في أن تحكم”. وقد أشار المؤتمر بهذه المناسبة إلى أن إفريقيا السوداء عرفت ثلاثة وثلاثين نزاعا خلال الأربعين عاما الأخيرة سقط فيها أكثر من سبعة ملايين قتيل ذهبوا ضحية التعسف السياسي.
أما في أمريكا اللاتينية فقد سارعت إلى تنظيم انتخابات ديمقراطية مكنتها من العودة إلى الحكم المدني الطبيعي.
وفي آسيا التي تتضمن مجموعة من الدول العربية فإن التغيرات غالبا ما كانت تأتي من مستويات عليا ولم تنجح إلا بعض التجارب المحددة.
المبحث الثاني: أشكال اعتماد الديمقراطية
من خلال هذه التطورات السابقة نلاحظ أن أشكال اعتماد الديمقراطية لا تخرج عن الأشكال التالية: إما تحولات شكلية (أولا) وإما تحولات وسط عنف واضطرابات (ثانيا) وإما تحولات حقيقية تمت بشكل هادئ (ثالثا).
ومع ذلك ينبغي أن نشير إلى أنه رغم سقوط النظم الشيوعية فإن بعضها مازال قائما (الصين، كوبا، كوريا الشمالية)، كما أن بعض الأنظمة لازالت لم تلتحق بالركب التحرري.

أولا: التحولات الشكلية

نقصد بالتحولات الشكلية مختلف الإجراءات التي تم اعتمادها للوصول إلى الديمقراطية دون أن يؤدي ذلك إلى أي تغير في النظام القائم.
ففي الكامرون مثلا كان الرئيس “بول بيا” يرى أنه ليس هناك فائدة من عقد مؤتمر وطني مادامت الدولة قد رخصت بتعدد الأحزاب التي بلغ عددها 13 حزبا. إلا أن الانتخابات الرئاسية التي تمت في أكتوبر 1992 برهنت على أنه رغم التعددية ورغم تحالف أحزاب المعارضة فيما بينها داخل الجبهة الاجتماعية الديمقراطية، فإن ذلك لم يكن كافيا لنجاح مرشح هذه الأحزاب مادام أن الحزب الحاكم هو الذي تولى الإشراف على الانتخابات.
في أندنوسيا وسوريا والعراق وهي بلدان تحد من التعددية الحزبية كانت التغيرات تأتي من الأعلى، أما الدول الأخرى، ففتحت المجال أمام التعددية الحزبية دون أن يلحق النظام تغييرات حقيقية (انظر حالة موريتانيا لاحقا).

ثانيا: التغيرات العنيفة

عرفت بعض دول العالم الثالث النظام الديمقراطي (أو على الأقل الرغبة فيه) مسيرة من العنف من أجل تحقيق بعض المطالب.
ففي إفريقيا، فإن بعض الرؤساء لم يمانعوا في عقد مؤتمر وطني غير أنهم يقيمون في وجهه الحواجز حتى لا يفرض عليهم حل لا يقبلونه. ولعل أبرز مثال على ذلك موقف الرئيس “موبوتو سيسي سيكو”. ونفس الحالة عرفتها الطوغو مع تصلب الجنرال “إياديما” الذي قام بهجمة شرسة على المواطنين نتيجة مطالبتهم بالديمقراطية. نفس الحالة عرفتها مالي قبل الإطاحة بالرئيس السابق الجنرال “موسى تراوري” حيث عمل مجلس التصالح الوطني على إعداد دستور جديد و إقرار ميثاق للأحزاب وتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية بطريقة ديمقراطية. كما أن كونغو لم تعرف تغيرا إلا بعد سنتين من الهيجان السياسي.
أما في النيجر، فقد استولى “المؤتمر الوطني” على كل السلط، بما في ذلك التحكم في الجيش والدرك، كما منع الموظفين الكبار من وزراء وسفراء ونواب برلمانيين من مغادرة البلاد دون رخصة مسبقة، وحصر دور الحكومة في إدارة الأمور الجارية إلى أن يقوم نظام جديد. وقد تم بالفعل انتخاب مرشح المعارضة المشكلة في كتلة “الحركة الديمقراطية والاجتماعية” لرئاسة الدولة في آخر مارس 1993، وسجل ذلك نهاية الحكم العسكري الذي استمر في النيجر عشر سنوات.
وقد تطورت الأحداث في بلدان إفريقية أخرى في اتجاه التصلب والعنف إلى أن تحولت إلى حرب أهلية. وهذا ما حدث في كل من إثيوبيا، والصومال، و أنغولا، وليبيريا، ورواندا.
كما أن بلدان المنطقة الإفريقية الناطقة بالإنجليزية بدأت بدورها تنادي بالتحرر الديمقراطي، خاصة في البلدان الخاضعة لنظام الحزب الوحيد مثل كينيا، وتنزانيا، وسيراليون.
ورغم صعوبة المخاطرة وما ترتب عنها من مآس للكثير من البلدان الإفريقية، يبقى من الثابت أن التوجه الديمقراطي توجه لا رجعة فيه، سيما أن عددا آخر من الدول الإفريقية توصل إلى تحقيق هذا المطمح دونما طغيان من جانب أو جانب آخر.
أما في آسيا، فإن انتصار الثورة الإسلامية فتحت المجال للدين كعنصر مؤثر وقوي (كذلك حالة أفغانستان).
غير أن هذا التيار يلاقي معارضة قوية من طرف الأنظمة القائمة تتهمه بالتعصب واختيار أسلوب العنف بدل أسلوب الحوار. وقد دلت التجربة الجزائرية بعد تكريس التعددية الحزبية على استحالة التساكن بين لتيار الديني وبين التيارات الأخرى، خاصة منها الأحزاب ذات الترعة العلمانية. (انظر التجربة الجزائرية لاحقا بتفصيا).
كما مانعت من جهتها بعض الحكومات كتونس ومصر في الاعتراف بالتيار الديني كتنظيم سياسي، لأنه في رأيها لا يقبل الامتثال للقوانين الدستورية المعمول بها.
ويخشى أن يواجه التحرك الإسلامي في آسيا بتعصب المنتمين لمعتقدات أخرى، مما قد يترتب عن التصعيد لعمليات العنف. وهذا ما وقع في عدة مرات بالهند، وسيريلانكا، ويوغسلافيا منذ انقسامها إلى جمهوريات عرقية ودينية.

ثالثا: التغيرات الحقيقية

وعلى العكس مما سبق، انتقلت بعض التجارب إلى الممارسة الديمقراطية بشكل هادئ بصفة عامة.
وقد امتازت في هذا المجال التجربة البينينية بالرصانة، حيث توصل المؤتمر الوطني الذي انعقد في يناير 1990، إلى تحقيق النظام التعددي بدل النظام الماركسي، دون أن يؤدي ذلك إلى اصطدامات، ودون أن يمس بحرية وكرامة الرئيس السابق “ماتيو كيريكو”، الذي غادر الرئاسة مغادرة طبيعية، بعد انهزامه في الانتخابات بصفة ديمقراطية.
وتوالت التجارب لتعم بعض البلدان الإفريقية سنة 1993 التي يمكن اعتبارها سنة الانتخابات والتغيير. فكما حدث في بينين، تم التغيير الديمقراطي و التناوب على الحكم بانتصار المعارضة في كل من ساوطومي وفي مدغشقر، وزامبيا، والرأس الأخضر…، حيث تفوق زعماء المعارضة على الرؤساء السابقين وهم في موقع مسؤوليتهم. بل هناك من البلدان ما حقق مسلسل الانتخابات الديمقراطية دون اللجوء إلى إحداث مؤتمر وطني، وهذا ما حدث بالفعل في كل من غانا، وساحل العاج، والسنغال، بحضور مراقبين أجانب وباحتدام المعركة بين الرئيس ومنافسيه، لما وفرته عملية الانتخابات من ضمانات كفلت مساواة الحظوظ بين المتنافسين.
وفي أمريكا اللاتينية، أجريت سنة 1990 انتخابات رؤساء جدد في نيكاراغوا والأرجنتين والبرازيل والشيلي والبيرو.
كما نجحت التحولات في الفيليبين وباكستان وكوريا الجنوبية حيث انتصر تيار الحكم الديمقراطي.
أما تجربة كامبوديا فتميزت بتنظيم انتخابات ديمقراطية تحت مراقبة الأمم المتحدة انتهت بتفوق أهم أحزاب المعارضة “الجبهة الموحدة لكامبوديا المستقلة” التي يرأسها الأمير “رانا ريد” نجل الملك “نورودوم سيهانوك”.

دراسة النماذج
دراسة خاصة بالأنظمة السياسية في أقطار المغرب العربي
 تتميز أقطار المغرب العربي بخصائص مشتركة عديدة، تتمثل أهمها فيما يلي:
–              الانتماء العربي والتطلع إلى الوحدة.
–              الانتماء للعالم الإسلامي.
–              تشكيل المغرب العربي الكبير.
–              الانتماء الإفريقي و العالم ثالثي، وبالتالي إلى مجموعة عدم الانحياز.
–              الخضوع للاستعمار الأجنبي المتمثل خاصة في الاستعمار الفرنسي أساسا، إلى جانب خضوع بعض المناطق إلى إسبانيا أو إلى إيطاليا.
والملاحظ هو أنه لفهم الأنظمة السياسية لهذه الأقطار، ينبغي الإشارة إلى :
–              أغلبية هذه الدول عرفت في مرحلة ما بعد الاستقلال سيطرة نظام الحزب الواحد.
–              الدور الذي لعبته المؤسسة العسكرية في توجيه النظام السياسي.
وسنقتصر على ثلاث تجارب: المغرب، والجزائر، وموريتانيا.
 المبحث الأول: التجربة المغربية
إن التركيز في البداية على التجربة المغربية نابع من أسباب عديدة ترجع أساس إلى العوامل التالية:
–              يتعلق الأمر بتجربة غنية بالأحداث والوقائع.
–              إنها تجربة تمت في إطار التعددية الحزبية التي حرمت منها –لفترة طويلة- العديد من مجتمعات العالم الثالث الأخرى.
ويمكن دراسة هذه التجربة من خلال ثلاث مراحل ندرس كلا منها في فرع مستقل. 
الفرع الأول: مرحلة ما قبل الحماية
تميزت بداية القرن العشرين بحادثين مهمين:
–                الدعوة إلى تطوير الحكم نحو الديمقراطية الدستورية.
–              الحملة الاستعمارية الأوربية على المغرب.
ويمكن هنا الإشارة إلى:
*               تكوين مجلس الأعيان سنة 1905 (في عهد السلطان عبد العزيز) وذلك للرد على “مشروع الإصلاحات” التي قدمها السفير الفرنسي في طنجة إلى السلطان والتي تريد فرنسا إدخالها إلى المغرب. وقد انتهى هذا المجلس إلى عدم قبول هذا المشروع.
*               ظهور مجموعة من الدساتير:
Ø            المشروع الذي ينسب إلى كاتب مجهول.
Ø            مذكرة الحاج على زنيبر التي سماها “حفظ الاستقلال ولفظ سيطرة الاحتلال”، والتي تضمنت بعض النقط الدستورية وبعض النقط الإصلاحية.
*               الشروط الدستورية التي كتبت من طرف علماء وطنيين، والمرتبطة ببيعة السلطان عبد الحفيظ بعد عزل أخيه عبد العزيز سنة 1908، وتعتبر في جوهرها نوع من التوجه إلى الملكية الدستورية.
*               مشروع دستور 1908 الذي نشر بجريدة “لسان المغرب” التي كانت تصدر في طنجة، والذي يعد مشروع دستور كامل.
   الفرع الثاني: مرحلة عهد الحماية
فرض نظام الحماية على المغرب في 30 مارس 1912. وتميزت هذه المرحلة بصدور العديد من النصوص القانونية المكتوبة، وإقامة العديد من المؤسسات. وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى الأحداث الأساسية التالية:
*               إحداث مجلس شورى الحكومة في 18 مارس 1919 الذي كان يضم إلى جانب القسم الفرنسي قسما مغربيا. وقد كان هذا المجلس يقوم بدراسة الشؤون المالية والاقتصادية والاجتماعية وتقديم آرائه الاستشارية إلى المقيم العام. أما بالنسبة لمنطقة النفوذ الإسباني في الشمال، فقد بقيت تحت السلطة المدنية والدينية للسلطان لكنها تدار من قبل خليفة يختاره السلطان وذلك تحت رقابة مفوض سامي إسباني. أما بالنسبة لمنطقة طنجة، فقد وضع لها نظام خاص بموجب اتفاقية ديسمبر 1923.
*               دستور الحرب التحريرية بالريف سنة 1921، والذي جاء بعد تحرير مناطق من الاستعمار، من أجل إيجاد تنظيم دستوري تسير عليه حكومة الثورة.
*               المطالبة بالديمقراطية من خلال كتلة العمل الوطني التي وضعت “برنامج الإصلاحات المغربية” بتاريخ فاتح ديسمبر 1934. ويمكن تلخيص هذا البرنامج في المطالبة بالحريات العامة من ناحية وتنظيم المجالس التمثيلية من ناحية أخرى.
*               المطالبة بالاستقلال من خلال وثيقة 11 يناير 1944 الشهيرة.
الفرع الثالث: مرحلة ما بعد الاستقلال
المطلب الأول: قبل صدور دستور 1962

أولا: تجربة المجلس الوطني الاستشاري

أحدث هذا المجلس بالظهير الملكي الصادر في 3غشت 1956. وهو عبارة عن مجلس استشاري معين يدلي برأيه في الميزانية العامة للدولة، كما يستشار في جميع القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعرض عليه. وقد كان يمثل جميع التيارات آنذاك، واستمر هذا المجلس في مزاولة مهامه إلى غاية 23 ماي 1959. (كان المجلس تحت رئاسة المهدي بن بركة).
ثانيا: صدور العديد من النصوص القانونية الهامة، التي صدرت بعد العهد الملكي الوارد بخطاب 8 ماي 1950، والتي نذكر منها:
–           قوانين الحريات العامة الصادرة في 15 نوفمبر 1958 المتعلقة بالصحافة والجمعيات والتجمعات العمومية. (وقد تم تعديلها في 13 أبريل 1973).
–           القانون الانتخابي الصادر بفاتح سبتمبر 1959 والذي تعرض لعدة تعديلات لاحقة.
–           قانون المجالس الحضرية والقروية الصادر بظهير 23 يونيو 1960. (والذي تم تجديده في 30 سبتمبر 1976).
–           قوانين الغرف المهنية المنظمة لغرف الصناعة والتجارة العصرية (6 يناير 1958)، وللغرف الفلاحية (24 أكتوبر 1962)، وغرف الصناعة التقليدية (28 يونيو 1963)، التي تعرضت لاحقا لعدة تعديلات.

ثالثا: محاولات وضع الدستور

–           في 14 يوليوز 1960 أعلن الملك عن تعيين مجلس تأسيسي مكلف بوضع مشروع دستور. وقد تشكل من أعضاء يمثلون رجال العلم والقضاء والدين والقانون والمنظمات الوطنية والأقاليم وشخصيات أخرى. إلا أن هذا المجلس جمد أعماله بنفسه على إثر خلافات ظهرت عند انتخاب رئيسه.
–           في 2يونيو 1961 صدر القانون الأساسي المتضمن للكثير من المبادئ الدستورية: المغرب مملكة عربية إسلامية، الإسلام دين الدولة الرسمي، العربية لغة البلاد الرسمية، متابعة الكفاح لاستكمال وحدة البلاد الترابية، مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات، التزام الدولة بصيانة كرامة الأشخاص وكفالة الحريات الخاصة والعامة، فصل السلط واستقلال القضاء لضمان العدل، إقرار نظام استقلالي لتحقيق العدالة الاجتماعية وتنمية الإنتاج، تكفل الدولة بالتعليم وفق توجيه وطني عربي إسلامي، التزام عدم التبعية…

المطلب الثاني: التجارب الدستورية من خلال الاستفتاءات والانتخابات

أ‌  –        الاستفتاءات الدستورية
عرف المغرب مجموعة من الاستفتاءات الدستورية التي كانت محطات هامة لفتح مناقشات واسعة حول النظام السياسي بالبلاد. وقد عرف المغرب الاستشارات التالية:

  1. استفتاء 7 ديسمبر 1962

كان بمناسبة الدستور الأول، وتميز بحملة عكست انقسام الآراء إلى:
–           اتجاه مؤيد: حزب الاستقلال، الحركة الشعبية، (المحجوبي أحرضان وعبد الكريم الخطيب)، الأحرار المستقلون (أحمد رضا كديرة).
–           اتجاه معارض: الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الحزب الديمقراطي الدستوري (حسن الوزاني)، الحزب الشيوعي (المنحل)، الاتحاد المغربي للشغل والاتحاد الوطني لطلبة المغرب.
وقد كانت هذه الخلافات بين الأحزاب السياسية حول طريقة إعداد الدستور واضحة: فالاتحاد الوطني للقوات الشعبية مثلا كان يرى ضرورة انتخاب مجلس تأسيسي لوضع الدستور، بينما كان حزب الاستقلال يعتقد أن حصول المغرب على دستور –ولو كان معدا من طرف هيئة غير منتخبة- خطوة في طريق النظام الدستوري، هذا إضافة إلى خلافات أخرى حول طبيعة النظام السياسي.
أما نتائج الاستفتاء فكانت في صالح الاتجاه الأول.

  1. استفتاء 24 يوليوز 1970

يتعلق الأمر بالاستفتاء حول الدستور الثاني الذي جاء عقي حالة الاستثناء التي عرفتها البرد من سنة 1965 إلى غاية تاريخ الإعلان عن هذا الاستفتاء من خلال خطاب 8 يوليوز 1970. وقد كانت الآراء منقسمة بشأنه بين:
–            المؤيدون: الحركة الشعبية و الحزب الديمقراطي الدستوري.
–           المعارضون: حزب الاستقلال، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حزب التحرر والاشتراكية، والنقابات (العمالية والطلابية).
–           مع سكوت الحزب الاشتراكي الديمقراطي (أحمد رضا كديرة).
وقد أسفرت نتيجة الاستفتاء عن فوز أنصار “نعم”.

  1. استفتاء فاتح مارس 1972

بعد توقيف التجربة البرلمانية الثانية، أعلن الملك في شهر فبراير 1972 عن نيته في عرض مشروع دستور جديد على الاستفتاء الشعبي. وقد قررت الكتلة الوطنية عدم المشاركة (الاستقلال والاتحاد الوطني). وكانت النتائج أيضا في صالح الاتجاه المؤيد للدستور.

  1. تعديلات ماي 1980

ويتعلق الأمر باستفتاءين. أحدهما حول تخفيض سن الرشد القانوني لولي العهد وحول مجلس الوصاية (23ماي)، والثاني حول تمديد الولاية التشريعية بسنتين لتصبح 6 سنوات بدلا من 4 (30ماي ).

  1. استفتاء 4 سبتمبر 1992

وقد تم على إثر الخطاب الملكي في 20 غشت 1992. فتم عرض مشروع دستور جديد على الاستفتاء الشعبي بتاريخ 4 سبتمبر 1992. ويلاحظ هنا مرة أخرى أن حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والاتحاد الوطني للقوات الشعبية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي تبنت موقف عدم المشاركة (وكذلك المنظمات النقابية الأساسية)، بينما شارك حزب التقدم والاشتراكية بالتصويت بنعم إلى جانب الأحزاب الموالية للحكومة: التجمع الوطني للأحرار، الحزب الوطني الديمقراطي، الحركة الشعبية، الحركة الوطنية الشعبية، الاتحاد الدستوري.
أما حزب الطليعة الاشتراكي فقد اتخذ قرار المقاطعة.
هذا، ونشير إلى مذكرة حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي التي تقدما بها في  9أكتوبر 1991 إلى جلالة الملك، سجلا فيها الخطوط العريضة للتغيرات التي يريان ضرورتها في الدستور.
 وقد عرف هذا الدستور تعديلا جزئيا يتعلق بتغيير السنة المالية. وهو تغيير تمت المصادقة عليه بالإجماع بتاريخ 15 سبتمبر 1995.

