إعادة النظر في الالتزامات المرهقة”

رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص

إعادة النظر في الالتزامات المرهقة”

من إعداد لطيفة وراوي 
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمــــة:

إن إعادة النظر في العقود بسبب تغير الظروف يمكن تعريفها بصورة أولية على أنها مراجعة الالتزامات العقدية بإرادة خارجية على التعاقد، تتولى فرض التزامات غير إرادية في مكان الالتزامات الإرادية المتفق عليها، تجد مصدرها في إرادة القضاء       أو المشرع. فهي نظرية تذهب في مقابل العقد وتخالف محتواه، وهي رغم تعارضها مع المبادئ التقليدية التي تسود مؤسسة التعاقد نظرية شاملة أخذ بها المشرع المدني في حالات متعددة، كما اعتمدها القضاء في بعض تطبيقاته العملية عند اصطدامه مع الواقع، فكان في عمله مشرعا في تلك الحالات الخاصة والمحددة.
فإعادة النظر في العقود قد برزت في التشريع المدني من خلال نصوص متفرقة كان الدافع إليها أولا: السياسية التشريعية التي تقوم على إرضاء حاجات معينة أو تحقيق مصلحة عليا اجتماعية واقتصادية، وثانيا مبدأ العدل الذي يتحقق بإقامة الإنصاف والعدالة كأساس في التعامل، والقضاء بتأثير من النزعات الإنسانية وبعض المبادئ غير العقدية لم يتوان عن مراجعة العقد وفرض الالتزامات على الإرادة، وإن كان يعتمد في حلوله أسلوبا يتولى إخفاء تلك العملية تحت ستار تفسير الإرادة أو إعمال القواعد المدنية، لما تنطوي عليه من معالجة للعقد بإعادته إلى وضعه الصحيح، وهو ما يقبله المنطق وما لا تقبله الذهنية التقليدية في التشريع المدني.
وهذه النظرية ليست في حقيقتها القانونية إلا صورة من صور إعادة النظر في  العقود، تهدف إلى تعديل العقد برد توازنه الذي فقد إلى حده المعقول.
فهي تفترض، كما يقول الأستاذ كاربونييه[1]، عقدا يتراخى أجل تنفيذه في الزمن، تحددت التزاماته على أساس الظروف الاقتصادية[2] المحيطة وقت التعاقد. إلا أن تلك الظروف تتغير تغيرا جوهريا أثناء العمل بذلك العقد بفعل عوامل غير متوقعة كالحروب والأزمات  الاقتصادية، مما يجعل تنفيذه أكثر إرهاقا لأحد المتعاقدين في مصلحة المتعاقد الآخر، ويحمل على البحث في مسألة مراجعة العقد لرد توازنه بشكله التقريبي. فنظرية تغير الظروف إذن، لا تطرح عند النظرة الموضوعية إلا من هذه الزاوية: زاوية مراجعة العقد بإرادة خارجية.

(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});

