محمد موني طفولتي ودراستي في ابن أحمد

ازداد محمد موني سنة 1945، وينحدر والده من قبيلة الأحلاف، فخذة أولاد المكناسي. تشير الرواية المتداولة بأن أجدادهم قدموا من ناحية مكناس، واستوطنوا بأرض امزاب. ينتمون إلى بعض القبائل التي رفضت أداء الضرائب المخزنية على عهد المولى إسماعيل، فطردوا من أرضهم، وجاءوا ليستقر بهم الحال بامزاب. بعضهم ينحدر من خنيفرة، وبعضهم من عين اللوح، وآخرون من بوفكران. وكونوا دوارا أطلق عليه أولاد المكناسي.

والدته حمداوية واسمها التاغي فطومة بنت بلعباس من موالد سنة 1924، من عائلة القائد الحسن بن العربي، وترجع أصولها إلى القائد محمد بن أحمد مؤسس القصبة، ومركز دائرة ابن أحمد الحالي. وبين هذين العائلتين، الحلفية والحمداوية رواية مفادها أن أجداد حمداوة قدموا من صحراء زاكورة، كان جدهم سيدي أحمد بن علي فقيها عالما، وصاحب زاوية للتدريس، وتعلم على يديه شيخ زاوية تمكروت، سيدي أحمد بناصر. واستقروا بمخيمهم جوار قبيلة الأحلاف، وأرضعت بعض نسائهم أطفال بعضهن البعض، مما خلق بينهم أخوة ومودة، وجعلهم يقومون بحمايتهم، والدفاع عنهم في مواجهة الطامعين في سلب أموالهم والاستحواذ على ثروتهم التي حملوها معهم من ماشية وحلي وأثاث. محمد موني حاصل على دبلوم مهندس من فرنسا. اشتغل بمجموعة أونا (أومنيوم شمال إفريقيا). انتخب نائبا برلمانيا بإقليم طنجة سنة 1993. توفي شهر يوليو 2022.

في هذه الشهادة يتحدث محمد موني عن مساره الدراسي، وذكرياته مع رفاق الطفولة بمسقط رأسه بمدينة ابن أحمد في عقدي الخمسينيات والستينيات، وذلك من خلال لقاء جمعني به شهر يوليو من سنة 2018.

محمد موني مع ابنه في باريس

ولجت المدرسة الابتدائية بداية الموسم الدراسي 1951- 1952. بقسم التحضيري الأول درست عند بوشعيب بلبصير، الذي سيتولى في الستينيات مسؤوليات سامية في وزارة التربية الوطنية، كما انتخب رئيسا للمجلس البلدي لسطات. أشرفت والدتي على تسجيلي بالمدرسة، فوضعيتها المادية كانت مريحة أما والدي فقد توفي وأنا ما زلت صغيرا. كان مدير المدرسة آنذاك فرنسي، اسمه فوريستيي Forestier، وكانت زوجته تشتغل معه في نفس المدرسة، وتدرس قسم التحضيري الثاني بالقاعة المجاورة لمكتب المدير. تتكون مدرستنا من خمس قاعات، ومكتب للمدير، ومرافق صحية دائما في حالة نظافة جيدة. بعد انتهاء حصة الصباح خلال الاستراحة يقدم لنا الخبز والجبن والشكلاطة. وعند مدخل المؤسسة يقف الحارس بّا لكبير بالباب كل صباح، ويذكرنا بالاعتناء بحلاقة الشعر ومشطه، وإلا أعاد كل من لم يكن شكل شعره باللياقة المعهودة. كانت مدرسة خاصة بالتلاميذ الذكور، أما الفتيات فيدرسن في مدرسة مستقلة بذاتها، بابها يتوجه قبالة المستشفى. سميت في عهد الاستقلال، مدرسة الخيزران، وجزءها الجنوبي يدرس به أبناء الجالية الأوربية.

أما بالنسبة لأبناء الطائفة اليهودية، فكانوا يدرسون بمدرسة مستقلة في طريق سطات، وتسكن جوارها مدام شولو، درس عندها في الأربعينيات الدكتور تونسي العباسي، وتخصص في طب الأطفال. كما كان يقطن قرب هذه المدرسة، الليوتنان السبتي، كان ضابطا بالجيش الفرنسي، لونه أسمر، استقر بابن أحمد قادما من مراكش، وتزوج امرأة حمداوية كانت تعيش حياة منفتحة. خلف معها طه وسلوى. كان ابنه يشاركنا في مباريات كرة القدم.