  1. استفتاء 13 سبتمبر 1996

خلال هذا الاستفتاء الدستوري الأخير، يلاحظ أن الاتحاد الاشتراكي قد صوت لأول مرة تصويتا إيجابيا لصالح الدستور إلى جانب حزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية، والأحزاب التقليدية التي دأبت على التصويت بنعم. أما الموقف المعارض فقد بقي لدى منظمة العمل الديمقراطي الشعبي (التي أدى موقفها هذا إلى انشقاق جناح لتشكيل الحزب الاشتراكي الديمقراطي)، والأحزاب والتنظيمات اليسارية الصغرى.
وقد أدى هذا الموقف الجديد إلى دينامية جديدة في السياسة الداخلية تتمحور حول توفير جو ملائم لانتخابات حرة ونزيهة والتراضي حول القوانين الأساسية (قانون الجهة، القانون الانتخابي) وحول التحضير للتناوب على السلطة.
ب‌  –    الانتخابات

1.     الانتخابات الجماعية

*               انتخابات 29 ماي 1960
تم انتخاب أعضاء المجالس البلدية والقروية بتاريخ 29 ماي 1960 وذلك لولاية جماعية تبلغ مدتها ثلاث سنوات. ورغم انتقاد بعض الأحزاب للسلطات المقلصة للجماعات، وللوصاية المفروضة عليها، ولأسلوب الاقتراع الفردي ذي الدورة الواحدة، وكذلك تقسيم الدوائر الانتخابية،… فإن الحملة الانتخابية كانت شديدة بين حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والحركة الشعبية.
لقد حصل حزب الاستقلال على 45 ٪ من الأصوات مما مكنه من حوالي 5000 مقعدا (أي 40 ٪ من المنتخبين)، وحصل الاتحاد الوطني على 30 ٪ من الأصوات وبالتالي 2000 مقعدا (أي 23 ٪ من المقاعد)، كذلك حصل الأحرار على 25 ٪ من الأصوات.
*               انتخابات يوليوز 1963
مرت هذه الانتخابات في جو مشحون نتيجة أحداث مؤامرة 1963 التي تلتها اعتقالات دفعت الاتحاد الوطني وحزب الاستقلال إلى مقاطعة هذه الانتخابات. فكانت هذه النتائج في صالح جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية التي حصلت على ما يفوق 10.000مقعدا (90.16٪).
والملاحظ أن الولاية الجماعية كانت لمدة ثلاث سنوات (أي من 1963 إلى 1966)، لكن ظروف حالة الاستثناء دفعت إلى تمديد فترتهم ثلاث سنوات أخرى إلى غاية 1969.
*               انتخابات 3 أكتوبر 1969
مرت هذه الانتخابات إبان حالة الاستثناء، دون أن بقع أي تغيير على مستوى الإطار القانوني للجماعات المحلية.
وقد اتخذت بعض الأحزاب قرارا بعدم المشاركة:
–        حزب التحرر والاشتراكية قرر عدم المشاركة.
–        الاتحاد الوطني قرر مقاطعة الانتخابات سواء على مستوى الترشيحات أو الحملة الانتخابية.
–        حزب الاستقلال قرر المقاطعة مع ترك الحرية للأعضاء للترشيح بصفة شخصية.
–        الحركة الشعبية بذلت جميع الجهود لإنجاح هذه الانتخابات.
لهذه الأسباب مرت هذه الانتخابات في جو من عدم الاكتراث نتيجة غياب صحف المعارضة. فجريدة التحرير الناطقة باسم الاتحاد الوطني، والطليعة ثم الكفاح الوطني بالنسبة لحزب التحرر والاشتراكية كانت غائبة نتيجة منعها. إضافة إلى أن الإذاعة والتلفزة وجريدة الأنباء وصحافة مارس كانت تعبر عن آراء الحكومة فقط. كما أن الانشغال بتغطية أحداث المؤتمر الإسلامي (من 21 إلى 28 سبتمبر 1969)، غطى على الحملة الانتخابية.
وقد حصد الأحرار (المحايدون 82٪ من المقاعد أي ما يفوق 9000 مقعدا) متبوعين بالحركة الشعبية التي حصلت على 12٪ من المقاعد أي ما يفوق 1400 مقعد.
*               انتخابات نوفمبر 1976
جاءت هذه الانتخابات مباشرة بعد تحرير الصحراء والجو السياسي الجديد بالبلاد، وقد كانت نتائجها كما يلي:
–        الأحرار: 8582 مقعدا (94.24٪ من المقاعد) مع 616 رئاسة.
–        حزب الاستقلال: 2184 مقعدا مع 72 رئاسة.
–        الحركة الشعبية: 1045 مقعدا (84 رئاسة).
–        الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية 874 مقعدا (24 رئاسة فقط نتيجة تحالف الاستقلال والأحرار).
–        الحركة الشعبية الديمقراطية الدستورية (عبد الكريم الخطيب): 542 مقعدا (26 رئاسة).
–        الاتحاد الوطني للقوات الشعبية: 113 مقعدا.
–        حزب العمل (عبد الله الصنهاجي): 58 مقعدا.
–        حزب التقدم والاشتراكية: 26 مقعدا.
–        الحزب الديمقراطي الدستوري (محمد حسن الوزاني): 19 مقعدا.
–        الحزب الحر التقدمي (أحنوش أحمد والحاج): 5مقاعد.
*               انتخابات 1983
وقد كان من المقرر أن تنتهي ولايتها خلال سنة 1989، إلا أنه تم تمديدها بسنتين، أي إلى غاية 1992 لأسباب ترتبط بما كان مطروحا آنذاك حول الاستفتاء في الصحراء المغربية.
*               انتخابات أكتوبر 1992
–        التجمع الوطني للأحرار: 4829 مقعدا
–        اللامنتمون 3111 مقعدا
–        الاتحاد الدستوري: 2992 مقعدا
–        حزب الاستقلال: 2796 مقعدا
–        الحركة الشعبية: 2667 مقعدا
–        الحزب الوطني الديمقراطي: 1704 مقعدا
–        الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية: 1565 مقعدا
–        حزب التقدم والاشتراكية: 184 مقعدا
–        حزب الشورى والاستقلال: 83 مقعدا
–        حزب العمل: 28 مقعدا
–        الحركة الشعبية الديمقراطية: 3 مقاعد.
وقد تميزت الحملة الانتخابية بإلغاء ترشيح ما يزيد عن 400 مرشح بتهمة الاتجار في المخدرات، وذلك تحت تأثير المعارضة. كما أن المشاركة لم تتعدى 74٪، وأن عدد الأوراق الملغاة بلغ قرابة 700 ألف.

2.     الانتخابات التشريعية والتجارب البرلمانية

*               انتخابات 1963 والتجربة البرلمانية الأولى
بعد المصادقة على دستور 1962، عاش المغرب تجربة جديدة في إطار مناخ سياسي غير ملائم، لأن المواقف والتناقضات السابقة ظلت مخيمة على العلاقات بين الفاعلين السياسيين بالبلاد، وأثرت بشكل سلبي على فرصة تكريس تقاليد ديمقراطية.
إضافة إلى ذلك، فإن الحملة الانتخابية والنتائج نفسها لم تسمح بتطوير التجربة. لقد تركزت الحملة الانتخابية أساسا بين حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية التي أسسها أحمد رضا كديرة الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الداخلية لجميع التنظيمات الموالية للحكومة ومجابهة المعارضة (وقد ضمت الأحرار المستقلين والحركة الشعبية والحزب الديمقراطي الدستوري).
وقد كانت نتائج انتخابات 17 ماي 1963كما يلي:
–        حزب الاستقلال: 41 مقعدا.
–        الاتحاد الوطني للقوات الشعبية: 28 مقعدا.
–        جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية: 69 مقعدا.
–        غير المنتمون: 6 مقاعد.
وقد أفرزت هذه النتائج مفاجآت لم تكن منتظرة:
–        بالنسبة لحزب الاستقلال: نجاح علال الفاسي وعبد الخالق الطوريس، وفشل بوستة والقادري والدويري.
–        بالنسبة للاتحاد الوطني: نجاح عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة وبن جلون، لكن انهزم اليوسفي في طنجة أمام مرشح جبهة الدفاع.
–        بالنسبة لجبهة الدفاع: فشل زعماء الجبهة من بينهم الوزراء السبعة: بوطالب، إدريس السلاوي، الوزاني، أحرضان، بلعباس، بنهيمة، مولاي امحمد العلوي، وتمكن رضا اكديرة من الفوز.
وفي 2 يناير 1964 تمت إعادة الانتخابات في 7 دوائر نتيجة الطعون المقدمة فتحولت النتائج إلى: 40، 27، 71، 6.
وبما أن البرلمان كان يتكون من غرفتين فإن انتخابات الغرفة الثانية (مجلس المستشارين) قد تمت في 13 أكتوبر 1963، وهي انتخابات قاطعها حزب الاستقلال والاتحاد الوطني والاتحاد المغربي للشغل احتجاجا على عدم وجود ظروف حسنة للانتخاب، مما مكن جبهة الدفاع من الحصول على ما يفوق 104 مقعد. بل أن هذه الأحزاب قاطعت كل الانتخابات الموالية: المحلية والإقليمية والمهنية.
وبناء على ذلك تشكلت الحكومة في 13 نوفمبر 1963، وكان أغلبية أعضائها من الجبهة. إلا أن الانقسامات داخلها وعدم الانسجام لم يجعل هذه الحكومة تدوم طويلا. فالحركة الشعبية كانت تطالب بحقائب وزارية أكبر، كما أن الصراع بين أحرضان والخطيب قد توسع، وإنشاء رضا اكديرة لحزبه الخاص في أبريل 1964 (الحزب الاشتراكي الديمقراطي) كانت عوامل في غير صالح الأغلبية.
وهكذا مرت هذه التجربة البرلمانية الأولى في جو يسوده الصراع الشديد بين المعارضة والأغلبية الحكومية سواء داخل البرلمان أو خارجه.
فالأنشطة التشريعية للبرلمان الأول كانت ضعيفة وتتمثل في:
–        قانون توحيد المحاكم وتعريبها ومغربتها وقد صدر بالإجماع.
–        قانون الاقتطاع من أجور الموظفين كضريبة.
–        قانون إنشاء محكمة عدل خاصة بجنايات الغدر والرشوة واستغلال النفوذ.
–        تعديل قانون الصحافة.
–        التصميم الثلاثي (1965-1967) الذي قدمته الحكومة في 22 مارس 1965.
–        ميزانية 1964، وميزانية 1965.
لكن يبقى ملتمس الرقابة الذي تقدم به فريق الاتحاد الوطني في 15 يونيو 1964 ضد الحكومة أهم حدث عرفته هذه التجربة.
وقد عقد البرلمان أيضا دورة استثنائية بعد خلاف حاد تم رفعه إلى التحكيم الملكي. فالدورة كانت بمبادرة من حزب الاستقلال، إلا أن الأغلبية الحكومية أعلنت عن عزمها على عدم حضورها. وقد أقر التحكيم الملكي مشروعية هذه الدورة.
ولم يتمكن البرلمان من إنهاء مدته نظرا لإعلان حالة الاستثناء بتاريخ 7 يونيو 1965 نتيجة أحداث الدار البيضاء، واشتداد الخلافات بين الأغلبية والمعارضة.
*               انتخابات 21 و 28 غشت 1970 والتجربة البرلمانية الثانية
على إثر صدور دستور 1970 أجريت انتخابات 21 غشت 1970 لانتخاب 90 عضوا بالاقتراع المباشر، و 28غشت لانتخاب 150 عضوا للاقتراع الغير المباشر لتمثيل الجماعات (90مقعدا) والهيئات المهنية (60مقعدا).
وقد مرت في ظروف سادتها الكتلة الوطنية التي تشكلت من حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية في 28 يوليوز 1970، والنقابات التابعة لها (الاتحاد المغربي للشغل، الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، الاتحاد الوطني لطلبة المغرب)، إضافة إلى عدم مشاركة الحركة الشعبية الديمقراطية الدستورية التي يترأسها عبد الكريم الخطيب والتي انفصلت عن الحركة الشعبية (المحجوبي أحرضان)، والحزب الديمقراطي الدستوري الذي أعلن عدم المشاركة، وسكوت الحزب الاشتراكي الديمقراطي (رضا اكديرة).
وقد جعلت هذه المقاطعة الحركة الشعبية المشارك الوحيد إضافة إلى بعض الترشيحات المستقلة. فجاءت النتائج كما يلي:
–        الاقتراع المباشر:
غير المنتمون: 64
الحركة الشعبية: 21
حزب الاستقلال: 04 (يتعلق الأمر في الحقيقة بمنشقين عن الحزب)
اتحادي منشق عن الاتحاد: 01
–        الاقتراع الغير المباشر: فوز ساحق للأحرار.

 ولعل هذا ما جعل وزير الداخلية يعلن في مؤتمره الصحفي المنعقد بتاريخ 29 غشت: ” إن المجلس يضم 219 نائبا مؤيدا للحكومة من أصل العدد الإجمالي البالغ 240 عضوا”.

إلا أن أحداث صيف يوليوز 1971 لم تسمح للبرلمان أن يستمر طويلا. مما أدى إلى تجميد نشاط المجالس وتوقيف العمل بالدستور وفتح مفاوضات مع المعارضة.
*               انتخابات 1977 و 1984 والتجربة البرلمانية الثالثة والرابعة
لقد أجريت الانتخابات التشريعية الأول في ظل دستور 1972 بتاريخ 3 يونيو 1977 لاختيار ثلثي أعضاء مجلس النواب بالاقتراع المباشر.
إلا أن النتيجة النهائية للانتخابات المباشرة أو الغير المباشرة أسفرت عن فوز كبير لحزب حديث: التجمع الوطني للأحرار (الذي يرأسه وزير أول سابق)، والذي “تمكن من الحصول على الأغلبية المطلقة في مجلس النواب أي 141 مقعدا من بين 264 مقعدا آنذاك (وقد انقسم هذا التنظيم لاحقا بسبب انشقاق حصل تحت اسم الحزب الوطني الديمقراطي)، وفاز حزب الاستقلال ب51 مقعدا، والحركة الشعبية ب44 مقعدا، أما المعارضة فلم يعترف لها إلا ب16 مقعدا: 15 مقعدا للاتحاد الاشتراكي ومقعد واحد لحزب التقدم والاشتراكية (كما فاز حزب العمل بمقعدين).
وقد شكل “سقوط” عبد الرحيم بوعبيد أهم حدث في هذه الانتخابات. كما تبينت عيوب الاقتراع الفردي حيث حصل الحزب الديمقراطي على 29 مقعدا بواسطة 625786 صوتا، في حين لم يحصل الاتحاد الاشتراكي إلا على 15 مقعدا ب783541 صوتا.
أما نشاط مجلس النواب خلال هذه الولاية، فيمكن حصره في نقطتين:
¬          العمل التشريعي: تقدمت الحكومة ب 153 مشروع قانون صادق المجلس على 131 منها:
–        84 مشروعا يتعلق بميادين التشريع.
–        6 قوانين مالية.
–        قانون المخطط الثلاثي وقانون لنخطط الخماسي.
–        37 اتفاقية دولية.
ومقابل ذلك لم يتقدم النواب إلا ب94 مقترح قانون صادق المجلس على 14 منها فقط.
¬          مراقبة الحكومة: اقتصر الأمر على الأسئلة الشفوية (تم طرح 1076 سؤالا أجابت الحكومة عن 644) والكتابية (طرح منها 872 أجيب على 588) لأنه لم تكن هناك إمكانية لتقديم ملتمس رقابة. وقد تم استعمال أسلوب لجان البحث والتقصي (رغم عدم النص عليها دستوريا، ورغم قرار 20 أبريل 1978 الصادر عن الغرفة الدستورية) وذلك بمناسبة تسرب امتحانات البكالوريا سنة 1979، ولجنة لزيارة السجون على إثر إضراب المعتقلين السياسيين عن الطعام.
ولذلك، فإن المرحوم الدكتور عبد الرحمن القادري قد خلص إلى “أن الحصيلة… هزيلة وتافهة”.
هذا وينبغي الإشارة إلى أن الولاية الأصلية لمجلس النواب كانت في الأصل 4 سنوات، أي كان مقررا لها أن تنتهي في 1981. لكن تم تمديدها بموجب التعديل الدستوري بتاريخ 30 ماي 1980 لتصبح 6 سنوات. إلا أن المعارضة الاتحادية التي كانت قد رفضت هذا التعديل أعلنت أن البرلمان غير معني بهذا التمديد كما أعلنت انسحابها من البرلمان بمجرد انتهاء ولايته الأصلية مما خلق جوا سياسيا غير طبيعي، يضاف إليه أحداث الإضراب العام الذي دعت إليه الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وما ترتب عن رفض قيادة الاتحاد الاشتراكي اقتراح إجراء الاستفتاء في الأقاليم الصحراوية. ولم يلتحق النواب الاتحاديون بمجلس النواب إلا بعد تدخل ملكي صارم أعاد الأمور إلى نصابها.
أما الانتخابات التشريعية الثانية فقد تمت خلال سنة 1984، وكانت الأغلبية المطلقة مرة أخرى من نصيب حزب حديث النشأة تحت قيادة وزير أول سابق (الاتحاد الدستوري): 83 مقعدا، التجمع الوطني للأحرار: 61 مقعدا، الحركة الشعبية: 47 مقعدا، حزب الاستقلال: 41 مقعدا يضاف إليها مقعدان للمثلي المأجورين من الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، الاتحاد الاشتراكي: 36 مقعدا يضاف إليها ثلاثة مقاعد لممثلي المأجورين من الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، الحزب الديمقراطي: 24 مقعدا، الاتحاد المغربي للشغل: 5 مقاعد، حزب التقدم والاشتراكية: مقعدان، منظمة العمل الديمقراطي الشعبي: مقعد واحد، وحزب الوحدة والتضامن: مقعد واحد. (وقد تغيرت هذه الأرقام لاحقا بشكل طفيف إما بسبب الانتخابات الجزئية أو تغيير النواب لانتماءاتهم…).
وقد استفاد هذا البرلمان من تمديد الولاية لسنتين، حيث لم تجر الانتخابات في الوقت المقرر لها (1990) بل في سنة 1993، وذلك بعد استفتاء دجنبر 1989 القاضي بالموافقة على تمديد ولاية مجلس النواب القائم لمدة سنتين لتمكين الأمم المتحدة من إجراء الاستفتاء  بالصحراء المغربية.
ورغم أن المؤسسة البرلمانية كانت ضعيفة، فإنها مع ذلك ساهمت في إنضاج الشروط للتعديلات الدستورية اللاحقة.
ففي المجال التشريعي صادق البرلمان على 214 قانونا يعود أصلها إلى 199 مشروع قانون و15 مقترح قانون (أغلبها اتفاقيات دولية). أما في مجال مراقبة العمل الحكومي، فقد طرح النواب 2775 سؤالا أجابت الحكومة عن 1963 سؤالا في الجلسات العمومية، وكتابة عن 31 سؤالا بعدم الاختصاص، وحول 320 سؤالا إلى أسئلة كتابية، وتم سحب أو إلغاء 80 سؤالا، وبقي 381 بدون جواب، أما عن الأسئلة الكتابية فقد بلغت 1702 أجيب عن 1352 منها.
وقد سجلت هذه الولاية إيداع ملتمس خلال ماي1991 ضد السياسة الحكومية نتيجة التنسيق بين مكونات المعارضة داخل البرلمان. وقد صوتت الأغلبية ضد هذا الملتمس (200 ضد 82). كما عرف تشكيل لجنة لتقصي الحقائق في أحداث فاس على إثر إضراب 14 ديسمبر 1990.
*               انتخابات 1993 والتجربة البرلمانية الخامسة  
أجريت هذه الانتخابات في إطار دستور 1992، وذلك بتاريخ 25 يونيو 1993 بالنسبة للانتخابات المباشرة، و17 سبتمبر 1993 بالنسبة للانتخابات غير المباشرة. وبقدر ما ولدت الأولى آمالا كبيرة في التغيير بقدر ما أثارت الثانية خيبة أمل كبرى:
¬          الانتخابات المباشرة: 222 مقعدا
لقد تميزت هذه الانتخابات عن سابقاتها بالتنسيق بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي وتقديم مرشح مشترك، لذا كان طبيعيا بأن يفوزا ب91 مقعدا (من بينهم امرأتان لأول مرة في تاريخ المغرب)، كما حصل حزب التقدم والاشتراكية على 06 مقاعد، وحصلت وحصلت منظمة العمل الديمقراطي الشعبي على مقعدين (02). (إذن حصلت الكتلة الديمقراطية على 99 مقعدا).
أما بالنسبة لأحزاب الوفاق فقد حصلت على 74 مقعدا موزعة كما يلي: 27 مقعدا للاتحاد الدستوري، 33 للحركة الشعبية، و14 للحزب الوطني الديمقراطي.
كما حصل التجمع الوطني للأحرار على 28 مقعدا، وهي نتيجة غريبة إذ سبق لنفس الحزب أن احتل المرتبة الأولى في الانتخابات الجماعية عندما فاز ب 4829 مقعدا؟.
وحصل حزب الحركة الوطنية الشعبية على 14 مقعدا، وتوزعت السبعة مقاعد المتبقية على باقي التيارات السياسية.
لقد كانت هذه النتائج مشجعة، لأنها ستفتح آفاق سياسية جديدة، وستضع التناوب على السلطة في المغرب في طريقه السليم رغم بعض الاحتجاجات حول النتائج. خاصة وأن التدخلات الملكية كانت تصب في اتجاه انتخابات نزيهة. 
¬          الانتخابات غير المباشرة: 111 مقعدا
 لقد تم تخصيص 69 مقعدا لهيئة المستشارين الجماعيين، لكن النتائج كانت غير منتظرة بتاتا: لقد حصل الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال على 06 مقاعد ؟؟، وحصل التجمع الوطني للأحرار على 08 مقاعد ؟؟ رغم أنه فاز كما لاحظنا بالمرتبة الأولى في الانتخابات الجماعية، وحصلت أحزاب الوفاق على 50 مقعدا أي 72.42٪ من المقاعد في حين أنها لا تتوفر إلا على 43٪ من مجموع المقاعد الجماعية ؟؟.
لقد أدت هذه النتائج إلى انتشار جو عدم الثقة وإلى التساؤل من جديد حول مستقبل التجربة.
إن النتائج النهائية لم تسمح لأي فريق بالحصول على أغلبية مطلقة:
الوفاق: 154 مقعدا
الكتلة: 115 مقعدا
إضافة إلى 41 مقعدا للأحرار، ومقاعد موزعة على الأحزاب الأخرى، إضافة إلى تمثيلية المنظمات النقابية.
لقد فوت المغرب على نفسه فرصة تاريخية، فالانتخابات الغير المباشرة أدت إلى رد فعل عنيف من طرف المعارضة التي طالبت بإلغائها. وهكذا تم تأجيل فكرة التناوب إلى بعد دستور 1996 وانتخابات 1997
 *               انتخابات 1997 والتجربة البرلمانية السادسة
طبقا لدستور 1996، أصبح البرلمان المغربي يتكون من مجلسين: مجلس النواب ومجلس المستشارين.
فأعضاء مجلس النواب يتم انتخابهم بالاقتراع العام لمدة 5 سنوات. وقد صدر القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب تحت رقم 31.97 (ظهير شريف رقم 1.97.185 في 14 سبتمبر 1997) الذي حدد عدد الأعضاء في 325 عضوا.
أما بالنسبة لمجلس المستشارين، فيتكون ثلاثة أخماسه من أعضاء تنتخبهم في كل جهة من جهات المملكة هيئة ناخبة تتألف من ممثلي الجماعات المحلية، ويتكون خمساه الباقيان من أعضاء تنتخبهم أيضا في كل جهة هيئات ناخبة تتألف من المنتخبين في الغرف المهنية وأعضاء تنتخبهم على الصعيد الوطني هيئة ناخبة تتألف من ممثلي المأجورين. ويتم انتخاب أعضاء مجلس المستشارين لمدو 9 سنوات، ويتجدد ثلث المجلس كل ثلاث سنوات. وقد صدر القانون التنظيمي المتعلق بمجلس المستشارين تحت رقم 32.97 (ظهير شريف رقم 1.97.186 الصادر في 4 سبتمبر 1997) الذي حدد عدد الأعضاء في 270 عضوا.
¬          انتخاب أعضاء مجلس النواب
¬          تمت هذه الانتخابات بتاريخ 14 نوفمبر 1997، وأسفرت عن النتائج التالية:
منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة نصوص ووثائق، العدد 18، 1998.