إن هذا البحث ينحصر في دراسة هذه النظرية (إعادة النظر في الالتزامات المرهقة) والسبب في اختيار هذه الدراسة يتمثل في أمرين: 
الأمر الأول: أن البحث في نظرية إعادة النظر في العقود بسبب الظروف الطارئة يمكن من إلقاء الضوء على وضعيتين: إعادة النظر في العقود والظروف الطارئة، وفي ذلك فائدة قانونية وعملية رئيسية، فإعادة النظر في العقود  أضحت نظرية ملحة على ضوء التقلبات المستجدة في الظروف الاقتصادية، تنعكس بنتائجها على التعامل وعلى العقود بصفة خاصة[3]، والظروف الطارئة أضحت بتأثير مختلف العوامل الاقتصادية والطبيعية والإدارية المؤثر الأساسي في التوازن العقدي، تستدعي على وجه الضرورة تدخلا خارجيا في التعاقد، تبعا لأهمية ما تخلفه من اختلال غير مألوف، يترك آثارا على الأوضاع الخاصة للمدنيين والعامة للاقتصاد.   
الأمر الثاني: يتمثل في كون هذه الدراسة تحمل على معالجة النتائج السلبية التي تخلفها الظروف الطارئة في التعامل، والبحث عن وسيلة علاجية لتلك الحالة، بحث في مختلف القواعد والمبادئ العقدية وغير العقدية التي قد تعتمد كسبب يبرر التعديل العقدي تحقيقا للتوازن التقريبي وإن لم يكن الكلي بين الالتزامات سواء التعاقدية أو السابقة على التعاقد، وقد يكمن وراء تلك القواعد مبدأ جوهري يكون السبب الموجه في اعتماد النظرية ولو كان ذلك بالتجاوز على العقد أو الإرادة التي أوجدته.
لقد حاول البعض اعتبار النظرية من احتكار قانون معين: هو القانون الإداري، تزيد في تعميق الطابع المميز للعقد الإداري وترسيخه، ولكن هل هذا الاحتكار هو مطلق يستبعد بنتائجه كل تطبيق للنظرية في خارج الإطار الإداري من التعاقد؟ وهل الطبيعة القانونية لهذه النظرية تجعل من الأمور المبدئية رفض كل  إعمال للنظرية على العقود المدنية والخاصة من خارج الحالات المنصوص عليها قانونا؟ وهل هذه النظرية في إعمالها لا تشكل نواة لترسيخ فرع جديد في القانون أخذ في البروز، فرضته التطورات المستجدة؟
للإجابة على ذلك، سندرس هذه النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – من ناحيتين: ناحية المفهوم، فنبين في فصل أول مفهوم كل من إعادة النظر في العقود والظروف الطارئة، ومن ناحية التطبيق فنبرز في فصل ثان لهذه النظرية في التشريع المدني من تطبيق. ولكن قبل ذلك لابد من تمهيد نعرض من خلاله إلى النظرية في واقعها التاريخي.
فخطة البحث تتحدد إذن كما يلي:
– النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – تاريخها
                         (الفصل التمهيدي).
– النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – كمفهوم
                         (الفصل الأول).
– النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – كتطبيق   
                         (الفصل الثاني)


(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});

الفصــل التمهيــديإعادة النظر في  العقود بسبب الظروف الطارئة تطورها التاريخي
إن مسألة التدخل القضائي في العقود عند حدوث ظروف طارئة هي مسألة ترتبط بتاريخ القانون نفسه، وتتصل على حد تعبير الأستاذ ترمانيني ” بتاريخ الالتزام وتطور مفهومه وتأثير مبدإ العدالة فيه إذ أن النظرية هي اثر من آثار هذا التطور ونتيجة لتغليب مبدإ  العدالة على قاعدة شريعة العقد، لأنها ترمي إلى إعادة التعادل في الالتزام”[4].
فالنظرية قد عرفت في أواخر العهد الروماني، وتكرست بوضوح في الشرائع والأنظمة السماوية فأخذت بها المسيحية، كما أكدتها الشريعة الإسلامية ولكن ليس كنظرية عامة ومستقلة وإنما كتطبيقات فرعية ومحددة[5]. وقد بقيت معالم النظرية بارزة حتى القرن التاسع عشر في أوروبا، إذ اختفت تماما أمام المبادئ التي أطلقتها الثورة الفرنسية والتي كان من آثارها حركة التقنين الجديد، وقيامه على الإرادة وسلطانها. ولم تعد إلى الظهور إلا في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر في القوانين العامة وعلى الأخص القانون الإداري[6] وإن كان ظهورها قد اتخذ طابعا مستقلا، كما أنها اعتمدت أخيرا في بعض التشريعات الحديثة.
 أما في البلاد العربية فقد بقيت النظرية معروفة في بعض صورها، طالما كان العمل بالشريعة الإسلامية كقانون منظم للعلاقات قائما، ولكن بانقضاء العمل بتلك الشريعة ظهرت التقنينات العربية الحديثة متخذة بالنسبة للنظرية اتجاهين: الأول سلبي يرفض النظرية كمنطلق لإعطاء القضاء سلطة التعديل، والثاني إيجابي يخول القضاء تلك السلطة في أقصى وجوهها[7].             
من هنا تتحدد الدراسة التاريخية للنظرية بمرحلتين:
             مرحلة ما قبل صدور التقنينات الحديثة ( الفرع ألأول)
             ومرحلة ما بعد صدور التقنينات الحديثة ( الفرع الثاني)

(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});

