في ذكرى رحيل مبدع المسيرة الخضراء

حلت -يومه الجمعة 09 ربيع الثاني 1444هـ، الموافق لـ 4 نونبر 2022- الذكرى 24 لرحيل فقيد المغرب العظيم، ومبدع المسيرة الخضراء المظفرة، جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، وإذا كانت الذكرى تقتضي التوجه إلى العلي القدير، في أن يشمل الراحل بالرحمة والمغفرة، فهي تقتضي في الآن ذاته، الوقوف وقفة احترام وتقدير، لواحد من ملوك وقادة المغرب العظام، وأحد الزعماء العرب والأفارقة الكبار، الذين طبعوا التاريخ المعاصر، لما عرف عنه من حكمة وتبصر ورجاحة عقل وكاريزما وثقافة وخطابة وفصاحة…، وما سجل له التاريخ، من إسهامات متعددة الزوايا، داعمة لوحدة إفريقيا وأمنها ونمائها وازدهارها، ومن آراء رصينة ومواقف متبصرة، خادمة لقضايا الأمن والسلام والتعايش والصداقة والتعاون والمحبة والازدهار عبر العالم.

زعيم عربي إسلامي وإفريقي بهذه المواصفات، وإن رحل إلى دار البقاء قبل 24 عاما، فلا تزال ذكراه حاضرة في أذهان الشعب المغربي الذي يكن له مشاعر الإعجاب والتقدير، ولا يزال صداه، يتردد في العالم العربي الذي كان أحد قادته الكبار، كما يتردد في إفريقيا التي كان أحد زعمائها البارزين، وفي هذا الإطار، فلا غرابة أن يحظى باني المغرب الحديث مؤخرا، بجائزة إفريقية بإثيوبيا -تكلف بتسلمها رشيد الطالبي العلمي، رئيس مجلس النواب-، اعترافا من الأفارقة، بما أسداه الراحل، من خدمات وإسهامات في سبيل وحدة إفريقيا وبنائها ونمائها، وهي الجائزة التي سلمت يوم الثلاثاء الفاتح من شهر نونبر الجاري، خلال حفل نظم بأديس أبابا، بمناسبة أول قمة إفريقية للشباب الإفريقي، انعقدت ما بين 29 أكتوبر الماضي وفاتح نونبر الجاري بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا.

ذكرى الرحيل لهذه السنة، تتزامن واحتفالات الشعب المغربي قاطبة، بالذكرى 47 للمسيرة الخضراء المظفرة، التي اختزلت بمفردها، شخصية ملك عبقري وقائد مبدع ومتبصر، سجل له التاريخ، هندسته لواحدة من أكبر المسيرات السلمية التي طبعت تاريخ العالم، وتوقيعه -بمعية شعب مجاهد- لواحدة من أعظم الملاحم النضالية والتحريرية عبر العالم، التي حضرت فيها كل طقوس الوطنية والتضحية والوفاء والمسؤولية، ومعاني الصمود والإصرار والتحدي، في سبيل وحدة الأرض وسلامة التراب.

مسيرة سلمية خضراء، لم تتوقف برحيل مبدعها ومهندسها الملك الحسن، ولم ترحل روحها بعد افتكاك الصحراء المغربية من قبضة الاستعمار الأجنبي، بل مازالت مستمرة في عهد خلفه، جلالة الملك محمد السادس أعزه الله، الذي نجح باقتدار وتبصر، ليس فقط في التصدي الاستباقي لمناورات ودسائس خصوم وأعداء الوحدة الترابية للمملكة، بل واستطاع توسيع دائرة المؤيدين والداعمين لمغربية الصحراء، بناء على ما رسمه من دبلوماسية متبصرة، جمعت بين الواقعية والنجاعة، كان من ثمارها، الظفر باعتراف تاريخي لقوة عظمى بوزن وقيمة الولايات المتحدة الأمريكية، وانتزاع موقف “غير مسبوق” من الإسبان بالنظر إلى ماضيهم الاستعماري بالمنطقة، وكسب مواقف عدد من الدول الوازنة في أوروبا وأمريكا وإفريقيا، فضلا عن المواقف التقليدية العربية الداعمة لمغربية الصحراء، ولم يتوقف طموح العاهل المغربي عند هذا الحد، بل جعل من ملف الصحراء “المنظار” الذي ينظر منه المغرب للعالم، و”المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس صدق الصداقات ونجاعة الشراكات”.