الترتيب الهيأة السياسية عدد طلبات الترشيح عدد المرشحين ٪ من مجموع المرشحين نسبة التغطية عدد النواب نسبتهم من المجموع نسبتهم من عدد المرشحين عدد الأصوات العامة النسبة من المجموع عدد الأصوات في الانتخابات الجماعية الفارق عدد أصوات الفائزين النسبة من المجموع
1 ا.ش.ق.ش. 315 315 9.58 9.69 57 17.53 18.1 884061 13.87 1005529 12.1- 401546 6.30
2 الاتحاد الدستوري 206 206 6.26 6.43 50 15.38 24.3 647746 10.16 931160 30.4- 393426 6.17
3 ت.و. للأحرار 263 261 7.93 8.03 46 14.15 17.6 705397 11.07 1060578 33.5- 366450 5.43
4 الحركة الشعبية 221 218 6.63 6071 40 12.30 18.3 559331 10.34 930695 29.2- 319076 5.01
5 حزب الاستقلال 322 321 9.76 9.88 32 9.84 10.0 840315 13.18 1376579 39.0- 258067 4.05
6 الحركة د.ج. 250 245 7.45 7.54 32 9.84 13.1 603156 9.46 620480 2.8- 284017 4.45
7 الحركة و.ش. 221 22 6.96 6.77 19 5.84 8.6 341651 6.77 433660 0.5- 121208 1.90
8 الحزب و.د. 183 180 5.47 5.54 10 3.08 506 270425 4.24 373592 27.6- 78122 1.22
9 حزب التقدم وش. 293 289 8.78 8.89 09 2.76 301 274862 4.31 340134 19.2- 65593 1.02
10 الحركة ش. د.د. 142 140 4.25 4.31 09 2.76 6.4 264324 4.14 70292 1.10
11 جبهة القوى د. 220 217 6.59 6.68 09 2.76 4.1 243275 3.81 55953 0.87
12 الحزب ش.د. 233 231 7.02 7.11 05 1.54 2.2 188520 2.95 143507 31.4+ 31674 0.49
13 منظمة ع.د.ش. 261 261 7.93 8.03 04 1.23 1.5 184009 2.88 172953 6.4+ 27720 0.43
14 حزب العمل 93 92 2.79 2.83 02 0.62 2.2 89612 1.40 100880 11.2- 15946 0.25
15 حزب ش.و س. 82 78 2.37 2.40 01 0.31 1.3 76176 1.19 68220 11.7+ 8703 0.13
16 الحركة من أجل د. 14 14 0.42 0.43 00 00 00 8768 0.13 00 00
المجموع: 16 حزبا 3319 3288 100.0 325 100.0 6371630 100.0 8587900 25.8- 2477793 38.90
الكتلة 1191 1186 36.07 102 31.38 806 2183247 34.27 2895195 24.6- 572926 11.78
الوفاق 610 604 18.37 100 30.77 16.6 1577502 24.76 2235447 29.4- 790624 12.40
الوسط 734 726 22.08 97 29.85 13.4 1740204 27.31 2114718 17.5- 751675 11.78
آخرون 784 772 23.48 26 8.00 3.4 870677 13.66 1342540 35.1- 182568 2.94

 نتائج اقتراع 14 نوفمبر 1997 لانتخاب أعضاء مجلس النواب
ملاحظة: لأول مرة في الانتخابات المغربية تم تحديد رموز للهيئات السياسية (لكن دون التخلي عن نظام الألوان)، وفي أول سابقة من نوعها انسحب نائبان تم الإعلان رسميا عن فوزهما، ويتعلق الأمر بمرشحين من الاتحاد الاشتراكي.
¬          انتخاب أعضاء مجلس المستشارين
تمت هذه الانتخابات بتاريخ 05 ديسمبر 1997، وأسفرت عن النتائج التالية:
Ø            فيما يخص هيئة المجالس الجماعية والغرف المهنية (243 مستشارا):
مجموعة الوسط: 90 منتخبا موزعين كما يلي:
التجمع الوطني للأحرار: 42
الحركة الديمقراطية الاجتماعية: 33 من بينهم امرأة واحدة
الحركة الوطنية الشعبية: 15
مجموعة الوفاق: 76 منتخبا موزعين كما يلي:
الاتحاد الدستوري: 28
الحركة الشعبية: 27
الحزب الوطني الديمقراطي: 21
أحزاب الكتلة: 44 منتخبا موزعين كما يلي:
حزب الاستقلال: 21
الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية: 16 من بينهم امرأة واحدة
حزب التقدم والاشتراكية: 07
في حين حصلت باقي أحزاب اليسار الأخرى على 16 مقعدا منها:
جبهة القوى الديمقراطية: 12
الحزب الاشتراكي الديمقراطي: 04
أما لمقاعد المتبقية وعددها 17 فتتوزع كما يلي:
حزب العمل: 13
حزب الشورى والاستقلال: 04
Ø            وبالنسبة لهيئة ممثلي المأجورين (27 مستشارا) فموزعون حسب المنظمات النقابية كما يلي:
الكونفدرالية الديمقراطية للشغل: 11
الاتحاد المغربي للشغل: 08
الاتحاد العام للشغالين بالمغرب: 03
الاتحاد الديمقراطي للشغالين: 01
اللجان العمالية المغربية: 01
اتحاد النقابات الشعبية: 01
النقابة الوطنية الديمقراطية: 01
الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب: 01
 وعلى إثر هذه النتائج، ورغم المواقف المتباينة أحيانا بشأنها (مثلا موقف حزب الاستقلال)، وعملا بالمادة 24 من الدستور استقبل جلالة الملك يوم 04 فبراير 1998 الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، وكلفه بتشكيل الحكومة الجديدة: حكومة التناوب.
 المبحث الثاني: التجربة الجزائرية
 لقد خضعت الجزائر إلى الاحتلال العثماني الذي ترسخت معالمه في هذا البلد، ثم خضع مرة ثانية إلى الاستعمار الفرنسي الذي كان يختلف في الجزائر عنه في الدول الأخرى.
وفي سنة 1962 حصلت الجزائر على استقلالها بقيادة جبهة التحرير الوطنية وذلك بعد ثورة شهيرة أدت إلى مليون ونصف المليون شهيد.
وقد مرت منذ تلك الفترة إلى الآن بمرحلتين أساسيتين تعتبر أحداث أكتوبر 1988 حدا فاصلا بينهما.
المطلب الأول: مرحلة ما قبل أحداث أكتوبر 1988
لقد تميزت هذه المرحلة بتعاقب ثلاثة رؤساء لم يحاول أي منهم أن يدخل تعديلات جوهرية على النظام. وكان يجب انتظار أكتوبر 1988 والأحداث التي ميزته حتى تدخل الجزائر سلسلة من الإصلاحات سرعان ما تحولت إلى أحداث لا تزال الجزائر تعيش على إيقاعها.
الفرع الأول: المميزات العامة لهذه المرحلة
بعد الحصول على الاستقلال، عرفت الجزائر أزمة شديدة (تعرف باسم أزمة صيف 1962)، والتي تمثلت في الصراع بين القيادة العامة العسكرية والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، الذي تبعه تفكك الجزائر إلى عدة مراكز للحكم (الولايات، المناطق العسكرية الحربية، جيش التحرير الوطني وقيادته العامة، الحكومة المؤقتة، إضافة إلى المجموعات التي تشكلت حول أهم الزعماء التاريخيين ورجال السياسة كمجموعة تلمسان ومجموعة تيزي وزو).
وقد انتهت هذه الأزمة بالفشل السياسي للحكومة المؤقتة، والعسكري لولاية الجزائر العاصمة، وذلك بالتوافق التاريخي الذي تحقق حول المكتب السياسي بزعامة محمد خيضر وحول جمعية تأسيسية منتخبة تحت رئاسة فرحات عباس. إن هذا التوافق لم يكن في صالح الزعماء الأوائل لثورة فاتح نوفمبر 1954 (رابح بيطاط، محمد بوضياف، آيت أحمد، كريم بلقاسم)، ولا في صالح الرؤساء السابقين للحكومة المؤقتة (فرحات عباس، بنخدة)، وإنما لصالح رئيس القيادة العامة الكولونيل الهواري بومدين وأحمد بن بلة رئيس الحكومة.
ومهما كانت الاختلافات بين الطبقة السياسية، فإن طبيعة النظام السياسي لم تتغير إذ ظلت تدور حول خمسة محاور:

  1. نظام الحزب الواحد، المعبر عنه خلال مؤتمر الصومال سنة 1956، و مؤتمر طرابلس في يونيو 1962، والذي تشبثت به جبهة التحرير الوطنية من خلال معارضتها لمشاركة أي مجموعات أخرى خلال الحملة الاستفتائية حول تقرير المصير بعد اتفاقيات إيفيان (EVIAN)، ومعارضتها بعد إعلان الاستقلال في يوليوز 1962 للاعتراف بالحزب الشيوعي الجزائري ثم في حله بتاريخ 29 نوفمبر 1962، والمعبر عنه أخيرا في دستور 10سبتمبر 1960.
  2. وحدة سلطة الدولة من حيث أن الأجهزة المؤسسة (البرلمان، الحكومة، الرئيس، القضاة) لا تتمتع بأية إرادة سياسية خاصة. فخلال المناقشات الدستورية في أبريل 1963 مثلا أحيطت الحكومة علما بأن اقتراح مشروع الدستور المقدم إلى البرلمان من طرف خمسة نواب يعتبر “المشروع الرسمي لجبهة التحرير” وأنه ليس من حق النواب إدخال تعديلات جوهرية عليه وإلا وجدوا أنفسهم خارج الحزب.
  3. جمع رئاسة الدولة ورئاسة الحزب. فمنذ أبريل 1963 حل أحمد بن بلة رئيس الحكومة محل محمد خيضر الأمين العام للمكتب السياسي. ثم ترسخ هذا المبدأ خلال مؤتمر الحزب سنة 1964. ومنذ ذلك الحين فإن مختلف مسؤولي الحزب لا يمارسون إلا وظائف تقنية أو تنظيمية تحت رئاسة الأمين العام (إلى غاية 1965)، أو مجلس الثورة ورئيسه (إلى غاية 1976)، أو مرة أخرى الرئيس الأمين العام (ابتداء من 1976).
  4. جمع الرئاسة العليا المدنية والعسكرية… وهذا المبدأ فرضه الواقع بعد استيلاء الهواري بومدين على الحكم بتاريخ 19 يونيو 1965. فإلى غاية ذلك التاريخ كان هذا الأخير وزيرا للدفاع الوطني للرئيس أحمد بن بلة، ثم أصبح رئيس مجلس الثورة ورئيس مجلس الوزراء مع الاحتفاظ بإدارة الدفاع حتى مع انتخابه سنة 1976 رئيسا للجمهورية. كما حافظ خلفه الشاذلي بن جديد على نفس الوضعية.
  5. عدم استقلالية التنظيمات الجماهيرية بالنسبة للحزب. وهكذا فإن تنظيمات العمال، النساء، الشباب، الفلاحين… مرتبطة بجبهة التحرير. ورغم حق هذه التنظيمات في تنظيم نفسها على المستوى الداخلي من خلال قوانينها الداخلية، فإن هذه القوانين ينبغي أن تكون مطابقة لإيديولوجية وتوجهات الحزب، وأن تجعل المسؤوليات داخلها من حق مناضلي الحزب فقط.

الفقرة الأولى: مرحلة الرئيس أحمد بن بلة
يمكن دراسة حكم الرئيس أحمد بن بلة استنادا إلى دستور1963 والميثاق الوطني لسنة 1964.

أولا: دستور 1963

لقد لعبت جبهة التحرير دورا أساسيا في إعداد ووضع الدستور المصادق عليه خلال استفتاء 6 سبتمبر 1963. وقد كانت هذه الطريقة موضع نقاش ونزاع نظرا للدور البارز الذي لعبه رئيس الدولة في هذا الصدد، رغم أن الدستور قد قبل من طرف الجمعية الوطنية وأن الشعب الجزائري قد صادق عليه.
إن دستور 1963 قد حدد في ديباجته الفلسفة العامة التي يقوم عليها النظام. فبعد تمجيد ثورة فاتح نوفمبر 1954، عدد أهداف الثورة في الإصلاح الزراعي والاقتصاد الوطني، والمجال الاجتماعي، والمجال الدولي.
وبعد التأكيد على أهمية الإسلام واللغة العربية، أشادت الديباجة بالجيش الوطني الشعبي (جيش التحرير الوطني سابقا) الذي “يساهم في إطار الحزب في الأنشطة السياسية وفي تشييد بنيات اقتصادية واجتماعية جديدة”، وكرست دور جبهة التحرير الوطني كحزب وحيد يوجه عمل كل مؤسسات الدولة.
وقد تم التأكيد على هذه الأهداف والمبادئ وغيرها في صلب الدستور (من المـادة الأولى إلى المادة11)، وتحديد حقوق وحريات المواطنين مثل المساواة، وحق التصويت في 19 سنة، وحرمة المسكن وسرية المراسلات، وإجبارية التعليم، وحرية الصحافة والتعبير والتجمع، والحق النقابي، وحق الإضراب،…
إلا أن المادة 22 تشير إلى أ ن لا أحد يستعمل القوانين والحريات المنصوص عليها في الدستور وذلك للإضرار باستقلال الأمة أو وحدتها الوطنية أو مؤسسات الجمهورية أو التطلعات الاشتراكية للشعب أو مبدأ وحدة جبهة التحرير الوطني.
وتعتبر جبهة التحرير الحزب الوحيد بالبلاد (المادة 23)، الذي يحدد سياسة الأمة ويراقب عمل الجمعية الوطنية والحكومة (المادة 24)،…
أما من حيث السلطات العامة فإن الجمعية الوطنية تنتخب لمدة خمس سنوات عن طريق الاقتراع العام والمباشر والسري ( ويتم اقتراح المرشحين من طرف جبهة التحرير)، وهي التي تعبر عن إرادة الشعب وتصوت على القوانين وتراقب عمل الحكومة (يلاحظ أن الدستور لم يحدد مجال القانون). وينتخب رئيس الدولة لنفس المدة، وبنفس الطريقة. وهو الذي يعين الوزراء ويختار الثلثين على الأقل من بين النواب، وينظم القوات العسكرية والإدارية، ويصادق على المعاهدات، ويعلن الحرب، ويضمن السلم، وذلك بموافقة الجمعية الوطنية. كما أنه يحدد سياسة الحكومة ويمارس السلطة التنظيمية التنفيذية…
ويعتبر الرئيس مسؤولا أمام الجمعية الوطنية التي يمكنها إيداع ملتمس رقابة ضده. إلا أن التصويت على هذا الملتمس يؤدي إلى استقالة الرئيس وحل الجمعية الوطنية (المادة 56).
واستنادا إلى الفصل 58 من الدستور يمكن توسيع صلاحيات الرئيس عن طريق اتخاذه بعض الإجراءات التشريعية التي تصادق عليها الجمعية الوطنية بعد ذلك، وفي حالة الاستثناء حيث ترجع له السلطة التقديرية في إصدار القوانين وكل الإجراءات الاستثنائية وذلك لحماية الاستقلال الوطني ومؤسسات الجمهورية.
إضافة إلى هذا أحدث الدستور المجلس الدستوري، والمجلس الأعلى للقضاء، والمجلس الأعلى للدفاع، والمجلس الأعلى الاقتصادي والاجتماعي.
إن أن عمل جميع هذه المؤسسات يتم تحت إشراف ومراقبة جبهة التحرير التي كان نشاطها يشمل مجالا سياسيا واسعا مادامت هي التي تعمل على تشييد الثورة الاشتراكية بالجزائر.
ولذلك يمكن القول بأن الأمر يتعلق بنظام دستوري مغلق: رئيس دولة مسؤول أمام برلمان كل أعضائه من اقتراح الحزب الذي يرأسه رئيس الدولة.
أما في المجال الاقتصادي فقد حاول الدستور وضع عدة مبادئ ثورية تحاول أن تغير البنية الاقتصادية الماضية وتعويضها بديمقراطية اشتراكية قائمة على مساهمة العمال والفلاحين والجماعات النشيطة بالبلاد.

ثانيا: الصراع حول السلطة

لقد عين الرئيس أحمد بن بلة العقيد الهواري بومدين على رأس القيادة العسكرية الجزائرية، لكن سرعان ما ظهرت الخلافات بين الشخصيتين حول الأمور المتعلقة بالنظام السياسي مما أدى إلى قيام هذا الأخير بانقلاب عسكري بتاريخ 19 يونيو 1965 حيث تم تأسيس مجلس الثورة (برئاسة الهواري بومدين) الذي أرسى قواعد النظام الجديد من خلال حكم عسكري تحت غطاء نظام اشتراكي. وقد تم وضع الرئيس السابق تحت الإقامة الإجبارية.
الفقرة الثانية: مرحلة الرئيس الهواري بومدين
بعد وصول الهواري بومدين إلى السلطة، تمت تهدئة الأوضاع داخل الدولة والقضاء على كل المعارضين على الحكم الجديد.
وقد عمل النظام الجديد على الصعيد السياسي والاقتصادي بما جاء به دستور 1963 محافظا على النهج الاشتراكي والحزب الواحد. واستمر الوضع على هذا المنوال إلى غاية 1976 حيث صدر دستور 22 نوفمبر 1976 (استفتاء 19 نوفمبر 1976) الذي سبقه وضع ميثاق وطني تمت المصادقة عليه باستفتاء شعبي بتاريخ27 يونيو 1976 اللذان يعكسان بوضوح سياسة الرئيس.
إن الدستور لم يكن إلا نصا تطبيقيا للميثاق الوطني الذي وضع فلسفة ومبادئ الثورة الجزائرية. فالمادة 6 من الدستور تشير إلى أن الميثاق الوطني هو المصدر الأساسي لسياسة الأمة وقوانين الدولة، والمرجع الإيديولوجي والسياسي لمؤسسات الحزب والدولة على جميع المستويات.

أولا: التوجه السياسي

يتضمن دستور 1976 العناوين التالية:

  • الديباجة.
  • المبادئ الأساسية المنظمة للمجتمع الجزائري،وتشمل:

الجمهورية، الاشتراكية، الدولة، الحريات الأساسية وحقوق الإنسان والمواطن، واجبات المواطن، الجيش الوطني الشعبي، مبتدئ السياسة الخارجية.

  • تنظيم السلطات:

الوظيفة السياسية (حزب جبهة التحرير)، السلطة التنفيذية، السلطة التشريعية، السلطة القضائية، الرقابة، السلطة التأسيسية.
ويلاحظ من خلال الدستور والميثاق أنه تم الاعتماد على المبادئ التالية:
–              دعم الاستقلال السياسي الوطني.
–              إقامة مجتمع متحرر من استغلال الإنسان للإنسان.
–              ترقية الإنسان وتوفير أسباب فتح شخصيته وازدهارها.

  1. الحزب والدولة

يقوم النظام الجزائري على نظام الحزب الواحد الذي يعتبر القوة الطلائعية لقيادة الشعب وتنظيمه من أجل تجسيم أهداف الثورة.
إن الحزب هو الذي يرسم خطوط عمل الثورة الاشتراكية، ويحدد آفاقها، ويضبط الوسائل التي يجب توفيرها لدعم مواقعها.
إن هذا النظام قد أدى إلى وحدة القيادة السياسية للحزب والدولة على أساس مبدأ الجماعية في المداولة والأغلبية في القرار والوحدة في التنفيذ.