الفرع الأول: مرحلة ما قبل صدور التقنينات الحديثة
إن هذه المرحلة تمتد في جذورها إلى القانون الروماني وتتناول: مرحلة القانون الروماني ومرحلة الشرائع السماوية: القانون الكنسي والشريعة الإسلامية.
المبحث الأول: مرحلة القانون الروماني
إن النظرية رغم أنها قد بقيت غريبة عن التقنية القانونية عند الرومان في أول          عهدها، إلا أنها قد عرفت طريقها إلى الذهنية الرومانية في عهدها الأخير.
1- النظرية في مرحلة التقنين الروماني الأولي:
        إن التعديل القضائي للعقد عند حدوث ظروف طارئة أخلت باقتصادياتها، وبقي غريبا عن التشريع الروماني ونظرته الأولى إلى العقد فالقاعدة العامة التي خضع لها العقد في المرحلة الرومانية الأولى هي أن نشأة الالتزام وآثاره رهين باستكمال المراسم الشكلية المنصوص عنها دون النظر إلى رضا الطرفين أو إلى غاية العقد أو سبب الالتزام.
فالأصل ألا ينظر إلا إلى الشكل وليس إلى العقد أو ظروفه وما قد يطرأ عليها من مؤثرات خارجية قد تخل بتوازنه. فالعقد الذي اكتمل شكله وأسسه ينبغي أن ينفذ بصورة موضوعية كما ارتأته أطرافه لا كما يرتئيه القضاء.
2- النظرية والحد من القواعد الشكلية:     
إن الحد من القاعدة الشكلية عند الرومان قد برزت من زاويتين: الأولى عند بروز مبدإ الرضا كأساس في بعض العقود ثم كمبدأ يسود التعاقد، والثانية عند ظهور المبادئ الإنسانية من إنصاف وعدالة كعامل مخفف لقاعدة الشكل. وقد كان لذلك أثره بالنسبة للنظرية. وقد برزت في آراء بعض الفقهاء والفلاسفة الرومان، كما أيدتها بعض القرارات البريتورية.
فالفقه قد لعب دورا رئيسيا في وضع نواة للنظرية، وقد افترض بقاء العقد على الحالة التي انعقد في ظلها، وذلك كشرط أساسي في التعاقد، وكل تغير في تلك الظروف يستتبع التغيير في مضمون العقد إعمالا لذلك الشرط. فهم يرون بأن أهمية العقود هي لوقت انعقاده لا لوقت تنفيذه فتؤخذ بالاعتبار الظروف التي سادت في ذلك الوقت.وقد أوضح الفقيه افريكانوس Africanus  ما يترتب على تلك النتيجة فاعتبر أن كل التزام يحتوي بندا ضمنيا يقضي ببقاء ظروف الانعقاد على حالها لبقاء العقد على حاله وكل تغيير جوهري يقع على تلك الظروف يرتب تغييرا في بنود العقد تبعا لذلك كما أن الفلسفة الرومانية قد توصلت إلى ما توصل إليه الفقه من رفض لكل إلزام بتنفيذ عقد قد تغيرت ظروف انعقاده فكل شيء بنظر شيشرون وسيناك Cicéro et Sénéque ينبغي أن يبقى على حاله[8]، كما كان في وقت الارتباط للإلزام بمضمونه[9]. ولكن الإحاطة الكاملة بالطبيعة القانونية للتعديل العقدي عند تغير الأوضاع، قد توضحت في التطبيقات العملية للنظرية التي ظهرت في القانون البريتوري – وهو مجموعة القواعد التي ابتكرها الحكام Preteurs وحكام الأقاليم وحكام الأسواق. فالبريتور قد لحظ الدور المناقض للقوانين وللقواعد الثابتة الذي تلعبه بعض النظريات التي تفرضها مبادئ العدالة والإنصاف. ولكن إزاء ذلك التعارض بين الحل الذي يفرضه القانون، والحل الذي يفرضه الضمير ، كان البريتور الروماني يترك لرأيه سلطة الاختيار: وقد كان يختار الحل الذي يمليه ضميره بمعزل عما تفرضه النصوص والقواعد[10].
وفي نطاق العقود فإن الحل الذي اختاره البريتور في بعض الحالات الخاصة المعروضة عليه، هو الحل الذي يتوافق مع حسن النية عند المتعاقدين والنفع العام للجماعة. ومن تطبيقات هذا الحل: إعادة النظر في العقد عند تغير أوضاعه الأساسية للظروف الطارئة.