خلف الملك الحسن، لم يكتف بخطة الدفاع عن مغربية الصحراء ولا حتى التصدي لمؤامرات ودسائس أعداء الوطن، بل وضع الصحراء برمتها على سكة التنمية الشاملة، في ظل النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية، الذي نقل جهات وأقاليم الصحراء من حالة البساطة والعزلة والتواضع، إلى مستويات حميدة من البناء والنماء، تحولت معها مدن الصحراء عموما ومدينتا العيون والداخلة خصوصا، إلى واحدة من المدن المغربية الأكثر نماء وإشعاعا وجاذبية، وبما أن النهج التنموي للجالس على عرش المملكة، خاضع لسلطة التبصر، وتتحكم فيه أهداف وغايات استراتيجية، من المتوقع، أن تتحول الصحراء المغربية إلى واجهة أطلسية جاذبة للاستثمارات ومستقطبة للمشاريع الكبرى، وإلى شريان اقتصادي عالمي، تتدفق عبره الخيرات والمنافع والمصالح المشتركة، في أفق ما ينتظرها من أوراش تنموية رائدة، لعل أبرزها ميناء الداخلة الأطلسي، ومشروع أنبوب الغاز نيجيريا المغرب أوروبا، وطريق الوحدة والبناء والنماء “تزنيت الداخلة”…

من مبدع المسيرة وباني المغرب الحديث الملك الراحل الحسن طيب الله ثراه، إلى خلفه، جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، تتجدد أواصر المحبة والوفاء والتقدير بين الملك والشعب، في إطار عروة وثقى لا انفصام لها، داعمة لوحدة الأمة المغربية وأمنها واستقرارها، تتواصل معها مسيرة البناء والنماء، في مغرب تحمل آباؤنا وأجدادنا وأسلافنا، الكثير من المتاعب والشدائد والمحن، ليكون مغربا حرا مستقلا وبهيا، وليس أمامنا من خيار أو بديل، سوى استحضار جسامة أمانة الوطن الملقاة على عاتقنا جميعا، وتقدير حجم ما يواجهنا من تحديات وما ينتظرنا من رهانات تنموية كبرى، بما يضمن الانخراط المسؤول، في خدمة الوطن بتضحية ووفاء وصمود ونكران للذات، في سياق جيوسياسي إقليمي ودولي، يقتضي منا، أكثر من أي وقت مضى، التعبئة الجماعية وتقوية الجبهة الداخلية والالتفاف حول ثوابت الأمة، لوضع البلد على سكة الإقـلاع التنموي الشامل.

رحل مبدع المسيرة الخضراء ومهندسها، لكن روح المسيرة لم ترحل ولن ترحل، من منطلق مسؤولياتنا الفردية والجماعية، في مواصلة المسيرتين: مسيرة البناء والنماء والرخاء والازدهار في كل ربوع الوطن، ومسيرة الدفاع عن مغربية الصحراء والتصدي لمن يتربص بها من الأعداء الحاقدين واليائسين، وفاء لروح قسم المسيرة الخضراء المظفرة ومبدعها ومهندسها، وإذا كان التاريخ سجل للملك الحسن تحرير الصحراء وإعادتها إلى أحضان الوطن الأم، في سياق استكمال مسلسل الوحدة الترابية، فإن خلفه محمد السادس، لم يصن الأمانة فحسب، بل وضع الصحراء برمتها على سكة البناء والنماء والازدهار، ونجح في جعلها، ملف شعب وقضية أمة مغربية.

ونختم المقال، بتجديد الترحم على فقيد الوطن ومبدع المسيرة الخضراء، ومن خلاله على بطل التحرير الملك محمد الخامس وكل الشرفاء والنزهاء والأحرار المغاربة الذين قضوا ليحيى الوطن، متمنين دوام الصحة والعافية، لمهندس البناء والنماء، جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، على أمل أن نكون جميعا، خداما أوفياء للوطن، بمسؤولية وتفان ونزاهة واستقامة وتضحية ونكران للذات، فكلنا راحلون وسيبقى الوطن، شاهدا على سلوكاتنا وممارساتنا، وسيبقى التاريخ موثقا لصنيعنا، فطوبى لمن رحل وقد أحسـن للوطن، وساهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا، في بهائه وإشعاعه، ومهما برعنا في ترصيع الكلمات أو نجحنا في انتقاء العبارات، لنسج بساط هذا المقال، هناك حقيقة واحدة لا تقبل قطعا القسمة على اثنين.. الصحراء في مغربها والمغرب في صحرائه، ولا عزاء للحاقدين والمتربصين واليائسين…

#في #ذكرى #رحيل #مبدع #المسيرة #الخضراء

زر الذهاب إلى الأعلى