  1. السلطات العامة

أ‌.        السلطة التنفيذية
تتمثل السلطة التنفيذية في رئيس الدولة الذي يتمتع بمجموعة واسعة من الصلاحيات باعتبار أنه هو الذي يمثل الدولة داخل البلاد وخارجها، والذي يجسد وحدة القيادة السياسية للحزب والدولة، والذي يرسم السياسة العامة للأمة ويقوم بقيادتها وتنفيذها إضافة إلى مسؤولياته العسكرية، وممارسة السلطة التنظيمية وتنفيذ القوانين.   
ب‌.    السلطة التشريعية
يمارسها المجلس الوطني الشعبي المختص بإصدار القوانين مستلهما من مبادئ الميثاق الوطني. وينتخب أعضاؤه عن طريق الاقتراع العام السري بناء على ترشيح من قيادة الحزب.
ج. السلطة القضائية
لقد كان للقضاء صبغة خاصة من حيث كونه يخدم الثورة الاشتراكية ويحقق أهدافها.
فالمادة 166 تنص على ما يلي: “يساهم القضاء في الدفاع عن مكتسبات الثورة الاشتراكية وحماية مصالحها”، أما المادة 174 فتنص على أن “القاضي مسؤول أمام المجلس الأعلى للقضاء عن كيفية قيامه بمهمته…” وهي المهمة المسندة إليه بمقتضى المادة 173: “يساهم القاضي في الدفاع عن الثورة الاشتراكية وحمايتها”.
لذلك يمكن القول بأن القضاء بدوره مرتبط بالحزب وبنهجه الإيديولوجي رغم نص الدستور على أن السلطة القضائية مستقلة وبعيدة عن تأثير السلطات الأخرى.

  1. الحقوق والحريات

يتضمن الدستور مجموعة من الحقوق والحريات العامة كحرية الاعتقاد والرأي والتجمع والتعبير، ومبدأ المساواة…، دون أية إشارة إلى حق الإضراب وحق الرأي السياسي والتعبير عنه وحرية تكوين الأحزاب.
ويلاحظ هنا أيضا أن كل الحقوق والحيات تخدم أهداف الحزب الواحد الذي يؤطر المواطنين. (فحق الانتخاب مثلا لا يكون إلا على مرشحين تقدمهم جبهة التحرير).

ثانيا: التوجه الاقتصادي

يمكن تلخيص التوجه الاقتصادي للجزائر خلال هذه الفترة في العمل على تحقيق الاشتراكية القائمة على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج.
ونكتفي بالإشارة هنا إلى:
–               السياسة الزراعية من خلال الثورة الزراعية التي حاولت تغيير العالم القروي وتحريره وإدماجه في الثورة والاقتصاد الوطني الحديث عن طريق التسيير الذاتي للقطاع الفلاحي من طرف الفلاحين الصغار. وهكذا تم منحهم الأرض اللازمة ووسائل الإنتاج التي هم في حاجة إليها مع الحد من الممتلكات الكبرى…
إلا أن هذه الثورة الزراعية رغم ما حققته من مكاسب للفلاح لم تؤد إلى النتائج المرجوة منها ويتمثل ذلك خاصة في الإهمال وانعدام المردودية وأزمة المواد الغذائية…
–               الصناعة التصنيعية قصد ضمان استقلال صناعي، وذلك بواسطة الصناعة الثقيلة. فالجزائر تتوفر على ثروات بترولية وغازية تضمن لها مداخيل هامة لذلك حاولت الخروج من الاقتصاد التقليدي إلى الاقتصاد العصري. وقد أدى هذا في البداية إلى تحقيق مجموعة من المشاريع الهامة، ثم أصبحت أهمية الصناعة تتناقص نظرا للتكاليف التي أصبحت تتطلبها.
 الفقرة الثالثة: مرحلة الرئيس الشاذلي بن جديد إلى غاية أكتوبر 1988
بعد وفاة الرئيس الهواري بومدين سنة 1978، عملت الطبقة السياسية السائدة على ضمان انتقال النظام وحل مشكل الخلافة. وهكذا مارس رئيس المجلس الوطني الشعبي مهمة الرئاسة المؤقتة طبقا للدستور، وعين مجلس الثورة لجنة تحضيرية للإعداد لمؤتمر الحزب قصد تعيين مرشح للرئاسة.
وقد انعقد المؤتمر خلال يناير 1979 بحضور 3290 مؤتمرا، حيث تم اختيار الشاذلي بن جديد. وقد كان هذا الأخير عضوا في مجلس قيادة الثورة ورئيسا للمنطقة العسكرية لوهران، كما كان يعتبر من المناضلين الوطنيين البعيدين عن الشؤون السياسية المباشرة، ومن أنصار تحديث الجيش.
لقد تمكن الجيش الذي كان يكون ربع المؤتمرين من فرض الشاذلي بن جديد على أنصار عبد العزيز بوتفليقة وزير الشؤون الخارجية وأحد المقربين من الرئيس الراحل، وأنصار صالح يحياوي المسؤول التنفيذي للجهاز الحزبي.
وبعد تعيين الشاذلي بن جديد كمرشح، تم انتخابه كرئيس للجمهورية خلال استفتاء 7 فبراير 1979. وقد تميزت فترته في بدايتها باستمرارية النظام وفق الخطوط العامة الموضوعة سابقا مع بعض التعديلات الطفيفة. إلا أن الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للجزائر والتحولات الدولية ساهمت في اندلاع حوادث أكتوبر 1988 التي ستُدخل الجزائر مرحلة جديدة.

أولا: الأزمة السياسية

إن خضوع الجزائر لحكم نظام الحزب الواحد المسيطر على الدولة قد وصل تدريجيا إلى آفاق مسدودة. فانعدام التعددية الحزبية وحرية التعبير، والواقع الإعلامي المتدهور، جعل السلطة تقوم فقط على مثلث الجيش ـ الدولة ـ الحزب دون إشراك حقيقي للمجتمع.فالسلم الاجتماعي الطويل الذي عرفته البلاد والناتج عن تحولات اجتماعية إيجابية (تعميم المدارس، الاتساع الحضري السريع، ارتفاع مستويات المعيشة،…) سرعان ما بدأ يتدهور ليتجسد في شكل أحداث عنف خلال أكتوبر 1988.
وينبغي الإشارة في هذا الصدد إلى أزمة جبهة التحرير الوطنية نفسها، ذلك أنها بدأت تعرف انقسامات داخلية ناتجة عن رغبة الرئيس الشاذلي في تبني إصلاحات تفصل الحزب عن الدولة مع إبعاد العسكريين عن الحزب، وتمسك المحافظين بالموقف التقليدي الذي يضع جميع القوى تحت سيطرة الحزب الواحد.
وخلال المؤتمر السادس لجبهة التحرير استطاع الشاذلي بن جديد أن يفرض نفسه. فقدم توضيحات واسعة بشأن الوضعية الاقتصادية (إفلاس مؤسسات الدولة والقطاع الزراعي من خلال عجز وصل إلى 125 مليون دينار ما بين 1984 و1987 أي 18.5 مليار دولار، مع وجود 270 مؤسسة لا تملك ميزانية متوازية تفرض على الحكومة صرف 7.5 مليار دولار لامتصاص هذا العجز، مع 19 مليار دولار كدين خارجي).
كما تمكن تدريجيا من إبعاد رموز النظام السابق من اللجنة المركزية للجبهة (وعلى رأسهم شريف امساعدية، عبد العزيز بوتفليقة…)، وإبعاد عدد من العسكريين.

ثانيا: أحداث أكتوبر 1988

اندلعت أحداث العنف بالجزائر يوم 5 أكتوبر 1988 ثم سرعان ما توسعت لتشمل مدنا أخرى. وقد كانت هذه الأحداث عنيفة أدت إلى مئات القتلى والجرحى بالإضافة إلى خسائر مادية فادحة.
ويمكن القول أن هذه الأحداث لم تندلع فجأة بل كانت نتيجة تراكمات عديدة ناتجة عن السخط الاجتماعي الشديد وبعض المؤشرات السابقة. وهكذا يمكن الإشارة إلى الطلاب الذين نظموا أنفسهم في شكل مستقل عن الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية خلال الإضراب الكبير لسنة 1987، كما أن الصحفيين شكلوا نقابة مستقلة مع بداية 1988، وبدورها توسعت الحركة البربرية الثقافية التي استطاعت تنظيم أنشطة غير رسمية ابتداء من سنة 1988. ويمكن الإشارة إلى موقف حزب الطليعة الاشتراكية الذي تحول من موقف التأييد الانتقادي إلى موقف المعارضة، وتصاعد التيار الإسلامي بشكل واسع.
وقد تطورت الأحداث بعد ذلك من خلال سقوط الإصلاحات السياسية والاقتصادية وتعديل الدستور والإعلان عن التعددية الحزبية التي وعد بها الرئيس الشاذلي بن جديد.

ثالثا: الإصلاحات السياسية

بدأت الإصلاحات السياسية من خلال استفتاء 3 نوفمبر 1988 من أجل تعديل الدستور الذي سيصدر في 23 فبراير 1989 والذي سنتعرض لخطوطه العريضة.

  1. فصل الحزب عن الدولة و إقرار التعددية الحزبية

بعد أن ظل حزب جبهة التحرير الوطني يحتكر السلطة لمدة طويلة، أقر الدستور الجديد الحق في تأسيس الجمعيات. وهكذا سيلاحظ تأسيس عدد واسع من الأحزاب السياسية يفوق الخمسين حزبا في الوقت الراهن.
ففي المرحلة الأولى من هذه الإصلاحات بقيت العديد من الأوضاع مستمرة في الواقع العملي نظرا لإعادة انتخاب الرئيس الشاذلي بن جديد بصفته أمينا عاما لحزب جبهة التحرير، وكذلك تعيين حكومة برئاسة مولود حمروش الذي يعتبر كذلك من أبرز القادة داخل الجبهة، كما أن أغلب أعضاء الحكومة وأعضاء المجلس الوطني الشعبي ينتمون إلى هذا الحزب أو يدينون له بالولاء…
وقد صدر قانون الانتخابات والتجمعات السياسية في 5 يوليوز 1988 ليفتح المجال لحرية تأسيس الأحزاب السياسية التي يمكن تصنيفها إلى:
–               أحزاب ظهرت خلال احتكار جبهة التحرير، ويتعلق الأمر بأحزاب خرجت من السرية إلى العلنية كجبهة القوى الاشتراكية (آيت امحمد)،وحزب الطليعة الاشتراكي (صادق هجرس)، والحركة من أجل الديمقراطية (الرئيس السابق أحمد بن بلة)، الحزب الاشتراكي للعمال (صالحي الشاوي).
–               أحزاب تم تأسيسها بعد السماح بالتعددية، وأهماه التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (سعيد سعدي)، الجبهة الإسلامية للإنقاذ (عباسي مدني)، الحزب الديمقراطي الاشتراكي (عبد الرحمن عجزي)،…
–               أحزاب صغرى تشكل الأغلبية المطلقة من الأحزاب الجديدة.
–               حزب جبهة التحرير الوطنية الذي حافظ على استمراريته.

وقد صادق المجلس الشعبي الوطني بأغلبية 232 صوتا ومعارضة 9 أصوات وامتناع 24 عن التصويت على القانون الانتخابي الجديد الذي ستجرى على أساسه الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها حسب نظام الاقتراع الأحادي الاسمي بالأغلبية في دورتين.

وقد كانت آخر انتخابات قد جرت على صعيد البلديات في يونيو 1990حسب الاقتراع اللائحي الأغلبي ذي الدورة الواحدة واستفادت منها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بشكل واسع.
وحسب هذا القانون الجديد فإن المرشح يفوز في الدور الأول إذا حصل على الأغلبية المطلقة من الأصوات وإلا تجرى دورة ثانية بعد ثلاثة أسابيع بين المرشحين الثلاثة الأوائل. كما أن هذا القانون يمنع استعمال أماكن العبادة لأغراض الدعاية الانتخابية، كما ينص على أن الاقتراع شخصي وفردي ويحصر عدد التوكيلات في حدود توكيل واحد، غير أنه بإمكان الناخب أن يصوت باسم الزوج أو الزوجة بعد تقديم دفتر الحالة المدنية.
كما أن البرلمان صادق على مشروع قانون التقسيم الانتخابي وذلك بأغلبية 196 صوتا مقابل 21 صوتا وامتناع 33، على أن يكون البرلمان القادم مشكلا من 541 مقعدا.
وعلى هامش هذه الإصلاحات جرت مناقشات واسعة بصدد المواضيع التالية:
–        مدى دستورية تعديل الدستور بطريقة تختلف عما هو منصوص عليه في الدستور القائم أي دستور 1976 الذي يجعل مشروع التعديل الدستوري الذي يقترحه رئيس الجمهورية خاضعا لموافقة المجلس الوطني الشعبي بموافقة ثلثي أعضائه، كما يجعل تعديل أحكام الدستور خاضعا لموافقة ثلاثة أرباع المجلس الوطني الشعبي، وفي الوقت الذي عرضت فيه التعديلات الدستورية الجديدة مباشرة على الاستفتاء الشعبي.
–        المناقشات الواسعة التي عرفها القانون الانتخابي، وخاصة مسألة التصويت باسم الزوجة الذي عارضته الجمعيات النسائية حيث رأت فيه تناقضا مع الطابع “الفردي والشخصي” للاقتراع.
–        المناقشة حول مشروع التقسيم الانتخابي حيث أن المشروع الحكومي كان ينص على 505 مقعدا لتمثيل حوالي 25 مليون نسمة، مع اختلاف في التمثيلية بين المناطق القروية والمناطق الحضرية.
وقد أعلن الرئيس الشاذلي بن جديد عن موعد إجراء هذه الانتخابات التشريعية في 29 يونيو 1991، الشيء الذي أثار عدة ردود فعل مناقضة، كان موقف جبهة الإنقاذ الأكثر صرامة.

  1. دستور 23 فبراير 1989

أ‌.        الديباجة

تتضمن الديباجة الفلسفة العامة التي يرتكز عليها الدستور، والتي يمكن أن تستشف من مختلف فقراته:
“الشعب الجزائري حر ومصمم على البقاء حرا.
فتاريخه الطويل سلسلة متصلة لحلقات من الكفاح والجهاد جعلت الجزائر دائما منبت الحرية، وأرض العزة والكرامة.
لقد عرفت الجزائر في أعز اللحظات الحاسمة التي عاشها البحر الأبيض المتوسط، كيف تجد في أبنائها منذ العهد النوميدي، والفتح الإسلامي، حتى الحروب التحريرية من الاستعمار، روادا للحرية، والوحدة والرقي وبناة دول ديمقراطية، طوال فترات المجد والسلام.
وكان أول نوفمبر 1954 نقطة تحول فاصلة في تقرير مصيرها، وتتويجا عظيما لمقاومة ضروس، واجهت بها مختلف الاعتداءات على ثقافة شعبها، وقيمه، ومقومات شخصيته. وتمتد جذور نضالها اليوم في شتى الميادين في ماضي أمتها المجيد.
لقد تجمع الشعب في ظل الحركة الوطنية، ثم انضوى تحت لواء جبهة التحرير الوطني، وقدم تضحيات جساما من أجل أن يتكفل بمصيره الجماعي في كنف الحرية والهوية الثقافية الوطنية المستعادتين. ويشيد مؤسساته الدستورية الشعبية الأصلية.
وقد توجت جبهة التحرير الوطني ما بذله خيرة أبناء الجزائر من تضحيات في الحرب التحريرية الشعبية، بالاستقلال، وشيدت دولة عصرية كاملة السيادة.
إن إيمان الشعب بالاختيارات الجماعية مكنته من تحقيق انتصارات كبرى طبعتها استعادة الثروات الوطنية بطابعها، وجعلتها دولة في خدمة الشعب وحده تمارس سلطاتها بكل استقلالية بعيدة عن أي ضغط خارجي.
إن الشعب الجزائري ناضل ويناضل دوما في سبيل الحرية والديمقراطية، ويعتزم أن يبني بهذا الدستور مؤسسات دستورية أساسها مشاركة كل جزائري وجزائرية في تسيير الشؤون العمومية، والقدرة على تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة وضمان الحرية لكل فرد.
فالدستور يجسم عبقرية الشعب الخاصة، ومرآته الصافية التي تعكس كل تطلعاته، وثمرة إصراره، ونتاج التحولات الاجتماعية العميقة التي أحدثها، وبموافقته عليه يؤكد بكل عزم وتقدير أكثر من أي وقت مضى سمو القانون.
إن الدستور فوق الجميع، وهو القانون الأساسي الذي يضمن الحقوق والحريات الفردية والجماعية، يحمي مبدأ حرية اختيار الشعب، ويضفي الشرعية على ممارسة السلطات، ويكفل الحماية القانونية، ورقابة عمل السلطات العمومية في مجتمع تسوده الشرعية، ويتحقق فيه تفتح الإنسان بكل أبعاده.
فالشعب المتحصن بقيمه الروحية الراسخة، والمحافظ على تقاليده في التضامن والعدل، لواثق في قدرته على المساهمة الفعالة في التقدم الثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي، في عالم اليوم والغد.
إن الجزائر، أرض الإسلام وجزء لا يتجزأ من المغرب العربي الكبير، أرض عربية وبلاد متوسطية وإفريقية تعتز بإشعاع ثورتها، ثورة أول نوفمبر، يشرفها الاحترام الذي أحرزته وعرفت كيف تحافظ عليه بالتزامها إزاء كل القضايا العادلة في العالم.
وفخر الشعب وتضحياته، وإحساسه بالمسؤوليات، وتمسكه العريق بالحرية، والعدالة الاجتماعية، تمثل كلها أحسن ضمان لاحترام مبادئ هذا الدستور الذي يصادق ليه ينقله إلى الأجيال القادمة، وريث رواد الحرية وبناة المجتمع الحر”.