(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});

المبحث الثاني: مرحلة الشرائع السماوية
المقصود بالشرائع السماوية نظامان: نظام كنسي ونظام إسلامي، وسنبين موقف كل نظام من هذه الأنظمة في مطلبين:
المطلب الأول: مرحلة القانون الكنسي
إن النظرية، قد برزت إذن في الذهنية الرومانية من خلال البند بتغير الأوضاعRebus Sic Stantibus  وهذه الصورة قد تناولها الكنيسيون في القرنين الثاني والثالث عشر، ولكنهم أضافوا إليها سببا آخر، هو محاربة الغش في مختلف وجوهه، وقت العقد أو وقت تنفيذه[11].
وقد توسع الفقيه كراسيان Cratiens  في كتابهDecretum  في شرح أفكار شيشرون وسنيك، وأكد النتيجة العادلة التي توصلا إليها، كما تابع الفقيهان دي برويسيا Bartholomus de Brescia والقديس سان توما الأكويني Saint.T. d’Aquin في كتابه  Lumina Théologicaالطريق ذاته[12]. فتنفيذ العقد بنظرهما هو تنفيذ للعهود، وتنفيذ العهود هو أمر تفرضه الأخلاق المسيحية ومبادئ العدالة، ولكن العدالة تزول بوجود الغبن الظاهر المنبثق عن كل اختلال جوهري في التوازن العقدي. وطرود أحداثا إنسانية، وما تخلفه من نتائج، تؤدي إلى إزالة كل قرينة بعدالة تلك العهود، مما يفرض التعديل العقدي احتراما لتلك العدالة على نفس المستوى الذي يفرضه احترام الالتزام نفسه[13].
والعقد عند الكنسيين ينبغي ألا يكون وسيلة لإخفاء أي ظلم أو إساءة Injustice أو أن يؤدي إلى استغلال الضعيف أو الجاهل، أو أن يكون مفيدا ومربحا لأحد أطرافه على حساب الآخرين، فالتزام المدين بأن يقوم بتحقيق ما تعهد به يقابله التزام الدائن بأن يحقق ما تقضيه العدالة “فالإنسان العادل هو من لا يضع أمامه تحقيق مآربه الخاصة ولو على أساس التضحية بمصالح الآخرين”[14] .
إن النتيجة التي تفرضها هذه النظرة هي في إقامة العقد على أسس من التوازن والمساواة بين التزاماته، فالبائع لا يستطيع أن يطالب المشتري على أساس العقد فقط، وإنما على أساس العقد مربوطا ومتصلا بالثمن العادل. فالثمن في العقد قد يتفق مع ” الثمن العادل” وقد لا يتفق. وفي هذه الحالة تكون كل مطالبة لا تحترم ذلك المبدأ هي تكريس للتغابن والاستغلال، وتشكل في حقيقتها نوعا من الإثراء غير المشروع، وخروجا لا يغتفر على العلاقة المثالية بين الإنسان وخالقه[15].
ولا يلتفت إلى الوقت الذي حصل فيه التغابن: في وقت العقد أو في وقت لاحق. فالمهم هو الجوهر وليس الإطار، فالغبن كما يحصل وقت التعاقد قد يحصل وبصورة أشد وقت التنفيذ، فإبقاء الحالة على ما كانت عليه وقت التعاقد هو مبدأ تكرسه العدالة التوزيعية وأخلاق الكنيسة[16].
لقد استقرت هذه النظرة الكنسية عند البارتوليين: ففي كل عقد توجد قاعدة ضمنية تعلق مصيره على بقاء ذات الشروط التي رافقت تكوينه. كما أنها استقرت في القانون الفرنسي  القديم، ولم يجد فقهاؤه سببا لبحثها، ولم يتناولها الفقه بالدراسة إلا في أواخر القرن السادس عشر بواسطة فقيهين كان لهما دور في تطويرها، هما أندريه إليكا واندريه يتراكو.
كما أنها لم تظهر إلا في حكم واحد صادر عن برلمان فرينوبلParlement de Grenoble بتاريخ 22 آذار سنة 1634، أيد مطالب صاحب مخبزة بتعديل أسعار الخبر الملزم به تجاه زبنائه لتغيير الأسعار التي كانت ترعاها وقت إنشاء التزامه[17].
فكانت هذه هي الفترة الأخيرة السابقة للتقنين الفرنسي التي يمكن أن نجد فيها ملامح للنظرية، فقد اختفت تماما في القرن التاسع عشر، نتيجة للمؤثرات التي أطلقتها الثورة الفرنسية، من تكريس للحرية المطلقة وسلطان الإرادة في أبعد مظاهره، ونتيجة لتجاهل فقهاء مؤسسين لذلك القانون أمثال دوما وبوتييه لأي تعديل للعقد من خارج الإرادة التي أبرمته[18] .