شغل والد لبزيوي مهمة معلم بالمدرسة قبل أن يوظف ابنه الذي أصبح يقوم بمهمة خليفة المدير محمد لمزابي. درست في المستوى الابتدائي عند أساتذة أكفاء، أذكر من بينهم جان ميرل Jean Mèrle سنة 1955، وبفضله تمكنت من متابعة دراستي بجد، فقد كنت متفوقا في مادة الرياضيات، إلا أنني كنت ضعيفا في المواد الأدبية، لكن الأستاذ ميرل شجعني على الدراسة والتحصيل. بعد حصول المغرب على الاستقلال تم نقله إلى فاس لتدريس الرياضيات في ثانوية مولاي إدريس لكفاءته. كان يسكن بابن أحمد قرب سجن النساء القديم القريب من المحطة الطرقية الحالية، وفي جدار على يسار منزله علقت لوحة تشير إلى نصب تذكاري للجندي المجهول. كانت تسكن بجوار السيد ميرل، الأستاذة لان LAANE. هذه المنازل سكنها فيما بعد بعض رجال القوات المساعدة.

قبل الاستقلال كانت المدينة صغيرة، لكنها تبدو نظيفة وجميلة، وخاصة الحي الإداري الذي يسكنه الأوربيون، وبه توجد الإدارات والمدرسة. وعند عودتنا من المدرسة في منتصف النهار، كنا نمر على مركز الفلاحة، الذي كان يسمى إدارة كارسكو نسبة لمديره الفرنسي. أما فيلات الموظفين الأوربيين فكانت تنطلق منها أصوات الأغاني الفرنسية، حيث كنا نتمهل السير للاستماع لها. ومن تم تعرفنا على أغاني إديث بياف وشارل أزنفور وجاك بريل وجوني هوليداي. كما تجذبنا ألوان الورود بحدائق هذه الفيلات. أما المرافق التجارية فتوجد بحي القصبة، وبطريق سيدي حجاج. ومع حلول الاستقلال كنت لا زلت أقطن بابن أحمد، وأتذكر أول قائد عين على رأس المركز المستقل لابن أحمد، اسمه عبد الرحمن بنسودة ينحدر من فاس. كان المركز يشمل بالإضافة إلى التجمع الحضري، عدة قبائل محيطة به من املال.

منذ صغري تعرفت على مجموعة من الأطفال كنا نكوّن مجموعات تنحدر من مختلف أحياء المدينة، كل مجموعة تقوم بأنشطتها الخاصة، إما نعلب معا أو نتجول في الحقول المجاورة لصيد الفراخ والتسلية حسب المتوفر. وقد اشتهرت مجموعتان في زمني، إحداهما يتزعمها صالح رزقي، وأخرى تابعة لمحمد الطرزي، وكلاهما يكبراني سنا. كنت تابعا لفرقة رزقي الذي كنت أرى فيه المثل الذي ينبغي الاحتذاء به. كنا مجموعة من الأطفال، وهو كبيرنا، ونحن نتبعه أينما توجه، نطوف البراري، وبين كروم الصبار، ونقصد مجاري المياه. كنا نتسلق أشجار الكاليبتوس العالية بجوار واد بوريان، ونتسابق للبحث عن فراخ عصفور الدوري (الزوش). كما كنت أبحث عن العقارب وجمعها بغرض التسلية، دون التفكير فيما يمكن أن يصيبني من مكروه. كان من بيننا عزيز الفكاك أصبح طبيبا واشتغل بفاس، وعبد الكريم ناصور أول من افتتح صيدلية رئيسية بابن أحمد. أما رزقي فهو قائدنا وقدوتنا، نتبعه أينما ذهب، وكنا ننشد الأغاني الكلاسيكية، وخاصة أغاني محمد عبد الوهاب التي كنا نحفظ أغلبها. وبعد مغادرتنا ابن أحمد، بقينا نلتقي خلال العطل عند مكتبة السي أحمد بلعواشي. وكان لتأثير رزقي بالغ الأثر في حياتي، وخاصة الدراسية، وهو سبب ميلي إلى الاهتمام بالمواد العلمية. كان صالح رزقي يكبرني، ويعجبني تقليد نموذجه. كان متفوقا في جميع المواد. حاولت تقليده، ولكنني لم أستطع التفوق سوى في المواد العلمية، وخصوصا الرياضيات. لقد اطلعت فيما بعد على ملفه الدراسي، وقرأت ملاحظة أستاذه، بأنه “تلميذ بارع ومتفوق في جميع المواد”. لكنه لم يكمل دراسته. بعد حصوله على الشهادة الثانوية (الإعدادية) التحق مباشرة بالتعليم ليشتغل. ولا زلت أحتفظ بالرسائل التي كنا نتبادلها بعد افتراقنا، وأغلبها كتبت باللغة الفرنسية. لم تكن حينها بمدينتي الصغيرة وسائل ترفيهية من شأنها أن تبعدني عن الدراسة. لم تكن هناك لا تلفزة ولا سينما. هذه الأخيرة عرفناها عن طريق “العربي الصوار”، الذي كان يقوم في بعض الأحيان بإحضار شريط مصور ويعرضه بمنزل جوار دار المعلم الشرادي، قرب الأستوديو الذي يشتغل به مصورا. ثم انتقل إلى عرض الأشرطة بمرآب كبير قرب منزل الحاج محمد بنيدير بشارع الزرقطوني. وكانت من قبل دار أخرى لعرض بعض الأشرطة من حين لآخر جوار المخبزة والمطعم الذي يسيره الفرنسي “أورتيكَا”. وأول شريط تفرجت عليه، وأنا لا زلت صبيا، فيلم لمحمد عبد الوهاب “يحيا الحب” حيث رافقتني والدتي لمشاهدته، فأخذني النعاس ونمت في حضنها حسب ما روته لي، ولم أتذكر شيئا مما حدث.