ب‌.    الباب الأول: المبادئ العامة التي تحكم المجتمع الجزائري

لقد خصص الدستور الباب الأول من المبادئ العامة التي تحكم المجتمع الجزائري وذلك من خلال خمسة فصول:
–        الفصل الأول: الجزائر (5 مواد)
ويتضمن هذا الفصل مواد تعتبر الجزائر ديمقراطية شعبية، وحدة لا تتجزأ، الإسلام دين الدولة، اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية،…
–        الفصل الثاني: الشعب (5 مواد)
ويتضمن خمس مواد تحدد المبادئ العامة التي تحكم الشعب، وهي:
المادة 6: الشعب مصدر كل سلطة، والسيادة الوطنية لكل الشعب.
المادة 7: السلطة التأسيسية ملك للشعب، الشعب يمارس سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها، الشعب يمارس السيادة عن طريق الاستفتاء وبواسطة ممثليه المنتخبين، ولرئيس الجمهورية أن يلتجأ إلى رأي الشعب مباشرة.
المادة 8: يختار الشعب لنفسه مؤسسات غايتها ما يأتي : – المحافظة على الاستقلال الوطني ودعمه، – المحافظة على الهوية والوحدة الوطنية ودعمهما، – حماية الحريات للمواطن والازدهار الجماعي والثقافي للأمة، – القضاء على استغلال الإنسان للإنسان، – حماية الاقتصاد الوطني من كل أشكال التلاعب أو الاختلاس أو الاستحواذ أو المصادرة الغير المشروعة.
المادة 9: لا يجوز للمؤسسات أن تقوم بما يلي: – الممارسات الإقطاعية والجهوية والمحسوبية، – إقامة علاقات الاستغلال والتبعية، – السلوك المخالف للخلق الإسلامي وقيم ثورة نوفمبر.
المادة 10: الشعب حر في اختيار ممثليه ولا حدود لتمثيل الشعب إلا ما نص عليه الدستور وقانون الانتخابات.
–        الفصل الثالث: الدولة ( 17 مادة)
شعار الدولة “بالشعب وللشعب”، عدم جواز التنازل أو التخلي عن أي جزء من أجزاء التراب الوطني، التنظيم الديمقراطي والعدالة الاجتماعية، البلدية والولاية هي الجماعات الإقليمية للدولة، تحديد مفهوم الملكية العامة التي هي ملك للمجموعة الوطنية، اختصاص الدولة بتنظيم التجارة الخارجية، نزع الملكية في إطار القانون، عدم اعتبار الوظائف في مؤسسات الدولة مصدرا لثراء أو وسيلة لخدمة المصالح العامة، معاقبة القانون على التعسف في استعمال السلطة، مسؤولية الدولة عن أمن كل المواطنين وعن حمايتهم في الخارج، تحديد مهمة الجيش الوطني الشعبي في تنظيم الطاقة الدفاعية للأمة والمحافظة على الاستقلال الوطني والدفاع عن السيادة الوطنية ووحدة البلاد وسلامتها الترابية وحماية مجالها البري والجوي ومختلف مناطق أملاكها البحرية، الامتناع عن إلى اللجوء إلى الحرب من أجل المساس بالسيادة المشروعة للشعوب الأخرى وحرياتها، التضامن مع جميع الشعوب التي تكافح من أجل التحرر السياسي والاقتصادي وضد كل تمييز عنصري، دعم التعاون الدولي وتنمية العلاقات الودية بين أعضاء الدول…
–        الفصل الرابع: الحقوق والحريات (29 مادة)
لقد عدد الدستور مجموعة من الحقوق والحريات المعترف بها للمواطن والتي لا يمكن الحد منها إلا بالقانون.
ونذكر من بين هذه الحريات:
المادة 28: كل المواطنين سواسية أمام القانون، ولا يمكن أن يتذرع بأي تمييز يعود سببه إلى المولد، أو العرق، أو الجنس، أو الرأي، أو أي شرط أو ظرف آخر، شخصي أو اجتماعي.
وانطلاقا من هذه المادة عدد الدستور في المواد الموالية حقوقا وحريات عديدة مثل: حرية المعتقد، وحرمة حرية الرأي، حقوق المؤلف، حرمة حياة المواطن الخاصة وحمة شرفه، سرية المواصلات والاتصالات الخاصة، عدم انتهاك حرمة المسكن، حرية الإقامة والتنقل، مسؤولية الدولة عن الخطأ القضائي، حق الانتخاب والترشيح، حق تقلد المهام والوظائف، الملكية الخاصة، الحق في التعليم، حق الرعاية الصحية، الحق في العمل، الحق في الإضراب…
إلا أن المادة 40 تبقى أهم ما جاء به الدستور، إذ تنص على ما يلي: “حق إنشاء الجمعيات ذات الطابع السياسي معترف به. ولا يمكن التذرع بهذا الحق لضرب الحريات الأساسية، والوحدة الوطنية، والسلامة الترابية، واستقلال البلاد، وسيادة الشعب”.
–        الفصل الخامس: الواجبات (10 مواد)  
حدد الدستور بعض المسائل التي يعتبرها واجبات وذلك فيما يلي:
¬          لا يعذر بجهل القانون.
¬          ضرورة احترام الدستور وقوانين الجمهورية.
¬          حماية استقلال الوطن وسيادته وسلامة ترابه.
¬          المعاقبة الصارمة على الخيانة والتجسس والولاء للعدو،
¬          وكذلك على جميع الجرائم المرتكبة ضد أمن الدولة.
¬          الإخلاص في الواجبات والمشاركة في الدفاع عن الوطن.
¬          ضمان الدولة لاحترام رموز الثورة وأرواح الشهداء وكرامة ذويهم والمجاهدين.
¬          ممارسة الحريات في إطار احترام الحق في الشرف، وستر الحياة الخاصة، وحماية الأسرة والشبيبة والطفولة.
¬          المساواة في أداء الضريبة.
¬          مجازاة الآباء على القيام بواجب تربية أبنائهم ورعايتهم،
¬          وكذلك الأبناء على القيام بواجب الإحسان إلى آبائهم ومساعدتهم.
¬          حماية الملكية العمومية ومصالح المجموعة الوطنية، واحترام ملكية الغير.
¬          حماية الأجانب الموجودين فوق التراب العربي في شخصيتهم وأملاكهم.
¬          عدم جواز تسليم أي أحد خارج الوطن إلا بناء على قانون تسليم المجرمين وتطبيقا له.
¬          عدم إمكانية تسليم أو طرد لاجئ سياسي يتمتع قانونا بحق اللجوء.
ج. الباب الثاني: تنظيم السلطات
–        الفصل الأول: السلطة التنفيذية (25 مادة)
ينتخب رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع العام المباشر والسري بالأغلبية المطلقة من أصوات الناخبين المعبر عنها لمدة 5 سنوات قابلة للتجديد. ويعتبر رئيس الدولة الذي يجسدها داخل البلاد وخارجها كما يجسد وحدة الأمة وحامي الدستور.
وبناء على المادة 74 يعتبر رئيس الجمهورية:
¬          القائد الأعلى لجميع القوات المسلحة للجمهورية.
¬          يتولى مسؤولية الدفاع الوطني.
¬          يقرر السياسة الخارجية للأمة ويوجهها.
¬          يرأس مجلس الوزراء.
¬          يعين رئيس الحكومة وينهي مهامه.
¬          يوقع المراسيم الرئاسية.
¬          يعين في الوظائف المدنية والعسكرية للدولة.
¬          له حق إصدار العفو وحق تخفيض العقوبات أو استبدالها.
¬          يمكنه أن يستشير الشعب في كل قضية ذات أهمية وطنية عن طريق الاستفتاء.
¬          يعين سفراء الجمهورية والمبعوثين فوق العادة إلى الخارج وينهي مهامهم،
¬          ويتسلم أوراق اعتماد الممثلين الدبلوماسيين الأجانب، وأوراق إنهاء مهامهم.
¬          يبرم المعاهدات الدولية ويصادق عليها.
¬          يسلم أوسمة الدولة (Décorations) ونياشينها (Distinctions) وشهاداتها التشريفية.
وهذا إضافة إلى سلطات تخولها له أحكام أخرى في الدستور.
أما رئيس الحكومة فإنه بعد تعيينه يقدم أعضاء حكومته إلى رئيس الجمهورية الذي يعينهم، كما أنه يضبط برنامج حكومته ويعرضه في مجلس الوزراء (المادة 75)، ثم يقدم هذا البرنامج إلى المجلس الشعبي الوطني للموافقة عليه بعد مناقشة عامة يمكن لرئيس الحكومة على إثرها أن يكيف برنامجه على ضوء المناقشات (المادة 76)، وعليه تقديم استقالة الحكومة لرئيس الجمهورية في حالة عدم موافقة المجلس على البرنامج المعروض عليه. فيقوم رئيس الجمهورية من جديد بتعيين رئيس حكومة حسب نفس الطريقة (المادة 77).
وإذا لم تحصل من جديد موافقة المجلس الشعبي الوطني ينحل وجوبا وتجري انتخابات تشريعية جديدة في أجل أقصاه ثلاثة أشهر (المادة 78).
ويعتبر رئيس الحكومة المنفذ والمنسق للبرنامج الموافق عليه من طرف المجلس الشعبي الوطني (المادة 79) الذي يقدم عنه سنويا بيانا تعقبه مناقشة يمكن أن يختمها المجلس بلائحة أو بإيداع ملتمس رقابة، كما يمكن لرئيس الحكومة أن يطلب تصويتا بالثقة (المادة 80 ).
وبناء على المادة 81 يمارس رئيس الحكومة زيادة على السلطات التي تخولها إياه أحكام أخرى في الدستور الصلاحيات الآتية:
¬          يوزع الصلاحيات بين أعضاء الحكومة مع احترام الأحكام الدستورية.
¬          يرأس مجلس الحكومة.
¬          يسهر على تنفيذ القوانين والتنظيمات (Règlements).
¬          يوقع المراسيم التنفيذية.
¬          يعين في وظائف الدولة دون المساس باختصاصات رئيس الجمهورية بهذا الصدد.
وينبغي الإشارة إلى مجموعة المواد التي تنظم حالة شغور رئاسة الجمهورية نظرا لأهميتها عند دراسة استقالة الشاذلي بن جديد.
المادة 84: “إذا استحال على رئيس الجمهورية أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير مزمن، يجتمع المجلس الدستوري وجوبا، وبعد أن يثبت من حقيقة هذا المانع بكل الوسائل الملائمة، يقترح بالإجماع على المجلس الشعبي الوطني التصريح بثبوت المانع.
يعلن المجلس الشعبي الوطني ثبوت المانع لرئيس الجمهورية بأغلبية ثلثي أعضائه، ويكلف رئيسه بتولي رئاسة الدولة بالنيابة لمدة أقصاها خمسة وأربعون يوما، ويمارس صلاحياته مع مراعاة أحكام المادة 85 من الدستور.
وفي حالة استمرار المانع، بعد انقضاء خمسة وأربعين يوما، يعلن الشغور بالاستقالة وجوبا، حسب الإجراء المنصوص عليه في الفقرتين السابقتين وطبقا لأحكام الفقرات الآتية من هذه المادة:
في حالة استقالة رئيس الجمهورية أو وفاته، يجتمع المجلس الدستوري وجوبا، ويثبت الشغور النهائي لرئاسة الجمهورية.
وتبلغ فورا شهادة الشغور النهائي للمجلس الشعبي الوطني الذي يجتمع وجوبا.
يتولى رئيس الجمهورية المنتخب مهامه طبقا لأحكام المواد 67 إلى 74 من الدستور.
وإذا اقترنت وفاة رئيس الجمهورية بشغور المجلس الشعبي الوطني بسبب حله، يجتمع المجلس الدستوري وجوبا لإثبات الشغور النهائي لرئاسة الجمهورية.
يضطلع رئيس المجلس الدستوري بمهمة رئيس الدولة في الظروف المبينة في الفقرات من هذه المادة وفي المادة 85 من الدستور.
المادة 85: لا يمكن أن تقال أو تعدل الحكومة القائمة إن حصل المانع لرئيس الجمهورية، أو وفاته، أو استقالته حتى يشرع رئيس الجمهورية الجديد في ممارسة مهامه.
يستقبل وجوبا رئيس الحكومة القائمة قانونا، إذا ترشح لرئاسة الجمهورية. ويمارس وظيفة رئيس الحكومة حينئذ أحد أعضائها الذي يعينه رئيس الدولة.
لا يمكن في فترتي الخمسة والأربعين يوما تطبيق الأحكام المنصوص عليها في الفقرتين 8، و 9 من المادة 74، والمواد 75، 90، 120، 128، من الدستور.
لا يمكن خلال الفترتين السابق ذكرهما، تطبيق أحكام المواد 87، و88، و89، و91 من الدستور، إلا بموافقة المجلس الشعبي الوطني بعد استشارة المجلس الدستوري، والمجلس الأعلى للأمن.
–        الفصل الثاني: السلطة التشريعية (37 مادة)
يمارس المجلس الشعبي الوطني السلطة التشريعية، ويصوت على القوانين ويراقب عمل الحكومة.
وينتخب أعضاءه عن طريق الاقتراع العام المباشر السري لمدة خمس سنوات. ويعتبر النائب مسؤولا أمام زملائه الذين يمكنهم تجريده من صفته النيابية إذا اقترف فعلا يخل بشرف وظيفته.
وبناء على المادة 115 يعد من مجال القانون ما يأتي:
¬          حقوق الأشخاص وواجباتهم الأساسية، لا سيما نظام الحريات العمومية، وحماية الحريات الفردية، وواجبات المواطنين.
¬          القواعد العامة المتعلقة بقانون الأحوال الشخصية وحق الأسرة، لاسيما الزواج والطلاق والبنوة والأهلية والتركات.
¬          شروط استقرا الأشخاص.
¬          التشريع الأساسي المتعلق بالجنسية.
¬          القواعد العامة المتعلقة بوضعية الأجانب.
¬          القواعد المتعلقة بالتنظيم القضائي، وإنشاء الهيئات القضائية.
¬          القواعد العامة للقانون الجزائي، و الإجراءات الجزائية،
¬          لاسيما تحديد الجنايات والجنح، والعقوبات المطابقة لها، والعفو الشامل، وتسيم المجرمين.
¬          القواعد العامة للإجراءات المدنية وطرق التنفيذ.
¬          نظام الالتزامات المدنية والتجارية.
¬          نظام الانتخابات.
¬          التقسيم الإقليمي للبلاد.
¬          المصادقة على المخطط الوطني.
¬          التصويت على ميزانية الدولة.
¬          إحداث الضرائب والجبايات والرسوم والحقوق المختلفة، وتحديد أساسها ونسبها.
¬          النظام الجمركي.
¬          نظام البنوك والقروض والتأمينات.
¬          القواعد العامة المتعلقة بالتعليم.
¬          القواعد العامة المتعلقة بالصحة العمومية والسكان.
¬          القواعد العامة المتعلقة بقانون العمل والضمان الاجتماعي.
¬          القواعد العامة المتعلقة بالبيئة وإطار المعيشة.
¬          القواعد العامة المتعلقة بحماية الثروة الحيوانية والنباتية.
¬          حماية التراث الثقافي والتاريخي والمحافظة عليه.
¬          النظام العام للغابات والأراضي الرعوية.
¬          النظام العام للمياه.
¬          النظام العام للمناجم والمحروقات.
¬          إنشاء أوسمة الدولة ونياشينها وألقابها التشريفية.
وتنص المادة 116 على أن رئيس الحكومة يمارس السلطة التنظيمية في المسائل غير المخصصة للقانون وأن المجال التنظيمي المتعلق بتطبيق القانون يعود لرئيس الحكومة.
وفي مجال العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية نظم الدستور حالة حل المجلس الشعبي الوطني والمصادقة على المعاهدات واستجواب الحكومة وملتمس الرقابة(من المادة 120 إلى المادة 128).
–        الفصل الثالث: السلطة القضائية (20 مادة)
نص الدستور على استقلالية السلطة القضائية (المادة 128)، وعلى دورها في حماية المجتمع والحريات وضمان الحقوق الأساسية للمواطنين (المادة 130)، وعلى استقلالية القاضي الذي لا يخضع إلا للقانون (المادة 138)، والذي يحمي من كل أشكال الضغط والتدخلات والمناورات التي قد تضر بأداء مهمته أو تمس بنزاهة حكمه (المادة 139).
د. الباب الثالث: المؤسسات الاستشارية
–        الفصل الأول: الرقابة (12 مادة)
ينظم هذا الفصل مختلف مستويات الرقابة على صعيد المجالس المنتخبة (المادة149)، أو على صعيد استعمال الحكومة للاعتمادات المالية التي أقرها البرلمان (المادة150)، أو على صعيد المؤسسات الدستورية وأجهزة الرقابة المكلفة بالتحقيق في تطابق العمل التشريعي والتنفيذي مع الدستور، وفي ظروف استخدام الوسائل المادية والأموال العمومية وتسييرها.
وهكذا تم إحداث مجلس دستوري مكون من سبعة أعضاء اثنان منهم يعينهما رئيس الجمهورية واثنان ينتخبهم المجلس الشعبي الوطني، واثنان تنتخبهما المحكمة العليا من بين أعضائها، وذلك لفترة واحدة غير قابلة للتجديد مدتها ست سنوات على أن يجدد نصف الأعضاء كل ثلاث سنوات (من المادة 153 إلى المادة159)؛ وإحداث مجلس محاسبة مكلف بالرقابة البعدية لأموال الدولة والجماعات الإقليمية والمرافق العمومية (المادة 160).
–        الفصل الثاني: المؤسسات الاستشارية
المادة 161: “يحدث لدى رئيس الجمهورية مجلس إعلامي أعلى.
يتكون المجلس الإعلامي الأعلى من 11 عضوا يعينهم رئيس الجمهورية من بين الشخصيات الدينية.
وينتخب المجلس الإسلامي الأعلى رئيسه من بين أعضائه”.
المادة 162: “يؤسس مجلس للأمن يرأسه رئيس الجمهورية.
مهمته تقديم الآراء إلى رئيس الجمهورية في كل القضايا المتعلقة بالأمن الوطني…”.
ه. الباب الرابع: التعديل الدستوري (5مواد)
لرئيس الجمهورية حق المبادرة بالتعديل الدستوري. وبعد أو يصوت عليه المجلس الشعبي الوطني يعرض على الاستفتاء الشعبي للموافقة عليه، ثم يصدره رئيس الجمهورية (المادة 163)، إلا إذا رأى المجلس الدستوري أن المشروع لا يمس المبادئ العامة التي تحكم القانون الجزائري ولا يمس التوازنات الأساسية للسلطات فإنه يمكن لرئيس الجمهورية أن يصدر التعديل دون عرضه على الاستفتاء الشعبي متى أحرز ثلاثة أرباع أصوات أعضاء المجلس الشعبي الوطني (المادة 164).

رابعا: الانتخابات التشريعية والأحداث اللاحقة

(أنوال، الأربعاء، 12/02/1992، بن يونس المرزوقي، في إطار ندوة أنوال حول التجربة الجزائرية).
إن الحديث عن التجربة الديمقراطية بالجزائر يستلزم في البداية وضع الموضوع في إطاره العام. ومن هذه الزاوية يمكن القول أن الجزائر لم تكن تخرج عن التيار العام الذي كان يسود جل العالم الثالث، وذلك من ناحيتين على الأقل:
فمن ناحية أولى، فإن الحصول على الاستقلال بعد ثورة مسلحة لابد وأن يشجع الجيش على اعتبار نفسه وصيا على الشعب. وهكذا سيطر الشعب على السلطة وأصبح طرفا رئيسيا في توجيه الدولة.
ومن ناحية ثانية، فإن هاجس المحافظة على الوحدة الوطنية، وفكرة تكريس الحزب الوحيد على مستوى الحياة السياسية، عملا على سيادة الرأي الواحد.
في إطار هذا التوجه كان الاختيار التنموي المطروح يفرض نوعا من المركزية –حسب المسؤولين- خاصة عندما يتعلق الأمر بمشروع تنموي طموح يهدف استغلال كل إمكانية البلد. ولقد لعب ارتفاع أسعار النفط في بداية السبعينات دورا هاما في تكريس هذا الاتجاه (الميثاق الوطني ليوليوز 1976، ودستور نوفمبر 1976)، وحتى تعيين رئيس الحكومة كان ينبغي انتظار تعديلات يوليوز الواحد الذي استبعد كل إمكانية لإشراك الشعب أو حتى لظهور رأي مضاد.
لكن الأمور لا يمكن أن تدوم بهذا الشكل، لأن عدة معطيات قد تغيرت، فكان على النظام أن يستوعبها، لكنه بدلا من ذلك تصلب في موقفه. وهكذا لم تؤد وفاة الرئيس بومدين إلى أية إصلاحات، بل على العكس من ذلك وجد المشروع التنموي نفسه في وضعية صعبة نتيجة هبوط أسعار النفط. وعوض أن يتجه النظام إلى تعبئة الموارد الداخلية وإشراك الشعب في اتخاذ القرارات، لجأ إلى الاستدانة –سرا- من المؤسسات المالية الدولية محاولا الذهاب إلى أقصى حد ممكن في توجهه المركزي.
إن هذه العوامل كونت رأيا عاما أخذ موقفا سلبيا من مؤسسات الدولة سواء منها السياسية أو الاقتصادية أو حتى من جبهة التحرير نفسها. 
ومع نهاية الثمانينات، وفي إطار مناخ دولي مغاير اندلعت أحداث أكتوبر 1988 التي وضعت النظام أمام خيارين: الاستمرار في النهج السابق أو التأقلم مع الشعارات الجديدة التي أفرزتها هذه الأحداث وقد اختار النظام الخيار الثاني كمحاولة لإعطاء نفسه دفعة جديدة تخرجه من الأزمة.
وقد تبلور كل هذا في دستور 1989 الذي كرس مجموعة من الحقوق والحريات الفردية وعلى رأسها حرية تأسيس الجمعيات ذات الطابع السياسي.
إن الأحداث التي عرفتها الجزائر بعد الدور الأول من الانتخابات التشريعية إفراز طبيعي لمرحلة ما بعد أكتوبر 1988:

  1. تأسيس ما يفوق من 50 حزبا سياسيا.
  2. الدخول إلى مرحلة التعددية النقابية.
  3. تفتح إعلامي واسع على مستوى الصحافة، الإذاعة، والتلفزة.
  4. النقاش الوسع حول النظام الانتخابي وحول التقطعة الانتخابية.
  5. النقاش حول حق الأزواج في التصويت بالنيابة.
  6. نفس الملاحظة حول الديون الخارجية للجزائر.
  7. وأخيرا الجو الذي أحدثته أزمة وحرب الخليج على المجتمع.

 إن هذه العوامل وغيرها، جعلت المجتمع المدني يتعرف للمرة الأولى على الرأي والرأي المضاد، ولذلك كان طبيعيا أن تكون الحظوظ بجانب التنظيم الذي نما وتطور خارج مؤسسات الدولة بما في ذلك خارج جبهة التحرير، إنه التنظيم الذي يسير وفق خطاب مضبوط ينفذ إلى كل الشرائح الاجتماعية بسهولة واعدا إياها بحل مشاكلها وفق تصور ديني، نظري، متفائل…
وهكذا عوض أن تتبلور التعددية السياسية وتتوطد، نلاحظ أن الثنائية هي التي تكرست فكل المبادرات الهامة وردود الفعل الهامة كانت تصدر إما عن جبهة الإنقاذ، وإما جبهة التحرير بواسطة المجلس الشعبي الوطني، حكومة حمروش، الرئيس الشاذلي بن جديد.
فمثلا النظام الانتخابي وتقسيم الدوائر الانتخابية جاء من جبهة التحرير، ورد فعل جبهة الإنقاذ تمثل في الإعلان عن إضراب سياسي شامل أدى عمليا إلى إعلان حالة الحصار في يونيو91، بينما الأحزاب الأخرى لم تكن لها إلا مواقف مبدئية، نظرية مؤيدة لهذا الطرف أو ذاك فقط.
ورغم استقالة الرئيس بن جديد من رئاسة حزب جبهة التحرير28/06/91، ورفع حالة الحصار 29/06/91، فإن الجو السياسي بقي مشحونا.
فماذا يمكن الانتظار من تجربة انتخابية ديمقراطية وسط مناخ سياسي كهذا؟ إن اقتراع ديسمبر91 قد أعطى خارطة سياسية يمكن أن نستخلص منها ما يلي:

  1. عجز ما يفوق 50 حزبا عن استقطاب الناخبين إلى صناديق الاقتراع، إذ بلغت نسبة المشاركين41٪ (5.435.929).
  2. عجز الأحزاب السياسية عن تعبئة المصوتين، وهو ما ترجمه عدد الأصوات الملغاة والتي بلغت نسبتها 11.18٪ (924.906).
  3. عجز جزء واسع من الأحزاب عن تغطية مجموع الدوائر الانتخابية وهو ما يتمثل في 5.712 مرشحا في 430 دائرة بمعدل 13 مرشح في الدائرة.
  4. عجز ما يفوق الأغلبية المطلقة من الأحزاب عن الوصول إلى الدور الثاني، بل حصول بعض الهيئات على أرقام تافهة في الدول الأول.
  5. حصول المستقلين على 309.264 صوتا.
  6. حصول 43 حزبا على حوالي 461.708 صوتا.
  7. حصول جبهة القوى الاشتراكية، والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (الترعة البربرية) على 710.928 صوتا.
  8. حصول الأحزاب الإسلامية الرئيسية (الإنقاذ – حماس – النهضة) على 3.779.012 صوتا.
  9. حصول جبهة التحرير على 1.612.947 صوتا.