(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});

المطلب الثاني: القانــــــون الإسلامــــي
إن الشريعة الإسلامية لم تضع نظرية عامة لإعادة النظر في التعاقد عند اختلالها للظروف الطارئة، بل جاءت مبدئيا بأوجه فرعية من وجوه النظرية، تختلف باختلاف المذاهب الفقهية، وفقهاء المذهب الواحد، إلا أن الجامع بينهما هو نظرية الضرورة التي أكدها الأستاذ لومبيير في المؤتمر الدولي للقانون المقارن الذي انعقد في لاهاي في سنة 1932 [19] فالفقه الإسلامي عموما ” لم يبن على النظريات ولا على الأسلوب التحليلي، بل هو بصورة خاصة وليد الاستقراء والاستخلاص الذي توصل إليه الفقهاء، من درس القضايا الفردية، تلك القضايا التي استعرضوها والتي كانت ميدانا لاجتهادهم وموضوعا لأبحاثهم[20].
 يبقى أن نعرض لمفهوم تلك النظرية ثم نحدد أوجهها:
1- نظرية الضرورة:
لقد حدد الأستاذ ترمانيني مضمون نظرية الضرورة التي أشار إليها الأستاذ لومبير بأنها نتيجة للمبدإ الذي لا يجيز بأن يؤسس على تطبيق الشريعة ضرر عام أو ضرر خاص. ” فقواعد الشريعة الموضوعة على شكل مؤكد وثابت يجب أن تفهم وتطبق في إطار هذا المضمون، وما لم يكن موضوعا ودعت الحاجة إلى وضعه فإنه يجب أن يوضع بما يحقق هذه الغاية ” غاية عدم إلحاق الضرر “[21] .
من هنا تفرعت تلك القواعد الإسلامية في الشريعة الإسلامية والتي كانت مصدرا لكثير من الأحكام، كقاعدة “لا ضرر ولا ضرار” و” الضرر يزال” و ” المشقة تجلب التيسير” و ” الأمر إذا ضاق اتسع” و “الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة” و” الضرورات تبيح المحظورات”، وظروف أحداث إنسانية غير متوفرة بما تولده من ضرر يلحق بأحد طرفي العقد كانت تفرض نتيجة لتلك القواعد إزالة ذلك الضرر عن طريق التعديل في تلك العلاقة ولو على حساب مبدإ احترام التعاقد[22].
إذن هناك تلازم أساسي بين نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي، ونظرية إعادة النظر في العقود بسبب الظروف الطارئة.
وفي الفقه الحديث: ” فنظرية الضرورة في الفقه الإسلامي، كما يقول الأستاذ لومبيير، تعبر بصورة أكيدة عن فكرة يوجد أساسها في القانون الدولي العام في نظرية الظروف المتغيرة، وفي القضاء الإداري الفرنسي في نظرية الظروف الطارئة…”[23].
إن الأصل الشرعي لهذه النظرية هو في قاعدة الإحسان التي “تخفف من قاعدة العدل. ومن إطلاقه: فإذا كان العدل هو الواجب والواجب أمر الشرع، إلا أنه لا يقضي بتكليف ما لا يطاق، وفي ذلك ظلم وجور لا يتصور. فكان الأمر بالإحسان للتخفيف من تفريط ذلك العدل وشدته فالله. “كما تقول الآية الكريمة يأمر بالعدل والإحسان”،ولهذا فالقاعدة القانونية لابد من تطبيقها، وذلك هو العدل، ولكن ذلك التطبيق لابد من أن يقترن بالإنصاف والعدالة[24].
فالعدل إذن يقترن بالإحسان في مرتبة واحدة، الأول يقوم على إعمال القاعدة والثاني يقوم على الحد من قساوتها، فإذا كان العدل أن يفي الإنسان بالتزاماته وعهوده، فإن الإحسان يكون في إمهال المدين “نظرة الميسرة” عند إعساره”. “فالأمر إذا ضاق اتسع”[25].