أما منافس صالح رزقي، محمد الطرزي الذي يميل لونه إلى السواد، والمشهور بولد لكحيلة، فكان يعيش شبه مشرد. كان يتيم الأب، وعلى غير وئام مع والدته، وغالبا ما يبيت عند خالته التي كانت تحسن العطف عليه أكثر من أمه. كان يقضي أغلب أوقاته في صيد الفراخ بواسطة المقلاع، ولا يقوم بتحضير واجباته الدراسية، وكنا نسمع عنه بأن أستاذه الفرنسي يرمي دفاتره من النافذة لعدم انتباهه وشغبه داخل القسم، ويطرده. ولكنه في لحظه ما، بقسم الشهادة الابتدائية، استفاق من غفلته، وحاول التنافس مع صالح رزقي. وقد تمكن من إصلاح ذاته. بعد نجاحه في امتحان الشهادة الابتدائية، وانتقل إلى الثانوي بمدينة سطات. لكنه لم يتمكن من الحصول على منحة الإقامة بالقسم الداخلي، الذي كان يتطلب اجتياز امتحان والحصول على نقطة 12 على 20. ولمتابعة دراسته، قام بكراء نوالة بحي نزالة لكَنانط بسطات، بملغ 5 دراهم للشهر، وفي السنة الموالية حصل على معدل تجاوز 14 على 20 مما مكنه من الحصول على منحة القسم الداخلي. وآخر مرة التقيت به في طنجة سنة 1992، فأخبرني بأنه يشتغل أستاذا للرياضيات بموريتانيا. ولم أره منذ ذلك الحين.