إن هذه الأرقام قد دقت ناقوس الخطر، بينت أن الصراع لم يكن تعدديا، وأن الاقتراع نفسه لم يكن مبنيا على الاختيار وإنما على الإقصاء. ولذلك فإن كل الشرائح التي كانت ترى في جبهة التحرير مؤسسة عاجزة عن إصلاح البلاد صوتت على أكثر المشاريع تناقضا معها، وبذلك اكتسحت جبهة الإنقاذ 188 مقعدا من أجل 231 التي تم الحسم فيها في الدور الأول. وكانت هذه الأرقام تدل على الأغلبية المطلقة من المقاعد المتبقية ستكون من نصيبها.
سأرجع بعد قليل إلى أسباب توقيف المسلسل الانتخابي لأكتفي الآن بالإشارة إلى أن ما وقع من أحداث إثر استقالة الرئيس بن جديد من الرئاسة في11 يناير1992، بين هشاشة النظام الذي كان يعتمد على الأشخاص وليس على المؤسسات، ثم تصلب وتمسك القيادة العسكرية بموقعها داخل أجهزة الدولة وبذلك فإن تليين النظام الذي كان يستهدفه دستور1989 لم ينجح ما دام الإطار السياسي لم يكن ملائما.وأحسن تجسيد لذلك هي المناقشات الدستورية حول حق الرئيس في الاستقالة ومسألة شغور الرئاسة.
أعتقد أن هذا النقاش متجاوز ما دام الأمر لا يتعلق بتطبيق الدستور ولكن بسلسلة من الانقلابات.

  1. انقلابات بن جديد نفسه في جبهة التحرير (استقالته من رئاستها، ثم حل المجلس الشعبي الوطني لإقصاء رئيسه من احتلال منصب رئاسة الدولة الشاغر).
  2. انقلابات بن جديد على نفسه، وهو انقلاب ضد الجيش الذي يبدو واضحا أن له تصور آخر مغاير للرئيس.
  3. انقلاب المجلس الدستوري على النظام السائد عمليا كرس نتائج الدور الأول، إذ لو قبل مجوعة واسعة من الطعون (التي فاقت 300) لأدى الأمر إلى إعادة النظر فيها دون توقيفها.
  4. انقلاب الجيش ضد المجلس الدستوري، أي ضد المؤسسة الدستورية الوحيدة التي بقيت بعد استقالة الشاذلي، وقد تجسد هذا في إقصاء رئيس المجلس بن حبيلس من مهمة رئاسة الدولة بعد شغورها بطريقة أقل ما يقال عنها أنها غير دستورية بتاتا.

وأخيرا يمكنني تلخيص الوضعية بفكرة واحدة مؤداها أن العملية الانتخابية من حيث لنتائج لم تكن تعكس حتى الصراع الذي تحدثنا عنه، بل أقصت جبهة التحرير لتحتل محلها جبهة الإنقاذ، وهو ما أعطى الانطباع بأن الجزائر لازالت لم تخرج من نظام الحزب الوحيد. وهذا ما جعل الفرصة سانحة للجيش لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه. الفرق الوحيد هو أم القيادة الفردية تحولت إلى قيادة جماعية كمحاولة لإرضاء كل مكونات المجتمع: ممثل للجيش (خالد نزار)، ممثل للمجاهدين (علي كافي)، ممثل التيار الإسلامي (تجاني هدام)، ممثل لحقوق الإنسان (على هارون). وتوجت برئاسة محمد بوضياف كرمز للتاريخ وللثورة الجزائرية، فكأن الجزائر بعد 30 سنة، ترجع إلى نقطة الانطلاق: 1962.
وما الأحداث اللاحقة إلا تحصيل حاصل. فبعد اغتيال محمد بوضياف دخلت الجزائر مرحلة اختبار القوة. لقد تم حل جبهة الإنقاذ، ودخلت البلاد في دوامة العنف والعنف المضاد. والنظام يحاول أن يعطي لنفسه شرعية جديدة: أحيانا عن طريق تغيير الرؤساء (على كافي، الأمين زروال)، وأحيانا عن طريق فتح مفوضات مع الأحزاب الوطنية، ووصل الأمر في سنة 1996 إلى هذه الإجراءات التي تتم في غياب جبهة الإنقاذ كطرف رئيسي في الصراع لم تحقق النتائج المرجوة منها.
 المبحث الثالث: التجربة الموريتانية
 لا يختلف النظام الموريتاني عن الأنظمة السياسية لبلدان العالم الثالث إلا فيما يتعلق ببعض الخصوصيات.
وقد خضع هذا البلد إلى الاستعمار الفرنسي في بداية القرن العشرين، وبالتالي فقد تأثر بالمؤسسات السياسية الفرنسية. ورغم الإعلان عن استقلال الجمهورية الموريتانية في 28 نوفمبر 1958 كدولة ذات استقلال ذاتي عضو في المجموعة الفرنسية، وتكليف لجنة بوضع دستور للبلاد فإنها واجهت إشكالية اكتساب الاعتراف الدولي.
إن ميلاد هذه الجمهورية سيطرح مشكلتين:
–        مشكل داخلي يتعلق بغياب بنية تحتية يمكن الاعتماد عليها لبناء الدولة الجديدة.
–        مشكل خارجي يتعلق بصعوبة الحصول على اعتراف من المجتمع الدولي.
إن الموقف المغربي يعتبر موريتانيا جزءا من المغرب سيتم اعتماده بشكل واسع على المستوى الدولي. فأغلبية الدول كانت تعتبر هذه الدولة الجديدة من صنع الاستعمار، خاصة وأن بعض الشخصيات الموريتانية كانت تناضل من أجل الانضمام للمغرب.
واعتمادا على الدعم الفرنسي والدول الغربية ودول الاتحاد الفرنسي الإفريقي حاولت موريتانيا اكتساب عضوية الأمم المتحدة. إلا أن الفيتو السوفييتي في مجلس الأمن عطل ترشيحها.
وانطلاقا من أكتوبر 1961 اكتسبت موريتانيا عضوية الأمم المتحدة. ثم اتجهت الحكومة الموريتانية شيئا فشيئا إلى تطوير العلاقات مع الدول الحليفة والصديقة والمجاورة، إلى أن تم الاعتراف بها من طرف المغرب سنة 1969 بمناسبة انعقاد المؤتمر الإسلامي الأول بفاس.
المطلب الأول: النظام السياسي قبل سنة 1978
لقد تم اعتماد أول دستور في 22 مارس 1959 كنص يبحث عن توازن بين أولوية الدين الإسلامي واحترام السيادة الوطنية الموروثة عن القانون الدستوري الفرنسي.
وقد كانت السلطات العامة تتكون من وزير أول منتخب من طرف الجمعية الوطنية دون أن يكون مسؤولا أمامها، يساعده في أداء مهامه مجموعة من وزراء (دون وجود منصب رئيس الجمهورية)، مع لجنة دستورية تقوم بدور التحكيم بين الحكومة والجمعية الوطنية.
وقد أقرت المادة 9 من دستور1959 إمكانية تأسيس أحزاب وتجمعات سياسية على أساس احترامها للمبادئ الديمقراطية والسيادة الوطنية ووحدة الجمهورية.
وهكذا تشكلت عدة أحزاب وهي:
–        حزب التجمع الموريتاني.
–        الاتحاد الوطني الموريتاني.
–        حزب النهضة.
–        اتحاد الاشتراكيين المسلمين الموريتانيين.
وقد كان الحزب الأول حزبا حكوميا، بينما كانت الأحزاب الثلاثة الأخيرة تشكل المعارضة.
وقد اجتمع مندوبو الأحزاب الأربعة في أكتوبر1961 من أجل توحيد العمل السياسي في البلاد وتحقيق الوحدة الوطنية وذلك من خلال تأسيس نظام الحزب الواحد.
ويعتبر هذا الدستور الأول نصا يستجيب لمرحلة بداية الاستقلال. فقد تعديله عدة مرات، بحيث تخلت موريتانيا بموجب دستور20 ماي1961 عن النظام البرلماني بدعوى أنه غير ملائم للجهود المبذولة من أجل البناء الوطني وتقوية سلطة الدولة. وهكذا تم اعتماد نظام رئاسي غير متوازن ركز السلطة خاصة بيد رئيس الدولة.
إن النص الدستوري لسنة1961 نفسه قد تعرض للتعديل في 24 أبريل1964، و12 فبراير1965، و12 يوليوز1966، و4مارس1968.
ويمكن القول بصفة عامة أن دستور1961 قد استفاد من التجربة الدستورية الفرنسية لسنة1958 في الجانب المتعلق بدعم السلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعية، إضافة إلى الاستفادة من النظام الرئاسي الأمريكي دون أخذ سلطات الكونغرس بعين الاعتبار.
أولا: الديباجة
إن ديباجة الدستور مركزة بشكل كثيف، لكنها مع ذلك تتضمن الإشارة إلى عزم الشعب الموريتاني على ضمان وحدة ترابه وإرادته في اعتماد تطور سياسي واقتصادي واجتماعي حر. كما أشارت إلى تعلقه بالدين الإسلامي والمبادئ الديمقراطية كما هي محددة في إعلان حقوق الإنسان لسنة1789 والإعلان العالمي الصادر في 10ديسمبر1948.
ثانيا: المبادئ العامة
يتضمن الفصل الأول من الدستور مواد (9مواد) تحدد المبادئ العامة التي تحكم الدولة والمجتمع. فالدين الإسلامي هو دين الشعب الموريتاني (المادة2)، واللغة العربية هي اللغة الوطنية، أما اللغات الرسمية فهي العربية والفرنسية (المادة3)، والسيادة الوطنية ملك للشعب يمارسها بواسطة ممثليه وبواسطة الاستفتاء على أنه لا يحق لأي جزء من الشعب أو لأي شخص أن يمارسها بمفرده، كما لا يجوز التنازل الجزئي أو الكامل عن السيادة بدون موافقة الشعب (المادة7).
وقد أقرت المادة9 الحق في تأسيس الأحزاب والتجمعات السياسية بالشروط المذكورة سابقا، إلا أن نفس المادة تنص على أن الإرادة الشعبية يتم التعبير عنها بواسطة حزب الدولة المنظم بشكل ديمقراطي، وأن حزب الشعب الموريتاني –الناتج عن دمج الأحزاب الوطنية الموجودة بتاريخ25 ديسمبر 1961- هو الحزب الوحيد للدولة.
ثالثا: رئيس الجمهورية
بعد حذف منصب الوزير الأول أصبح رئيس الجمهورية المؤسسة الدستورية الأساسية (المادة16)، فهو رئيس الدولة (المادة10)، وهو حامي الدستور والضامن للاستقلال الوطني والوحدة الترابية (المادة11)، وهو الذي يمارس السلطة التنفيذية (المادة12)، وينتخب بالاقتراع العام المباشر لمدة 5 سنوات (قابلة للتجديد) بترشيح لحزب الشعب الموريتاني (المادة 13).
وبناء على المادة 17فإن رئيس الجمهورية يضع السياسة العامة للأمة، ويسهر على تطبيقها ويخبر الجمعية الوطنية بتطورها. كما أنه يختار الوزراء (الذين يعتبرون مسؤولين أمامه) ويمكنه أن يفوضهم بعض سلطاته. ويمكنه أن يتوجه إلى الجمعية الوطنية إما مباشرة أو عن طريق خطاب، لكن تدخلاته ل تخضع لأي نقاش.
وإضافة إلى ما سبق يمارس رئيس الجمهورية الاختصاصات المسندة عامة لرؤساء الدول كإصدار القوانين والسهر على تنفيذها، وممارسة السلطة التنظيمية، وتعيين الوظائف المدنية والعسكرية، ورئاسة القوات المسلحة وتعيين السفراء واعتماد سفراء الدول الأجنبية، والتوقيع على المعاهدات والمصادقة عليها، وممارسة حق العفو الخاص.
وقد نظمت المادة24 حالة شغور الرئاسة التي تثبتها المحكمة العليا بناء من طلب من رئيس الجمعية الوطنية أو الوزراء الذين يمكنهم تعيين أحدهم لممارسة وظائف الرئاسة المؤقتة. كما حددت المادة 25 حالة الاستثناء التي تمنح رئيس الجمهورية اتخاذ التدابير الاستثنائية التي تقتضيها الظروف.
رابعا: الجمعية الوطنية
تمارس الجمعية الوطنية المنتخبة لمدة حمس سنوات السلطة التشريعية، وذلك في الميادين المحددة في المادة 33 والمتمثلة في:

  • الحقوق المدنية والضمانات الأساسية الممنوحة للمواطنين لممارسة الحريات العامة،
  • والالتزامات التي يفرضها الدفاع الوطني على المواطنين في أشخاصهم وأملاكهم.
  • الجنسية، الأحوال الشخصية والأهلية.
  • تحديد الجرائم والجنح والعقوبات، والعفو التشريعي، والمسطرة الجنائية.
  • تحديد أساس ونسب الإجراءات الضريبية بكافة أنواعها، ونظام إصدار النقود.
  • النظام الانتخابي للجمعية الوطنية والجماعات العمومية.
  • إحداث أنواع المؤسسات العمومية.

كما أن الجمعية الوطنية تضع المبادئ الأساسية ل:

  • الدفاع الوطني.
  • الإدارة.
  • المحاكم والمسطرة المتبعة أمامها.
  • إدارة الجماعات العمومية واختصاصاتها ومواردها.
  • النظام العام لموظفي الدولة.
  • التعليم.
  • نظام الملكية، والحقوق العينية، والالتزامات المدنية والتجارية.
  • قانون الشغل، والحق النقابي، والمؤسسات الاجتماعية.

كما أن الجمعية الوطنية تصادق على مداخيل ونفقات الدولة، وتصدر برامج تحدد أهداف العمل الاقتصادي والاجتماعي للدولة.
خامسا: علاقة الرئيس بالجمعية
إن المجالات التي لا يشملها القانون تعد من اختصاص السلطة التنظيمية للرئيس (المادة35)، كما أن الرئيس يمكنه أن يطلب الجمعية تخويله صلاحية اتخاذ إجراءات تدخل عادة في مجال القانون وذلك لتنفيذ برنامجه خلال مدة محددة (المادة 36)، ويمكنه أن يعرض كل مشروع قانون يهم تنظيم السلطات العمومية أو المصادقة على معاهدة مباشرة على الاستفتاء الشعبي (المادة41/الفقرة 3)، ويقدم الرئيس إلى الجمعية تقريرا سنويا عن أنشطته وعن حالة الأمة مع عرض الخطوط العامة لبرنامج السنة القادمة (المادة43)، وأخيرا فإنه هو الذي يعلن حالة الحصار وحالة الاستعجال.
سادسا: مواضيع مختلفة
إضافة إلى تنظيم السلطات العمومية، فإن الدستور قد وضع تنظيما للمواضيع التالية:
–        المعاهدات الدولية: حيث حددت الماة44 المعاهدات التي لا يمكن عليها إلا بقانون كمعاهدات السلم، والمعاهدات التجارية، والمعاهدات التي تلزم مالية الدولة…
–        القضاء: حيث تم التنصيص على استقلاليته، وعلى إحداث مجلس أعلى للقضاء تحت رئاسة رئيس الجمهورية (المادة50)، ومجلس أعلى لمراقبة دستورية القوانين، ومحكمة عليا لمحاكمة الرئيس والوزراء في حالة الخيانة العظمى بناء على تهمة موجهة من الجمعية الوطنية بأغلبية ثلثي الأعضاء (المادة52).
–        الجماعات المحلية: وتتمثل في الجهات والجماعات (المادة 53).
–        تعديل الدستور: وذلك بمبادرة من الرئيس أو من ثلث أعضاء الجمعية. فكل مشروع تعديل ينبغي أن يصوت عليه بأغلبية ثلثي أعضاء الجمعية حيث يمكن آنذاك للرئيس أن يقرر اللجوء إلى الاستفتاء. ويمنع تقديم أي تعديل يمس وجود الدولة أو وحدتها الترابية أو الشكل الجمهوري للحكومة.
إن النظام السياسي الموريتاني يتميز بعدم التوازن لصالح رئيس الجمهورية بشكل واضح. وهذا ما جعل النظام يختلف عن نظام الجمهورية الخامسة الفرنسي والنظام الرئاسي الأمريكي لاعتماده نظام الحزب الوحيد إضافة إلى الدور الذي لعبه المختار ولد دادة.
وقد انتهى العمل بدستور 1961 عندما تمت الإطاحة بهذا النظام عن طريق انقلاب عسكري بتاريخ 10يوليوز 1987 حيث تم القضاء على النشاط الحزبي في البلاد وتركزت السلطة بيد الجيش.
المطلب الثاني: المرحلة العسكرية (1978 – 1984)
لقد تميزت هذه المرحلة بهيمنة الجيش على ممارسة السلطة السياسية في البلاد وذلك استنادا إلى عدة مواثيق دستورية.
لقد استولى الجيش على السلطة بقيادة الكولونيل مصطفى ولد السالك، ثم عرفت البلاد بعد ذلك خمس انقلابات عسكرية إلى غاية 1984. وهذا ما يفسر عدم الاستقرار السياسي.
فعلى صعيد المواثيق الدستورية عرفت البلاد ستة مواثيق وذلك في التواريخ الآتية:

  • 10 يوليوز 1970.
  • 06 أبريل 1979.
  • 04 ينير 1980.
  • 12 ديسمبر 1980.
  • 25 أبريل 1981.
  • 09 فبراير 1985.

ففي فترة زمنية لا تتجاوز سبع سنوات عرفت البلاد ستة مواثيق دستورية لا تختلف فيما بينها اختلافا جوهريا، وإنما يتعلق الأمر بنية السلطة التنفيذية: فتارة يحتفظ رئيس الدولة برئاسة الحكومة وتارة يضع الوزير الأول على رأسها، كما أن هذا الاختلاف كان يعبر عن ميزان القوى داخل القوات المسلحة التي تبرز بين الفينة والأخرى.
فالجيش يمارس السلطة عن طريق لجنة يكون على رأسها رئيس الدولة لكنه في نفس الوقت عضو في هذه الهيئة التي أخذت أولا اسم “اللجنة العسكرية الوطنية للتصحيح” ثم اسم “اللجنة العسكرية للخلاص الوطني”، والتي تتكون من 18 عضوا إلى جانب حكومة تتكون من 16 عضوا (8عسكريين   و8 مدنيين) تعمل على تنفيذ السياسة العامة التي تضعها اللجنة.
ففي يوليوز1978 وضع الانقلاب حدا لنظام المختار ولد دادة فاتحا بذلك عهدا جديدا يتميز بالبحث عن السلام انطلاقا من سياسة الانسحاب من الصحراء. ثم تتالت الانقلابات التي كانت تهدف إما إلى التحالف مع الجزائر أو البحث عن الحياد.
  وعندما صدرت الوثيقة الدستورية المؤرخة في 22 يوليوز 1978 بعد تعليق العمل بالدستور، وحل حزب الشعب الموريتاني، وحذف الجمعية الوطنية، تم تحديد الإطار الجديد لممارسة السلطة عن طريق اللجنة العسكرية.
وفي أبريل 1979 قام العقيد بوسيف بانقلاب عسكري آخر حيث مارست اللجنة العسكرية للتصحيح الوطني السلطة إلى غاية مقتل هذا العقيد في حادث الطائرة، ثم تولى السلطة مسؤولون مدنيون شكلوا الحكومة بناء على رغبة القيادة العسكرية.
وكانت أطول فترة عرفت استقرارا نسبيا هي تلك التي تولى خلالها رياسة الدولة خونا ولد هيدا الله الذي استمر في الحكم إلى غاية إسقاط نظامه في 12 ديسمبر 1984 بقيادة الرئيس الحالي معاوية ولد سيدي أحمد الطايع.
المطلب الثالث: من 1984 إلى الآن
إن الانقلاب الذي أوصل معاوية ولد سيدي أحمد الطايع إلى رئاسة الدولة قد وضع كهدف له تصحيح مسيرة الدولة وإعادة الحيوية للاقتصاد. وسنعالج هذه المرحلة من خلال تطورات السياسة الداخلية ثم من خلال الإصلاحات الدستورية والسياسية التي شهدتها البلاد.
الفرع الأول: التطورات السياسية الداخلية
على إثر سنوات الجفاف التي عمت المنطقة، عرفت البلاد أزمة اقتصادية خانقة نتيجة انخفاض مستوى المعيشة مقابل ارتفاع الأسعار وقمع الحريات. وقد أدى هذا الوضع إلى توتر حاد بين المعارضة والحكومة خاصة عقب حرب الخليج.
وقد بينت الأحداث التي عرفتها البلاد خلال سنة 1991 رغبة المعارضة في الديمقراطية والتعددية، وهي رغبة تم التعبير عنها خاصة من خلال الاضطرابات ومن خلال مطالب اتحاد العمال الموريتانيين (المركزية النقابية الوحيدة للبلاد)، والتي أدت إلى مفاوضات بين الحكومة والمعارضة سرعان ما تم توقيفها بعد اتهام النظام للمعارضة بالتعاون مع الخارج.
وقد اغتنمت المعارضة الموريتانية فرصة أزمة وحرب الخليج للتعبير عن وجودها وإبراز حجمها الشامل بعد أن كانت قد عبرت عن نفسها في شكل قوائم مستقلة خلال الانتخابات البلدية التي جرت في يناير 1990. واستمرت في المطالبة بإصلاحات سياسية واسعة خاصة من خلال رسالة مفتوحة إلى الرئيس تضمنت أسماء 125 شخصية موريتانية ومن بينها 10 وزراء سابقين دعت فيها إلى إقامة ديمقراطي وفاء بالتعهدات التي قطعها الحكم على نفسه، وتكوين لجنة مستقلة للنظر في الانتهاكات التي تعرفها حقوق الإنسان. كما أن الرابطة الموريتانية لحقوق الإنسان تحركت في هذا الاتجاه.
وأمام التوتر الحاد الناتج عن التصعيد بين المعارضة والحكومة، فإن المعارضة قد أجمعت على ضرورة الإسراع بتشكيل إطار موحد يجمع مختلف التنظيمات السياسية. وهكذا تم الإعلان عن تأسيس الجبهة الديمقراطية الموحدة لقوى التغيير بتاريخ 05 يونيو 1991 والتي تضمنت 6 تنظيمات معارضة متواجدة بالداخل أهمها: الحركة الوطنية الديمقراطية، وحركة التنظيم الحر، إضافة إلى الاتجاه الإسلامي، والمستقلين. لكن أبرز الشخصيات المكونة للجبهة التي وضعها ابتداء من 06 يونيو تحت الإقامة الإجبارية في مناطق نائية إلى أن استفادت من عفو رئاسي في 31 يوليوز 1991.
ونفس الملاحظة يمكن الإدلاء بها في التعامل مع المنتمين للحركة البعثية في البلاد خلال نهاية  1995.   
الفرع الثاني: الإصلاحات الدستورية والسياسية
لقد شرعت موريتانيا مع بداية التسعينات في الابتعاد عن الحكم العسكري والدخول في مرحلة التعددية والمؤسسات المنتخبة. وهكذا تم عرض مشروع دستور على الاستفتاء بتاريخ 12 يوليوز 1991 وتمت المصادقة عليه لتدخل موريتانيا عهدا سياسيا جديدا.
لقد تم تحضير هذا الدستور من طرف رجال القانون الموريتانيين، ثم تم عرضه على اللجنة العسكرية للخلاص الوطني والحكومة قبل عرضه على الاستفتاء الشعبي، رغم مطالبة بعض الجهات بتنظيم مؤتمر وطني.
أولا: دستور 12 يوليوز 1991