لقد تناولت المذاهب الإسلامية، تلك القواعد التي أطلقتها نظرية الضرورة لتؤسس عليها تطبيقات محددة، هي في حقيقتها صور للتعديل القضائي للعقود بسبب تغير الظروف.
2- تطبيقاتها :
إن العقد في الشريعة الإسلامية ملزم لأطرافه، فهو شريعة بين المتعاقدين لا تجوز إقالته أو تعديله إلا بالرضا المتبادل. “فالعقد انعقد بالتراضي فلا يحله إلا التراضي نفسه”. إلا أن قاعدة منع الضرر، التي نتجت عن المضمون لنظرية الضرورة، قد حملت المذاهب الإسلامية إلى التخفيف من شدة تلك القاعدة إعمالا لمبدإ الإحسان المتمثل في العدالة. فإذا تبدلت ظروف التعاقد عند تنفيذه، فنشأ عنه ضرر للمدين، جاز في المذهب الحنفي فسخ العقد في الإيجار، تأسيسا على القاعدة المتقدمة، وجاز إنقاص الثمن في الثمار والبقول المبيعة قبل حينها في المذهبين المالكي والحنبلي، إذا أصابتها آفة قللت من كميتها          أو قيمتها. ففي الحالة الأولى، نكون أمام نظرية العذر عند الحنفية. وفي الحالة الثانية نكون أمام نظرية الجوائح عند الحنبلية والمالكية. إلى جانب  ذلك، عالج الفقه الإسلامي مسألة التحولات النقدية وتقلبات أسعارها في حالة الانخفاض أو الزيادة في قيمتها أو إلى إزالتها من التعامل.    
أ- التطبيق الأول: نظرية العذر
نظر الحنفية إلى عقد الإيجار على أنه بيع للمنافع، والمنافع لا تكون موجودة وقت انعقاد العقد، فالأصل إذن هو عدم جواز ذلك البيع. إلا أن مقتضيات الحاجة، وما يؤمنه هذا النوع من العقود من المنفعة الخاصة والعامة قد أجازت إبرامه استحسانا. ولكن إذا كان في بقاء ذلك العقد إضرار بالعاقد، وجب الرجوع إلى الأصل، والقول بعدم لزوم ذلك العقد.
من هنا تولدت نظرية العذر عند الحنفية: فالعذر هو الرجوع إلى الأصل في عقد الإيجار، وهو عدم جوازه كلما كان تحمل الضرر أمرا ملازما لبقائه.
ولكن لاكتمال العذر اشترط المذهب الحنفي أمران: “أن يكون الضرر في مصدره ناشئا عن سبب خارج عن نطاق الالتزام و ألا يكون من آثاره. فإذا كان الضرر هو عبارة عن تفويت الربح- كما لو وجد مستأجر أفضل- أو حصول الخسارة القليلة – كما لو كان الإيجار قليلا – فلا ينفسخ العقد في هذه الحالات، لأن الضرر الحاصل هو مستحق بالعقد”[26]، ومن آثاره في الغالب. أما إذا كان هناك اضطرار إلى بيع المأجور لإعسار المؤجر أو لفسخ العقد لإفلاس المستأجر، أمكن ذلك لوجود العذر لأن في بقاء العقد ضرر بالمؤجر أو المستأجر، مرده إلى سبب خارجي عن العقد لا يوجبه الالتزام نفسه. و”العذر[27]، قد يكون بجانب المؤجر، كأن ترهقه ديونه ولا يملك إيفاءها إلا ببيع المأجور، وقد يكون في جانب المستأجر، كأن يريد السفر، وقد يكون في جانب المستأجر كما لو عتق العبد المستأجر، ففي كل من هذه الحالات، يملك المؤجر – في الحالة الأولى – والمستأجر – في الحالة الثانية – المستأجر – في الحالة الثالثة – الحق في فسخ العقد لوجود العذر المبرر”[28].