بعد حصولي على الشهادة الابتدائية سنة 1960، حيث كان مستواها هو نهاية التعليم بالمدينة. كان الفوج الذي سبقني انتقل إلى الدراسة بثانوية سطات، وتتوفر لهم الإقامة بالداخلية. إلا أن السنة التي نجحت فيها كانت المناصب الشاغرة بالقسم الداخلي محدودة، ولم تستوعب جميع المنتقلين، لذا حاول المدير لمزابي إحداث قسم بمستوى الإعدادي بنفس المؤسسة كتجربة أولى، وحتى لا تضيع فرصة الدراسة على التلاميذ الذين لم يقبلوا بالداخلية، وكان يطلق عليه (سانكيام). وأحضر أستاذا فرنسيا اسمه (باكَات) Bagate أقدمه من مدرسة سيدي حجاج وهو مختص في المواد الأدبية، لكنه يدرّس جميع المواد. وأسند تدريس اللغة العربية للأستاذ محمد أمين خطيب الجمعة بالمسجد الأعظم بالمدينة. وأنا لم أكن أتعاط لهذه المواد بقدر ما كنت متفوقا في المواد العلمية وخاصة الرياضيات. كان يدرس معي عزيز الفكاك، أصبح طبيبا، وهو ابن الخليفة حمو، وأخ رشيد الفكاك، الممثل وأستاذ المسرح، وإبراهيم العباسي، أصبح مهندسا وتحمل مسؤولية بالمكتب الوطني للصيد، وعبد المجيد لمزابي، ابن المدير وأصبح مسؤولا كبيرا بالمكتب الوطني للتكوين المهني- عين برجة. ولما انتقلنا إلى السنة الثانية إعدادي، تم توجيهنا إلى ثانوية سطات، إلا أن ظروفنا لم تكن مواتية للدراسة بهذه المؤسسة دون توفرنا على منحة بالقسم الداخلي. فعدنا إلى المدير لمزابي، وطرحنا عليه وضعيتنا، حينها قام بمحاولة توجيهنا إلى ثانوية ابن ياسين بخريبكَة، لكن هذه المرة للدراسة ضمن تعليم البعثة الفرنسية. أكملت الدراسة الثانوية طبقا للتعليم الفرنسي بخريبكَة في الشعبة التقنية، وهناك تعرفت على مصطفى المعروفي، ابن القائد السابق عبد السلام المعروفي. كان أكبر مني ويدرس في مستوى أعلى، وفي نهاية السنة الدراسية يحصل على مجموعة مهمة من الجوائز. كان يساعدنا على حل المسائل الرياضية التي تستعصي علينا الإجابة عنها. وعرف عنه بأنه لا يغادر غرفته بالقسم الداخلي، خارج أوقات الدراسة إلا نادرا لانهماكه في التحصيل. بعد حصوله على البكالوريا، توجه إلى مدرسة البوليتكنيك، ثم مدرسة المعادن بباريس. وهو من فوج محمد القباج، الوزير السابق. وتولى منصب مدير ميناء الدار البيضاء. حصلت على شهادة البكالوريا سنة 1966، وتوجهت إلى الدراسة بفرنسا، حيث حصلت على دبلوم مهندس سنة 1970. وبعد عودتي إلى المغرب اشتغلت بمجموعة أونا (أومنيوم شمال إفريقيا) .

كان بمدينة ابن أحمد، كما تعرفت على ذلك منذ صبايا، مستشفى كبير، وبه أطباء أكفاء، ولهم ضمير إنساني حي، بحسب حديث السكان الذي كنت أسمعه عنهم. كان الطبيب ينتقل بواسطة سيارة المصلحة 2 CV ويزور المرضى في منازلهم ويوزع عليهم الدواء. المستشفى العمومي كان يوجد بمكانه الحالي منذ عرفته، وتقابله الكنيسة التي حولت بنايتها إلى مقر لدار الشباب. يسكن قربها الأستاذ الفرنسي مسيو جاكو مدرس بالقسم الصناعي الذي كان يوجه إليه التلاميذ كبار السن، ولم يستطيعوا متابعة برنامج الدراسة العادي. درس معي ابنه بثانوية ابن ياسين بخريبكَة. سبق أن حكت لي والدتي أنها شاهدت السلطان سيدي محمد بن يوسف حين جاء إلى ابن أحمد لتدشين المستشفى الرئوي ودار العجزة (المسماة لدى سكان المدينة دار الدراوش)، وإلى جانبه الأمير مولاي الحسن يمسكه بيده، وهو لا يزال طفلا صغيرا. ربما كان الحدث بداية ثلاثينيات القرن الماضي. كنا نسمع عن “دار الدراوش” التي تأوي فئة من المعوزين والمشردين، حيث توفر لهم العناية والرعاية اللازمة. أما المستشفى فكان يقدم خدمات في المستوى اللائق. وكان الناس يخافون من الدخول إلى المستشفى لأن داء السل كان منتشرا بكثرة، وعلاجه نادر. أشرف على هذا المستشفى الدكتور مصطفى حجاجي منذ بداية الخمسينيات، وهو ابن محمد حجاجي قائد أولاد امرح سيدي حجاج خلال الفترة الاستعمارية. سبق للدكتور حجاجي أن اشتغل طبيبا للأمراض الصدرية بمستشفى بوبيني بباريس في الأربعينيات. وهو من أول الأطباء المغاربة. وقد حكى لي الأستاذ جلال السعيد الذي رافقته ضمن وفد برلماني في زيارة إلى الشيلي، عندما كنت نائبا برلمانيا، حيث قال لي بأنه كان يدرس بالدار البيضاء في المرحلة الثانوية، وعند مروره في طريق العودة إلى وادي زم رفقة أصدقائه، يطلبون من سائق الحافلة المرور بالقرب من المستشفى، والتوقف لحظة حتى يتمكنوا من رؤية أول طبيب مغربي مختص في علاج داء السل.

#محمد #موني #طفولتي #ودراستي #في #ابن #أحمد

زر الذهاب إلى الأعلى