  1. الديباجة

“يعلن الشعب الموريتاني اتكالا منه على الله العلي القدير، تصميمه على ضمان حوزة أراضيه واستقلاله ووحدته الوطنية والسهر على حرية تقدمه السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
كما يعلن، اعتبارا منه لقيمه الروحية وإشعاعه الحضاري، تمسكه بالدين الإسلامي الحنيف وبمبادئ الديمقراطية الوارد تحديدها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في تاريخ 10 ديسمبر 1948 والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب الصادر بتاريخ 27 يونيو 1971 وفي الاتفاقيات الدولية التي وافقت عليها موريتانيا.
ونظرا إلى الحرية والمساواة وكرامة الإنسان يستحيل ضمانها إلا في ظل مجتمع يكرس سيادة القانون، وحرصا منه على خلق الظروف الثابتة لنمو اجتماعي منسجم، يحترم أحكام الدين الإسلامي، المصدر الوحيد للقانون، ويتلاءم ومتطلبات العالم الحديث، يعلن الشعب الموريتاني على وجه الخصوص الضمان الأكيد للحقوق والمبادئ التالية:
–        حق المساواة.
–        الحريات العامة والحقوق الأساسية للإنسان.
–        حق الملكية.
–        الحريات السياسية والحريات النقابية.
–        الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
–        الحقوق المتعلقة بالأسرة كخلية أساسية للمجتمع الإسلامي.
ووعيا بضرورة توثيق الروابط مع الشعوب الشقيقة فإن الشعب الموريتاني كشعب مسلم عربي إفريقي، تصميمه على السعي من أجل تحقيق وحدة المغرب العربي الكبير والأمة العربية وإفريقيا ومن أجل السلم في العالم”.

  1. الأحكام العامة والمبادئ الأساسية (22 مادة)

يتضمن هذا الباب الأول من الدستور التأكيد على بعض الأحكام الواردة في دستور 1961 مع بعض الإضافات. فالإسلام دين الشعب والدولة (المادة 5)، واللغة الرسمية هي اللغة العربية أما اللغات الوطنية فهي العربية والبولارية والسوينكية والولفية (المادة 6)، والدولة تضمن لكافة المواطنين الحريات العمومية والفردية وعلى الخصوص (المادة 10):

  • حرية التنقل والإقامة في جميع أجزاء تراب الجمهورية.
  • حرية دخول التراب الوطني وحرية الخروج منه.
  • حرية الرأي وحرية التفكير.
  • حرية التعبير.
  • حرية الاجتماع.
  • حرية إنشاء الجمعيات وحرية الانخراط في أية منظمة سياسية ونقابية يختارونها.
  • حرية التجارة والصناعة.
  • حرية الإبداع الفكري والفني والعلمي.
  • لا تقيد الحرية إلا بالقانون.

هذا وتساهم الأحزاب والتجمعات السياسية في تكوين الإرادة السياسية والتعبير عنها. كما تتكون الأحزاب والتجمعات السياسية وتمارس نشاطها بحرية، شرط احترام المبادئ الديمقراطية وشرط ألا تمس، من خلال غرضها ونشاطها، بالسيادة الوطنية والحوزة الترابية ووحدة الأمة والجمهورية ( المادة 11).
كما تم التنصيص على بعض الحقوق والحريات المتعارف عليها، كالحق في تقلد المهام والوظائف العمومية، وحرمة الشخص والمسكن والمراسلات، ومنع كل شكل من أشكال العنف المعنوي والجسدي، وحق الإضراب، وحق الملكية والإرث، وبعض الواجبات كضرورة حماية وصيانة استقلال البلاد وسيادتها وحوزة أراضيها، والعقاب الصارم للخيانة والتجسس والولاء للعدو وكل المخالفات المرتكبة ضد أمن الدولة، وأداء الواجبات تجاه المجموعة الوطنية بإخلاص، واحترام الملكية العامة والملكية الخاصة…

  1. السلطة التنفيذية (22 مادة)

إن رئيس الجمهورية هو حامي الدستور وهو الذي يجسد الدولة ويضمن، بوصفه حكما، السير المطرد والمنتظم للسلطات العمومية، كما أنه الضامن للاستقلال الوطني ولحوزة الأراضي (المادة 24).
إن رئيس الجمهورية ينتخب لمدة 6 سنوات عن طريق الاقتراع العام المباشر بالأغلبية المطلقة للأصوات المعبر عنها في الدور الأول للانتخابات، وإلا ينظم دور ثان لا يتقدم له إلا المرشحان الباقيان في المنافسة والحاصلان على أكبر عدد من الأصوات في الدور الأول، وهو الذي يمارس السلطة التنفيذية، ويترأس مجلس الوزراء ويحدد السياسة الخارجية للأمة وسياستها الدفاعية والأمنية ويسهر على تطبيقها، ويعين الوزير الأول وينهي وظائفها، ويبلغ آراءه إلى البرلمان عن طريق خطابات دون أن يفتح حولها أي نقاش.
ويمكن لرئيس الجمهورية حل الجمعية الوطنية (المادة 31)، وممارسة السلطة التنظيمية التي يمكنه أن يفوض جزءا منها أو كلها للوزير الأول، كما أنه يعين في الوظائف المدنية والعسكرية، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ويمكنه استشارة الشعب عن طريق الاستفتاء في كل قضية ذات أهمية وطنية.
وقد نظمت المادة 39 حالة الاستثناء التي تمكن الرئيس من اتخاذ التدابير التي تقتضيها الظروف.
ويعتبر الوزير الأول والوزراء مسؤولين أمام رئيس الجمهورية. ويحدد الوزير الأول سياسة الحكومة تحت لإشراف الجمهورية، كما يوزع المهام بين الوزراء، ويدير وينسق نشاط الحكومة (المادة 42).
وبناء على المادة 43 تحرص الحكومة على أعمال السياسة العامة للدولة طبقا للتوجيهات والاختيارات المحددة من قبل رئيس الجمهورية، كما تسهر على نشر وتنفيذ القوانين والنظم، وهي مسؤولة أمام البرلمان وفق الشروط التي سنراها لاحقا.
ويلاحظ أن وظائف أعضاء الحكومة تتعارض مع ممارسة كل امتداد برلماني وكل وظيفة تمثيل مهنية ذات طابع وطني وكل نشاط مهني بصفة عامة مع كل وظيفة عمومية وخصوصية (المادة 44).

  1. السلطة التشريعية (10 مواد)

يتشكل البرلمان من غرفتين: الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ.
فالجمعية الوطنية تنتخب بالاقتراع المباشر لمدة 5 سنوات، أما مجلس الشيوخ فينتخب بالاقتراع غير المباشر لمدة 6 سنوات مع تجديد ثلث الأعضاء كل سنتين. ويقوم مجلس الشيوخ بتمثيل المجموعات الإقليمية للجمهورية والموريتانيين المقيمين في الخارج (المادة 47).
وبناء على المادة 57 فإن مجال القانون يشمل:

  • الحقوق والواجبات الأساسية لا سيما نظام الحريات العمومية وحماية الحريات الفردية،
  • وكذا التبعات التي يفرضها الدفاع الوطني على المواطنين في أنفسهم وأموالهم.
  • الجنسية، حالة الأشخاص وأهليتهم، الزواج، الطلاق، والميراث.
  • شروط إقامة الأشخاص ووضعية الأجانب.
  • تحديد الجرائم والجنح والعقوبات والإجراءات الجنائية والعفو الشامل،
  • وكذا إنشاء وتنظيم الهيئات القضائية والنظام الأساسي للقضاة.
  • الإجراءات المدنية وطرق التنفيذ.
  • النظام الجمركي، نظام إصدار العملة، نظام المصارف والقرض والتأمين.
  • نظام الانتخابات والتقسيم الإقليمي للبلاد.
  • نظام الملكية والحقوق العينية والالتزامات المدنية والتجارية.
  • النظام العام للمياه والمعادن والمحروقات والصيد والتجارة البحرية،
  • وكذلك الثروة الحيوانية والنباتية والبيئة.
  • حماية التراث الثقافي والتاريخي والمحافظة عليه.
  • القواعد العامة المتعلقة بالتعليم الصحة.
  • القواعد العامة المتعلقة بالقانون النقابي وقانون العمل والضمان الاجتماعي.
  • التنظيم العام للإدارة.
  • التنظيم الحر للمجموعات المحلية واختصاصاتها ومواردها.
  • الوعاء الضرائبي ومعدل جبايتها وطرق جباية الضرائب من شتى الأنواع.
  • إنشاء فئات المؤسسات العمومية.
  • الضمانات الأساسية الممنوحة للموظفين المدنيين والعسكريين،
  • وكذلك النظام العام للوظيفة العمومية.
  • تأميم المؤسسات وتحويل ملكيات القطاع العام إلى القطاع الخاص.
  • القواعد العامة لتنظيم الدفاع الوطني.
  • تحدد قوانين المالية موارد الدولة وتكاليفها طبق شروط يضعها قانون نظامي.
  • تحدد قوانين منهجية أهداف النشاط الاقتصادي والاجتماعي للدولة.

ويمكن أو توضح وتكمل أحكام هذه المادة لقانون نظامي (Loi organique).
وإضافة إلى ذلك فإن البرلمان هو الذي يرخص في إعلان الحرب (المادة 58).
وتشير المادة 58 إلى أن المواد الخارجة عن مجال القانون من اختصاص السلطة التنظيمية.

  1. علاقة السلطة التنفيذية بالسلطة التشريعية

يمكن للحكومة بعد موافقة رئيس الجمهورية ومن أجل تنفيذ برنامجها أن تستأذن البرلمان في اتخاذ إجراءات تدخل في مجال القانون خلال لأجل مسمى (المادة 60).
وتعتبر مبادرة القوانين من اختصاص الحكومة وأعضاء البرلمان (المادة 61)، والذين يملكان أيضا حق التعديل وذلك طبق شروط خاصة بتعديلات البرلمانيين منصوص عليها في المادة 62.
وبما أن البرلمان يتكون من غرفتين فإن المادة 63 تنص على اعتماد مداولات مشروع القانون أمام أول غرفة أحيل إليها النص المقدم من طرف الحكومة، والغرفة التي أحيل إليها نص مصادق عليه من طرف الغرفة الأخرى تتداول حول النص المحال إليها. وبطلب من الحكومة تصادق الغرفة التي أحيل إليها أي تعديل بتصويت واحد على كل أو جزء النص المعروض للمداولة وتحتفظ فقط بالتعديلات المقترحة أو المقبولة من طرفها (المادة 65).
وطبقا للمادة 66 تنظر الغرفتان في كل مشروع أو اقتراح قانون بغية المصادقة على نص متطابق. وفي حالة خلاف وحينما تعلن الحكومة الاستعجال فإن المشروع يمكن أن يحال بعد قراءة واحدة من طرف كلتا الغرفتين إلى لجنة مشتركة مكلفة باقتراح نص متعلق بالأحكام موضع المداولة. وهذا النص يمكن أن يحال بنفس الطريقة إلى الغرفتين للمصادقة عليه، وفي هذه الحالة لا يقبل أي تعديل. وإذا لم تتوصل اللجنة المشتركة إلى اقتراح نص مشترك أو إذا لم تصادق الغرفتان عليه فللحكومة آنذاك بعد قراءة جديدة من طرف الغرفتين أن تطلب من الجمعية الوطنية البث نهائيا في الأمر.
هذا ويخصص البرلمان جلسة كل أسبوع لأسئلة أعضاء البرلمان وأجوبة الحكومة (المادة 69)، كما أن الحكومة ملزمة بأن تقدم للبرلمان كل إيضاحات تطلب منها بشأن تسييرها ونشاطها (المادة 72)، والوزير الأول يقدم سنويا في دورة نوفمبر تقريرا للجمعية الوطنية حول نشاط الحكومة للسنة المنصرمة والخطوط العامة لبرنامج السنة القادمة (المادة 73).
ويعتبر الوزير الأول مسؤولا بالتضامن مع الوزراء أمام الجمعية الوطنية، وينتج تعريض المسؤولية السياسية للحكومة عن مسألة الثقة وملتمس الرقابة. وإذا حدث تغييران للحكومة في أقل من 36 شهرا على إثر تصويت مناوئ أو ملتمس رقابة، فلرئيس الجمهورية بعد استشارة رئيس الجمعية الوطنية أن يحل هذه الأخيرة.

  1. مواضيع مختلفة

تتوزع باقي المواد في الدستور حول المواضيع التالية:
أ‌.        المعاهدات والاتفاقيات الدولية
فحسب المادة 78 فإن معاهدات السلم والاتحاد ومعاهدات التجارة والمعاهدات والاتفاقيات المتعلقة بالتنظيم الدولي وتلك التي تلزم مالية الدولة والمعاهدات الناسخة لأحكام ذات طابع تشريعي أو المتعلقة بحدود الدولة، لا يمكن التصديق عليها إلا بموجب قانون. كما أن الاستفتاء ضروري عندما يتعلق الأمر بالتنازل عن جزء من الأراضي الإقليمية أو تبديله أو ضمه.
ب‌.    المجلس الدستوري
يتكون المجلس الدستوري من 6 أعضاء، ويعين رئيس الجمهورية ثلاثة أعضاء، ويعين رئيس الجمعية الوطنية اثنين، ويعين رئيس مجلس الشيوخ واحدا؛ وذلك لمدة 9 سنوات غير قابلة للتجديد (على أن يتم تجديد ثلث الأعضاء كل ثلاث سنوات). ولا يجوز أن ينتمي أعضاء المجلس الدستوري إلى الهيئات القيادية للأحزاب السياسية، كما أنهم يتمتعون بالحصانة البرلمانية. ويعين رئيس الجمهورية رئيس المجلس الدستوري من بين الأعضاء المعينين من طرفه. ولرئيس المجلس الدستوري صوت مرجح في حالة التعادل (المادة 81).
وإضافة إلى اختصاصات رئيس المجلس في مجال انتخاب رئيس الجمهورية وانتخاب النواب والشيوخ وإعلان نتائج الاستفتاءات، فإن المجلس الدستوري يبث في القوانين النظامية في إصدارها، والنظم التنفيذية قبل تنفيذها. كذلك يحق لرئيس الجمهورية ولرئيس الجمعية الوطنية ولرئيس مجلس الشيوخ ولثلث نواب الجمعية الوطنية ولثلث أعضاء مجلس الشيوخ، تقديم القانون قبل إصداره للمجلس الدستوري.
ج. السلطة القضائية
وتتلخص المواد الدستورية في هذا المجال في التنصيص على استقلالية القضاء، وإحداث المجلس الأعلى للقضاء الذي يرأسه رئيس الجمهورية.
وقد أشارت المادة 90 إلى أن القاضي لا يخضع إلا للقانون، وهو محمي في إطار مهمته من كل أشكال الضغط التي تمس نزاهة حكمه. كما أن المادة 91 اعتبرت السلطة القضائية حامية الحريات الفردية.
د. المجموعات الإقليمية
وقد حددتها المادة 98 في البلديات والوحدات التي يمنحها القانون هذه الصفة.
ه. مراجعة الدستور
يملك كل من رئيس الجمهورية وأعضاء البرلمان مراجعة الدستور. لكن المشروع المقدم من طرف البرلمانيين لا يناقش إلا إذا وقعه على الأقل ثلث أعضاء إحدى الغرفتين.
ولا يصادق على مشروع المراجعة إلا إذا صوت عليه ثلثا أعضاء الجمعية الوطنية وثلثا أعضاء مجلس الشيوخ لتقديمه للاستفتاء.
ولا يجوز الشروع في أي إجراء يرمي إلى مراجعة الدستور إذا كان يطعن في كيان الدولة أو ينال من حوزة أراضيها أو من الصيغة الجمهورية لنظام الحكم أو من الطابع التعددي للديمقراطية الموريتانية (المادة 99).
وتعتبر مراجعة الدستور نهائية إذا نالت الأغلبية البسيطة من الأصوات المعبر عنها في الاستفتاء (المادة 100)، لكن لا يقدم المشروع للاستفتاء إذا قرر رئيس الجمهورية أن يعرضه على البرلمان مجتمعا في مؤتمر، وفي هذه الحالة لا يصادق على مشروع المراجعة ما لم يحصل على أغلبية ثلاثة أخماس الأصوات المعبر عنها (المادة 101).
و. أحكام انتقالية
نصت المادة 102 على أن إقامة المؤسسات التي ينص عليها الدستور ستتم داخل أجل ثلاثة أشهر على الأكثر بعد إصداره وتنتهي في أجل تسعة أشهر كأقصى حد بعد إصداره.
وقد وردت الإشارة في آخر مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء ورد بها ما يلي:
“وقد قررت اللجنة العسكرية للخلاص الوطني من جهة أخرى أن تتم ترتيبات النصوص المتعلقة بحرية تشكيل الأحزاب السياسية وحرية الصحافة في أسبوعين بعد المصادقة على الدستور وذلك أجل أقصى”.
 ثانيا: الإصلاحات السياسية
لقد سجل المسلسل الديمقراطي في موريتانيا خطوة متقدمة بعد إصدار قانون حول تأسيس الأحزاب السياسية وآخر حول حرية الصحافة.

  1. الأحزاب السياسية

منذ 1961 سيطر حزب الرئيس المختار ولد دادة “حزب الشعب الموريتاني” على الساحة السياسية إلى غاية 1978. وقد تم حله من طرف العسكريين سنة 1979.
وخلال هذه الفترة ظهرت أحزاب شبه سرية مثل “حزب الكادحين” الذي يمثل التيار الشيوعي والمنبثق عن الحركة الديمقراطية التي تأسست سنة 1958، و”حزب البعث الموريتاني” الذي تأسس سنة 1970 والمرتبط بحزب البعث العراقي.
وخلال الثمانينات اشتد التيار الأصولي الذي اختلف أنصاره في التعامل مع النظام مما أدى إلى انقسامهم. فقد حاول ولد هيدا الله تطبيق الشريعة الإسلامية للتغطية على النظام الديكتاتوري بحيث حصل على تأييد بعض الأصوليين.
وهناك أيضا “الجبهة الديمقراطية الموحدة لقوى التغيير” التي اعتقل مؤسسوها في 6 يونيو 1991 إلى أن تم الإفراج عنهم بعفو رئاسي.
وقد قنن قانون الأحزاب الصادر بتاريخ 25 يوليوز 1991 التعددية، ومنع قيام أحزاب دينية أو جهوية أو عرقية، كما منع كل دعاية إلى العنف أو الدعاية المعادية للوحدة الوطنية أو الترابية، كما اشترط على جميع الأحزاب احترام الإسلام والأخلاق الاجتماعية والثقافية في البلاد.
وبعد صدور هذا القانون، تم تأسيس “التجمع من أجل الديمقراطية والوحدة الوطنية” كأول حزب سياسي يحصل على ترخيص قانوني، ثم “الحزب الجمهوري الديمقراطي والاجتماعي”، ثم بعد ذلك تم الترخيص لمجموعة من الأحزاب الأخرى نذكر من بينها: “حزب الاتحاد الشعبي الاجتماعي الديمقراطي”، “حزب اتحاد القوات الديمقراطية”، “حزب العدالة الديمقراطية”، “الحزب الموريتاني من أجل التجديد”،”حزب الطليعة الوطني”، “حزب التحالف الشعبي التقدمي”، حزب الحرية والمساواة والعدالة”،…
إلا أنه لم يتم الترخيص لحزب الأمة ذي التوجه الإسلامي، الشيء الذي دفع أنصاره إلى البحث عن طرق أخرى للعمل داخل التنظيمات القانونية.