(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});

ب- التطبيق الثاني: نظرية الجوائح
عرفت الجائحة على أنها “كل آفة لا صنع للآدمي فيها ولا يستطاع الدفع لها أو الاحتراز منها، وهي ” كل ظاهر مفسد من مطر أو برد أو جراد أو ريح أو حريق” وتشمل عند البعض أيضا الفتنة والغصب والسرقة وما أشبه ذلك والجائحة قد تصيب الزرع من ثمر وبقول، وقد تؤدى إلى إتلافها كليا أو جزئيا في كميتها أو قيمتها” فمن يتحمل ما تتركه من خسارة: البائع أو المشتري؟ ورد في الحديث الشريف ” لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بما تأخذ مال أخيك بغير حق؟ ” وقد استند الأئمة الشافعي في مذهبه القديم، وابن حنبل ومالك وعمر بن عبد العزيز إلى ذلك الحديث للقول بأن الجائحة من ضمان البائع، وأن للمشتري أن يرجع عليه بما أحدثته من تلف في الثمار شرط أن تقع في وقت معين، وأن تبلغ في مداها مقدارا معينا، اختلف الفقهاء في تحديده وفي كيفية ذلك التحديد.
بالنسبة لوقت حصول الجائحة، فالمتفق عليه في مذهب مالك أنه الوقت الذي يتطلبه بقاء الثمر على الشجر دون قطف حتى ” يستوفى طيبه”. أما في المذهب الحنبلي، فوقت الإصابة هو الوقت الذي يمر إلى أن يبلغ الثمر أوان القطف[29].   
وبالنسبة إلى مداها فهو الثلث في الثمار، وفي القبول قيل أنه الثلث وقيل أنه في القليل الكثير عند المالكية، والثلث هو في القيمة عند البعض وبالكيل عند البعض الآخر[30]. أما في المذهب الحنبلي فالإمام أحمد بن حنبل، لا يشترط الثلث في الجائحة، وهذا ظاهر الرواية في مذهبه، فكل ما يذهب بسبب الآفة يعتبر جائحة مهما بلغ مقداره كيلا أو قيمة.
إن هذه النتيجة التي أخذت بها هذه المذاهب تتوافق مع نظرتها إلى عقد البيع في الثمار: ” فالقبض في بيعها وهي على أشجارها ليس كاملا، فهو كالقبض في الإجارة، وكما تحصل المنافع شيئا فشيئا في المأجور، فكذلك الثمرة توجد حالا بعد حال، وكما تكون منافع المأجور في ضمان المؤجر، فسلامة الثمار يجب أن تكون في ضمان البائع”[31].
ج- التطبيق الثالث: نظرية النقود:
إن الأصل أن ينفذ العقد كما ورد: فإذا كان موضوعه نقدا وجب أن يدفع بالنقد المتفق عليه، ولكن قد يطرأ على قيمة النقد نوعان من العوامل: التغير في قيمته أو كساده. فهل المدين يلزم بدفع المبلغ المتفق عليه بقيمة وقت التعاقد أم وقت التنفيذ؟.
إن في الأمر اختلافا في المذهب الحنفي، وفي المذاهب الأخرى، وفي المذهب الحنفي يميز بين الحالتين: تغير قيمة العملة أو كسادها وزوالها، ففي الحالة الأولى- حالة التغير في قيمة العملة- يرى الإمام أبو حنيفة أن الانخفاض أو الزيادة في سعر العملة لا أثر له على الالتزام: فما ينبغي تنفيذه من النقد، هو ما جرى عليه العقد وقت انعقاده. وهذا هو رأي الإمام محمد الشيباني، أما الإمام أبو يوسف، فخالف هذا الرأي، وقال بقيمة النقد من الذهب يوم العقد والقبض، وعلى ذلك جاءت الفتوى[32]
وفي الحالة الثانية- حالة كساد العملة وزوالها- يقسم فقهاء المذهب الحل حسب نوع العقد: عقد بيع أو عقد قرض.
في البيع يرى أبو حنيفة إبطاله عند كساد النقد أو زواله، إذ أن البيع يضحى دون ثمن، أما الإمامان أبو يوسف ومحمد فقد اعتبرا البيع قائما ولكن على المشتري دفع الثمن من النقد بحسب قيمته وقت البيع برأي أبي يوسف، لأن الثمن مضمون به، وعند الانقطاع برأي محمد لأنه زمان الانتقال إلى القيمة، وفي القرض وهو إعارة فيقتضي رد المبلغ المستقرض ذاته، لأن موجب الإعارة هو رد العارية بذاتها، وهذا هو الأجل، أما إذا استحال ردها للتصرف فيها فيرد مثلها استثناء[33].
أما أبو يوسف ومحمد فارتأيا رد القرض بقيمته يوم القبض عند الأول، ويوم الانقطاع عند الثاني،والفتوى في ذلك هي على رأي أبي يوسف.
في المذهب المالكي لا تفرقة بين عقد قرض أو عقد بيع وبين تغير العملة في قيمتها          أو كسادها، فالوفاء لا بد من أن يتم بالنقد المتفق عليه، ومن جنسه في مطلق الحالات[34].

(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});

في المذهب الشافعي، يكون الإيفاء بالنقد المتعاقد عليه مهما كانت طبيعة العقد، سواء تغيرت قيمته أو أبطله السلطان، أو نقص سعره، فإذا تعذر الإيفاء بالمثل وجب الإيفاء بقيمته من الذهب وقت المطالبة. أما في المذهب الحنبلي، فهناك فرق بين تغير قيمة النقد أو كساده وبين منع السلطان. ففي الحالة الأولى يجب أن يكون الوفاء بمثل النقد الذي تغيرت أو كسدت قيمته إلا إذا تعذر ذلك، فيكون الوفاء بالقيمة يوم التعذر[35].
وفي الحالة الثانية من حق الدائن أن يطالب بالقيمة وقت العقد، وعلى المدين أن يقوم بذلك من كل ذلك نتبين أن النظرية – إعادة النظر في العقود بسبب تغير الظروف – لم تعرفها الشريعة الإسلامية بمذاهبها المختلفة كنظرية عامة، وإنما وردت في صور معينة أوجدتها نظرية الضرورة.