  1. حرية الصحافة

لم تكن موريتانيا تعرف خلال الحكم العسكري إلا جريدة يومية واحدة ناطقة باسم الهيئة الحاكمة التي احتكرت كذلك كل وسائل الإعلام وقيدت حرية التعبير. ومع صدور قانون الصحافة في نهاية يوليوز 1991 ظهرت أزيد من 15 جريدة في بضعة أيام، كما نظمت الصحافة الموريتانية نفسها في شكل جمعية وطنية لا يخفي العديد من مسؤوليها تعاطفهم مع المعارضة.

  1. النظام الانتخابي

لقد صادقت اللجنة العسكرية الحاكمة في 07 أكتوبر 1991 على القانون الأساسي الجديد المنظم للانتخابات الرئاسية والتشريعية.
ونشير إلى أنه فيما يخص الانتخابات الرئاسية نص القانون على أن يحصل المرشح على توقيع 30 رئيس بلدية من أصل 208 في البلاد أو 400 مستشار بلدي ليصبح مقبولا.
ولقد أثار هذا القانون جدلا سياسيا واسعا لدى أحزاب المعارضة التي اعتبرته “غير واقعي”، وطالبت بمراجعته. فقد وجه السيد “أحمد ولد سيدي بابا” رئيس “التجمع من أجل الديمقراطية والوحدة” رسالة مفتوحة إلى الرئيس معاوية ذكر فيها أن شرط مساندة 30 من رؤساء البلديات أو 400 مستشار بلدي غير واقعي بالنظر إلى العدد الضئيل للسكان الذين لا يتجاوزون مليوني نسمة وأنه من بين 208 رئيس جماعة في موريتانيا هناك 200 منهم أعضاء في الحزب الجمهوري (حزب الرئيس معاوية)، كما حذر من مخاطر التقسيم الانتخابي الذي من شأنه إقرار الهيمنة القبلية أو الجهوية. كما أن أحزاب أخرى عارضت هذا القانون إما على أساس ضرورة تشكيل حكومة انتقالية مستقلة وإما على أساس تخفيض السلم الانتخابي من21 إلى 18 سنة. وقد تراجع النظام عن بعض الإجراءات حيث تم تخفيض السن الانتخابي إلى 18 سنة، كما أن المرشح للرئاسة أصبح في حاجة إلى تزكية 50 مستشارا بلديا يقطن منهم 5 في نفس المنطقة.

  1. الانتخابات الرئاسية

أجريت الانتخابات الرئاسية في 24 يناير 1994 للبث فيما بين المرشحين الأربعة:
–        الرئيس الحالي العقيد سيدي أحمد معاوية ولد الطايع الذي قاد حماته الانتخابية تحت شعار “التغيير في ظل الاستقرار”، وبساندة عدة أحزاب ومؤسسة الجيش.
–        أحمد ولد دادة وزير المالية في عهد حكم أخيه المختار، الذي قاد حملته الانتخابية تحت شعار “العهد الجديد”، والذي سانده اتحاد القوى الديمقراطية وتيار من حزب الأمة المحظور، وقد ركز على الوضعية الاقتصادية والسياسية المزرية للبلاد وضرورة إشاعة الإسلام.
–        محمد محمود ولد ماه وهو عمدة نواكشوط ومن مناصري الازدواجية اللغوية الفرنسية والعربية).
–        مصطفى ولد السالك، مدبر الانقلاب ضد المختار ولد دادة، والذي أزيح عن الرئاسة سنة 1980، وقد التزم في حملته بتطبيق الشريعة الإسلامية.
وبعد الإعلان عن النتائج لصالح الرئيس معاوية بنسبة 61.2٪ في الدور الأول وحصول مرشح المعارضة أحمد ولد دادة على 33٪ من الأصوات، أعلن هذا الأخير رفضه لهذه النتيجة مما جعل إعلان النتائج يتم وسط مظاهرا واصطدامات بين أنصار المعارضة وقوات الأمن.

  1. الانتخابات التشريعية

جرت هذه الانتخابات التشريعية الأولى في مارس 1992 في غياب المعارضة التي طالبت بإدخال بعض التعديلات على القانون الانتخابي.
إن رفض النظام الاستجابة لمطالب المعارضة دفعها إلى مقاطعة الانتخابات لتأكيد احتجاجها على ما عرفته الانتخابات الرئاسية من خروقات وتزوير.
وقد أدى غياب 6 أحزاب من المعارضة إلى فسح مجال التنافس للأحزاب الأخرى على 79 مقعدا. وقد كانت أغلبية هذه المقاعد من نصيب الحزب الحاكم (الحزب الجمهوري الديمقراطي والاجتماعي)، والذي حصل على 52 مقعدا من أصل 62 التي تم الفوز بها في الدور الأول. ولم يبق في التنافس للدور الثاني إلا 17 مقعدا حصل منها الحزب الحاكم على 13 مقعدا ليصل مجموع ما حصل عليه إلى 65 مقعدا من أصل 79، وحصل حزب التجمع الديمقراطي والتحالف الشعبي على مقعدين، والباقي للمستقلين (أغلبهم من حزب الرئيس الذين انشقوا عنه).
نموذج ناجح من التجارب البرلمانية: الهند
تأثرت الهند بالنظام البرلماني البريطاني، واقتبست الكثير من مؤسساته بحكم أن شبه القارة الهندية خضع للسيطرة البريطانية.
وجريا على سنة الاستعمار البريطاني، فقد عرفت الهند الانتخابات الأولى في ظل السيطرة البريطانية سنة 1937 أي عشر سنوات قبل استقلالها. وهي انتخابات ساهم فيها واكتسحها حزب التحرير الهندي المعروف باسم حزب المؤتمر.
ويجمع الفقهاء الدستوريون والمحللون السياسيون على أن الهند تشكل بتبنيها النظام البرلماني الديمقراطي حالة خاصة من بين العالم الثالث الذي لا يزال يبحث عن نفسه في ظل أنظمة ديمقراطية محدودة المدى. فالنظام السياسي الهندي بين طيلة ثلاثين سنة من عهد الاستقلال، وبالضبط منذ 15 غشت 1947، قابليته لتبني الديمقراطية البرلمانية البريطانية وقدرته على استيعاب مؤسساتها وتطبيقها تطبيقا عمليا محكما دون أن تهدده من الداخل محاولات للإطاحة به، ودون أن يمس بأسسه، ودون انحراف الحاكمين أو نزوعهم إلى ممارسة السلطة والاستبداد.
ويشكل النظام السياسي الهندي حالة متميزة أيضا، من حيث أنه استطاع تطبيق نظام الديمقراطية البرلمانية، خارج ثنائية الحزب؛ وبالرغم من أنه يأخذ في الانتخابات بطريق الاقتراع العام المباشر بالأغلبية الاسمية في دورة واحدة. ذلك لأن قوة الحزب السائد (حزب المؤتمر) التي يستمدها من مواكبته لموجة التحرير منذ نشأته أثرت على الاقتراع ووجهت نتائجه بدلا من أن يتأثر هذا الحزب بطريقة الاقتراع كما هو الغالب بالنسبة لما يسجل في الأقطار التي تأخذ بطريقة الاقتراع بالأغلبية الاسمية في دورة واحدة والتي تنتج عنها ثنائية حزبية.
ويشكل النظام الهندي استثناء آخر بسبب نجاحه واستمراره بالرغم من اتساع رقعة شبه القارة الهندية التي يقوم فيها وكثافة السكان واختلافاتهم العرقية والمذهبية والدينية وتفاوت مستوياتهم الفكرية والاجتماعية والاقتصادية.
ولكن الذي ساعد جمع شتات الهند هو من جهة، وجود حزب سائد ذي تنظيم محكم وقدرة باهرة على تأطير الجماهير، ومن جهة أخرى اهتداء قادة الهند إلى إقامة اتحاد فدرالي من نوع خاص استوعب مختلف الولايات الشاسعة بمؤسساته الديمقراطية على تمكين ممثليها من المشاركة السياسية على الصعيد الفدرالي.
الحزب السائد
لقد تأسس حزب المؤتمر في مدينة بومباي في دجنبر 1885. ومنذ ذلك الحين وهو يعايش مختلف التطورات التي طرأت على المجتمع الهندي ويتفاعل معها بل ويؤثر فيها. ومن حركة إصلاح ومطالب محدودة تحول إلى حركة تحرير منظمة جماهيرية فرضت الاستقلال بديلا للنظام الاستعماري. ولعب دورا طليعيا في تثبيت الشخصية الهندية وفرض التمثيل الشعبي داخل المؤسسات تحت شعار: تهنيد البلاد.
وفي سنة 1927 أعلن مطلب استقلال الهند وتخلى عن الاكتفاء بالإصلاح والمطالبة بالحكم الذاتي. وحول الوحدة والاستقلال عبأ الجماهير مستوعبا بذلك قوات سياسية متناقضة تضم العصريين والتقليديين واليمينيين واليساريين على السواء.
ورغم انفصال الباكستان منذ 1947 وتمتعها بالاستقلال، عرف هذا الحزب كيف يحول نفسه إلى حزب حكم وكيف يضم حوله شتات الأنصار بما فيهم الزعماء المسلمون الذين يمثلون الأقلية المسلمة.
وتحت قيادات مرموقة كان من أبرزها المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو وأنديرا غاندي، ترسخ حزب المؤتمر في الحكم طيلة عهد الاستقلال باستثناء فترة انحسار عرفها في انتخابات 1969 إثر انشقاق في صفوفه. ولم يلبث بعدها أن استعاد قوته في انتخابات 1972 مكتسحا أغلبية مقاعد المجالس.
وتوجد أمام هذا الحزب أحزاب أخرى كالحزب الاشتراكي وحزب الحرية وحزبين شيوعيين أحدهما معتدل، بالإضافة إلى تكتلات ضعيفة أخرى. ولكن حزب المؤتمر هو الذي يظفر في الانتخابات بالأغلبية الواسعة التي مكنته من تسيير دفة الحكم لحد اليوم.
التنظيم الفدرالي
وهو عامل آخر بالغ الأثر في ترسيخ الوحدة. فقيام الاتحاد الهندي من 29 ولاية ممثلة على صعيد الحكم المركزي وممارسة نوع محدود من الحكم الذاتي جنب البلاد مغامرات الانفصال والتمزق.
وقد جاء الدستور الهندي المعلن عنه في 26 يناير 1950 يحدد اختصاصات الولايات الفدرالية, ويقسمها إلى أربعة أنواع: فهناك مواد تدخل في اختصاصات الولايات, وثانية تدخل في اختصاصات الدولة الفدرالية, وثالثة مشتركة, ورابعة تصبح في حالة الاستعجال من اختصاصات الدولة الفدرالية بينما تكون في الحالات العادية من اختصاص الولايات, ولا يهدف جميع ذلك إلا إلى توسيع مجال الحكم المركزي على حساب الحكم المحلي.
المؤسسات
إن قيام الاتحاد الفدرالي في الهند طبع المؤسسات بأشكال النظام الأمريكي، وإن خضعت علاقاتها على الصعيد المركزي إلى النظام البرلماني البريطاني. إننا نجد في أسفل هذا النظام على صعيد الولايات مؤسسات سياسية منتخبة تتمتع باختصاصات محدودة لممارسة السلطات التقنية التي يحتاج إليها الحكم المحلي. ونجد على الصعيد المركزي مؤسسات مماثلة تمثل فيها مؤسسات الولايات. أي أن نظام الهند أخذ هو الآخر بازدواجية حق الحكم الذاتي وحق المشاركة كالنظام الأمريكي، ولكنه أخذ في علاقات مؤسسات الحكم بعدم مسؤولية رئيس الدولة وممارسة سلطات محدودة إن لم مركزية، مع وجود زعيم أغلبية المجلس على رأس الحكومة كوزير أول له نفس اختصاصات الوزير الأول في النظام البريطاني، وحكومته مسؤولة أمام المجلس ويملك حق الحل.
إن الولايات تحكم بمجالسها المنتخبة التي قد تتكون على حسب الولايات من مجلس أو مجلسين، ويقوم على رأس كل واحدة منها حاكم يعينه رئيس الجمهورية أو ينتخب في بعض الولايات ويمثل رئيس الجمهورية لدى حكومة الولايات، بينما ينتخب على رأس كل ولاية وزير أول هو الذي يمارس السلطة تحت مراقبة المجالس.
أما على الصعيد الفدرالي، فيوجد مجلسان: مجلس الشعب ومجلس الولايات. ويضم مجلس الشعب 500 عضوا منتخبا لمدة خمس سنوات بالاقتراع العام المباشر على حسب نسبة السكان وبالأغلبية في دورة واحدة، بينما يتركب مجلس الولايات من 228 عضوا منتخبين من المجالس التشريعية المحلية لمدة ست سنوات يجدد ثلثهم كل سنتين. ويسمي رئيس الجمهورية في هذا المجلس –باقتراح من الوزير الأول- اثني عشر عضوا يختارون من بين الشخصيات المرموقة في عالم الفكر.
ولا يتساوى المجلسان في الاختصاصات، فلمجلس الشعب رجحان على مجلس الولايات في التشريعات المالية، بينما يملك مجلس الولايا الصلاحية لتخويل الحكومة الفدرالية حق التشريع في الميادين التي من اختصاصات الولايات.
ومن البرلمان الفدرالي (أي المجلسين) والمجالس التشريعية بالولايات يُنتخَب رئيس الجمهورية، ونائبه الذي يصبح رئيس مجلس الولايات ويخلف الرئيس مؤقتا عند شغور منصبه، كما هو الأمر في النظام الرئاسي الأمريكي.
أما الوزير الأول فهو زعيم أغلبية مجلس الشعب دائما وزعيم حزب المؤتمر في الغالب، لأن هذا الحزب يظفر عادة بنسبة الثلثين.
وتضم الحكومة في العادة بين خمسين و ستين عضوا يراعى في تعيينهم تمثيل الولايات، والأقليات الاجتماعية المختلفة السلالات.
وتختصر الهيأة الوزارية في مكتب الحكومة (CABINET)، ولابد أن يكون جميع الوزراء برلمانيين، وهم مسؤولين فرادى وجماعات أمام مجلس الشعب الذي لا يلجأ الوزير الأول إلى حله إلا ناذرا لتوفره على أغلبية تابعة للحكومة.
 نموذج عن نظام الحزب المسيطر: حالة المكسيك
حصلت المكسيك على استقلالها سنة 1821، وقد تم إعلان النظام الجمهوري سنة 1822. وفي سنة 1824 تم اعتماد الدستور الأول الذي استمر العمل به إلى غاية 1857 حيث تم إعلان الدستور الثاني الذي تم تطبيقه إلى غاية 1917: تاريخ الدستور الحالي.
إننا لا ندرس منا النظام السياسي المكسيكي بمتلف مؤسساته، ولكننا نورده كمثال عن الدول التي عرفت نظام الحزب المسيطر أو المهيمن.
ففي سنة 1928، تأسس في المكسيك لأول مرة حزب قوي باسم الحزب الوطني الثوري أخذ بعد بضع سنوات اسم الحزب الثوري المكسيكي، ثم حمل فيما بعد وإلى اليوم اسم الحزب الثوري التأسيسي (أو الدستوري).
ويلعب الحزب في تأطير المؤسسات والمواطنين حول النظام، الدور الأساسي بفضل التنظيم الهرمي والتمركز في الأعلى. وتمتد تنظيماته عبر البلديات والجهات والولايات وعلى الصعيد الوطني.
وتقوم على قمته ثلاثة أجهزة وهي: المؤتمر الوطني، والمجلس الوطني، واللجنة التنفيذية الوطنية، بينما توجد في قاعدته لجان تنفيذية تعمل في الولايات التسعة والعشرين وداخل المقاطعتين المؤلفتين للاتحاد.
وتطبيقا للتمركز فإن القيادة العليا الوطنية هي التي تعين أطر الحزب الدائمة في مختلف المستويات مما يجعل من الحزب أداة طيعة في بد قادته على الصعيد الوطني.
وقد رسم الحزب لنفسه منذ البداية مهمة دعم  الوحدة الوطنية بتكتيل القوات السياسية والاجتماعية في حظيرته، حيث يلتقي الفلاحون مع العمال، والتجار مع رجال الصناعة ومحترفي المهن الحرة. وهو يستوعب هذه القطاعات ويكتلها في نقابات ومنظمات اجتماعية ترتبط بالحزب ارتباطا عضويا.
ويهتم الحزب بتنويع تمثيل هذه العناصر في المؤسسات التمثيلية وتزكية ترشيحها بنسب مطابقة للواقع، في إطار الخط السياسي والاجتماعي الذي يختاره الحزب. وهكذا تقول الإحصائيات التي أعلنت سنة 1967 أن مجلس النواب كان يضم 54 عضوا يمثلون نقابات الفلاحين، و31 عضوا لنقابات العمال، و92 ممثلا للقطاعات الشعبية الأخرى.
وبجانب الحزب الحاكم هذا، توجد تكتلات منها في الترعة اليسارية:الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي ونقابات العمال المستقلة، وليس بينها انسجام. فقد مرت بانشقاقات على ضعفها. ويتمثل اليمين في حزب العمل الوطني والاتحاد الوطني، وهما يعارضان برامج الإصلاح التي يقررها الحزب الحاكم ولكنهما لا يحصلان إلا على نسبة ضعيفة من الأصوات في انتخابات البرلمان وليس لهما تمثيل داخل الحكومة.
إن الحزب الحاكم يعتبر حزبا سائدا حسب تصنيفات الأحزاب، ولكن ليس من نوع الحزب السائد في الهند مثلا لاختلاف ظروف وشكل الحكم في البلدين.
إن رئيس الدولة يصل إلى الرئاسة بعد مرحلتين: ترشيحه من الحزب وانتخابه من الأمة. وتتيح فترة انتخابه كل ست سنوات الفرصة الوحيدة لطرح الاختيارات السياسية الكبرى ومناقشتها على الصعيدين المحلي والوطني.
والواقع أن مرشح الحزب يعتبر لامحالة منتخبا من الأمة بمجرد إعلان الحزب عن تزكيته وترشيحه.
ولأنه أصبح رئيس الحزب لمدة النيابة التشريعية، فإن الحزب يختاره بتزكية رئيس الدولة من أشد العناصر ولاء للحزب وأبرزها شخصية من بين أدوار ودواليب الحكم بنزاهة واقتدار بجانب الرؤساء السابقين.
ويمر الترشيح بمرحلة قبول ندوة الحزب الوطنية للمرشح ثم يمر المرشح للمعركة الانتخابية معززا سلفا بسند الحزب ليرشح البرنامج السياسي الذي يعتزم تطبيقه. ويتوج الترشيح بالانتخاب الذي يصبح في هذا الوضع عملية تزكية واسعة النطاق.

المراجع
 لإنجاز هذه الملخصات، تم الاعتماد على المراجع التالية بصفة أساسية:
¬          أندريه هوريو، القانون الدستوري والمؤسسات الدستورية، الجزء الأمل والثاني، ترجمة علي مقلد وآخرون، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية، 1977.
¬          عبد الهادي بوطالب، النظم السياسية العالمية المعاصرة، دار الكتاب، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1981.
¬          عبد الهادي بوطالب، النظم السياسية في العالم الثالث، مطبعة المعارف الجديد، الرباط، 1993.
 كما تمت الاستعانة بالمراجع التالية:
¬          الدكتور عبد الرحمن القادري، المؤسسات الدستورية والقانون الدستوري، الجزء الأول، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1984.
¬          بن يونس المرزوقي، ندوة أنوال بوجدة، التجربة الديمقراطية بالجزائر، الأعداد 683 و684 و685، فبراير 1992.
¬          السياسة الدولية، العدد 57،يوليوز 1979.
¬          الديمقراطية، الكتاب الأول، ديسمبر 1991.
¬   Le grand Maghreb, Etudes réunies par Alain Claisse et Gérard Conac, Economica, 1988.
¬   Marcel Piquemal-Pastré, La république islamique de Mauritanie, Editions Berger Levbault, 1989.

¬          غي دي بوشير، مفاتيح لأجل العالم الثالث، ترجمة فؤاد راجي المراد، دار الحقيقة، بيروت، الطبعة الأولى، 1974.
¬          الدكتور سمير أمين، التراكم على الصعيد العالمي (نقد نظرية التخلف)، ترجمة حسن قبيسي، دار ابن خلدون، بيروت.
¬          الدكتور صموئيل عبود، خمس مشكلات أساسية لعالم متخلف، دار الحداثة، بيروت، الطبعة الأولى، 1984.
¬          موسى الزعبي، العالم الثالث، حقائق وتناقضات، دار الشادي، دمشق، الطبعة الأولى، 1990.

أنقر على الرابط أدناه لتحميل الموضوع بصيغة pdf

إضغط لتحميل محاضرات في الأنظمة الدستورية لفائدة طلبة الفصل الثالث

انتهى لاتنسى عزيزي القارئ أن حب المعرفة هبة تنموا بالمشاركة ،لا تنسى مشاركة الموضوع مع أصدقائك فالذال على الخير كفاعله ..

زر الذهاب إلى الأعلى