الفرع الثاني: مرحلة التقنيات الحديثة
لقد ابتدأت هذه الفترة اثر صدور التقنين المدني الفرنسي في سنة 1804. فقد أعلن هذا القانون مبادئ هامة كان لها أثرها في إرساء قواعد أساسية في التعاقد، واستبعد نظريات ملحة يفرضها التعامل بإلحاح. فقد اعتبر أن العقد شريعة للمتعاقدين لا يمكن تعديله بسلطة خارجية عن إرادة أطرافه. وإعادة النظر في العقد للظروف الطارئة التي تفترض بحسب طبيعتها التعديل القضائي لذلك العقد بإرادة القضاء، وسلطته لذلك فقد غابت النظرية عن التطبيق العملي في فرنسا، وتبعتها في ذلك تقنيات أخرى[36].
ولكن إزاء الطبيعة الخاصة التي تتصف بها بعض العقود، وإزاء التطورات الاقتصادية والاجتماعية المستحدثة، فقد عادت النظرية إلى الظهور منذ المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر: في بعض التشريعات الحديثة أولا ثم في بعض الاجتهادات القضائية المتطورة[37].
المبحث الأولالنظرية في القوانين الحديثة
لقد غابت النظرية كمبدإ عام عن القانون الخاص، ويعود ذلك في سببه إلى نوعين من الاعتبارات: سياسية وقانونية.
الاعتبارات السياسية تعود إلى سببين: الأول عام ونتج عن النظرة التي أطلقتها الثورة الفرنسية وما سبقها من تشريع للحقوق الفردية  والتعامل، والثاني خاص مصدره النظرة إلى التعاقد كأساس في التعامل والمبادلات، وهذه تتطلب لازدهارها إقامة الثقة والاستقرار ولا يمكن توكيدهما بحسب تلك النظرة، إلا بإبقاء العقد منتجا لآثاره التي افترضتها الإرادة العقدية،دون أي تدخل خارجي يجعل من مؤسسة التعاقد مؤسسة غير ثابتة[38].
أما الاعتبارات القانونية فمردها إلى ظهور التقنينات الحديثة وخاصة في مجال القانون   المدني، وتركيزها على تلك العوامل السياسية التي اشرنا إليها، وأول تلك التقنينات تشريع نابليون.
أما المبدأ الذي اعتمده ذلك التشريع فهو اعتماده لسلطان الإرادة كقاعدة أسست عليها نظرية العقد بصورة عامة. فالإرادة قد أوجدت العقد، وهي التي تملك سلطة تعديله[39]. ودور القضاء في هذا المجال يكاد ينحصر في تطبيق القانون في مختلف صوره: الصادر عن السلطة وهو التشريع، أو الصادر عن الأفراد وهو العقد، فهو لا يملك حق الفرض أو التعديل إلا في حدود ضيقة يحددها التشريع نفسه أو العقد[40].

(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});

إن هذه النظرة إلى هذه المبادئ التي وجهت التفكير القانوني والعملي في تلك الفترة قد تبدلت تماما إبان الأزمات والحروب التي ظهرت في أوروبا والعالم منذ المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر. وقد نتج عن ذلك تيارات جديدة فلسفية واجتماعية تخطت الحدود الضيقة التي فرضتها أفكار الثورة وقد كان لها أثر فعال في توجيه الذهنية القانونية ونظرتها إلى الحرية العقدية”[41] ومبدأ الإرادة. فالحرية العقدية لم تعد حرية بمفهومها شبه المطلق، بل وضعت أمامها حواجز لم تكن معروفة مرجعها إلى النظرة الجديدة إلى الدولة، كدولة تدخلية وموجهة، وقد كان لذلك انعكاساته على النظريات القانونية إجمالا، وعلى النظرية التي نحن في صددها، بصورة خاصة: فقد قبلتها بعض القوانين التي كانت لفترة سابقة ترفض تطبيقها، ليس على عقودها الخاصة فحسب، بل وعلى عقودها العامة كذلك، كما قبلتها أنظمة قانونية أخرى بقرارات قضائية رغم عدم وجود النص العام الذي يكرسها[42].




زر الذهاب إلى الأعلى