دور الطعن بالنقض فــي ضمــان الأمــن القضائي

دور الطعن بالنقض فــي ضمــان الأمــن القضائي
الدكتور خالد الإدريسي

دور الطعن بالنقض فــي ضمــان الأمــن القضائي

[su_quote] دور الطعن بالنقض فــي ضمــان الأمــن القضائي : رأي علــى هامــش مطالبة السيد رئيس النيابة العامة فرض رسم قضائي إضافي للطعن بالنقض بمناسبة كلمته في افتتـاح السنــة القضائيــة 2020.
[/su_quote]

افتتحت السنة القضائية الجديدة 2020 بكلمة للسيد الرئيس الأول لمحكمة النقض و أيضا بكلمة للسيد الوكيل العام لدى محكمة النقض اللذان أوضحا التوجهات الأساسية لهذه الأخيرة في السنة القضائية الماضية ، و دور ها في ترسيخ اجتهادات قضائية متقدمة في إطار الدور الذي تضطلع بها هذه المحكمة من اجل تطوير القاعدة القانونية ، و التأثير الايجابي على المحاكم الدنيا في اتجاه توحيد اجتهاد جميع المحاكم في كل ربوع المملكة بشكل يحقق الأمن القضائي .

و من بين ما تضمنته كلمة السيد رئيس النيابة العامة هو اقتراحه ضرورة إيجاد آليات آنية من اجل ضبط نظام النقض و تخفيف التراكم الذي يعرفه إحالة الملفات على محكمة النقض , و القضاء على ظاهرة الملفات المتخلفة التي تزداد سنة بعد أخرى وفق إحصائيات مدققة عزز بها كلمته التي أدلى بها في افتتاح السنة القضائية الجديدة , و من بين مقترحاته في هذا الصدد إضافة رسم قضائي غير قابل للاسترجاع في حالة رفض طلب النقض أو عدم قبوله , و ذلك من اجل التخفيف من الملفات التي تحال على محكمة النقض و تساهم في عدم قيام محكمة النقض بالدور المنوط بها .

لكن ينبغي التأكيد أن هذه الآلية ولو أنها قد تساهم في التقليل من اللجوء إلى الطعن بالنقض و بالتالي إغراق محكمة النقض بكم هائل من الملفات , فإنها لا تحترم فلسفة الطعن النقض التي تركز على حل الإشكالات القانونية و تطوير الاجتهاد و توحيد تطبيق و تفسير و تأويل القانون و التأثير على المحاكم الدنيا حتى توحد اجتهاداتها القضائية , و ستخلق نوعا من اللامساواة بين المواطنين من خلال حرمان الطبقة الفقيرة من هذا الطعن الذي يشكل ضمانة مهمة للمواطنين من أجل الحفاظ على حقوقهم و مصالحهم و ضمان أمنهم القضائي .

و لذلك فان ملف بسيط من حيث القيمة المالية لمواطن فقير من الناحية الاجتماعية قد يثير إشكال قانوني عميق و جديد يكون من المفيد أن تحسم فيه محكمة النقض من خلال قراراتها و اجتهاداتها حتى تهتدي به المحاكم الدنيا و حتى يتم تطوير القانون من خلال الاجتهاد القضائي .

إن الإشكال في نظام الطعن بالنقض في بلادنا لا يتعلق بالمعيار الكمي أو النوعي أو القيمي للملفات التي يجب ان تقبل هذا النوع من الطعون , و لكن الإشكال الحقيقي في هذا النظام هو المتعلق بالمنظومة القانونية التي يتأسس عليها نظام النقض بالمغرب و الذي ينبغي أن يخضع لإصلاحات جذرية من اجل تجويد عمل محكمة النقض و جعلها تقوم بدورها القانوني و السيادي , و ليس فقط القيام بإجراءات مقيدة للطعن في ضوء معيار مادي صرف , قد يؤدي إلى الإخلال بمبدأ المساواة بين المواطنين , و يضرب فلسفة نظام النقض في العمق .

لذلك يحق لنا أن نتساءل بهذه المناسبة عن مدى قيام نظام النقض في بلادنا على أسس سليمة ؟ و هل بالفعل استطاع أن يقوم بدوره القانوني والسياسي من خلال توحيد تطبيق و تفسير و تأويل القاعدة القانونية، و التأثير الايجابي على المحاكم الدنيا من أجل خلق توجهات قضائية موحدة ؟ و ما هو العلاج الفعال للقضاء على ظاهرة تراكم الملفات المتخلفة التي تؤثر بشكل سلبي على منظومة النقض ببلادنا ؟

لقد أنشأت محكمة النقض – المجلس الأعلى سابقا – سنة 1957 كمؤسسة و حيدة في البلاد من اجل السهر على حسن تطبيق و تفسير و تأويل القانون، و المساهمة في تحقيق استقرار المعاملات ، و ثبات المراكز القانونية ن و دعم عنصر التوقع في إطار ترسيخ مبدأ الأمن القضائي. لكن للأسف نجد أن عمل المجلس الأعلى منذ إنشائه و هو يتعرض للعديد من الملاحظات بل للانتقادات في بعض الأحيان ، لاسيما أمام التضارب الكبير الذي تعرفه قراراته و التي تعكس توجهات قضائية مختلفة في أمور متشابهة ، بحيث إنه يبدو عاجزا عن ترسيخ توجه قضائي موحد و متوا ثر .

و هذا الخلل الذي يعاني منه نظام النقض في بلادنا ناتج عن عدة أمور لعل من أبرزها تشعب و تعقيد آليات عمل محكمة النقض سواء على مستوى هياته الإدارية أو القضائية ، أو محاميه المقبولين للترافع أمامه ، أو من جهة أخرى على طريقة عمل المجلس أو المسطرة المتبعة أمامه. ناهيك أيضا عن التعدد الكبير في الاختصاصات التي تعود إليه و تنوعها رغم خروج بعضها عن إطار دورها كمحكمة قانون، و انشغاله ببعض الاختصاصات الثانوية التي من الممكن منحها لجهة إدارية أو قضائية أخرى غير محكمة النقض .

كما يمكن القول أن اقتباس المشرع المغربي للآليات القانونية و المؤسساتية من النظام القانوني والقضائي الفرنسي رغم اختلاف البيئة الاقتصادية و السياسية و الثقافية بين البلدين يضر بشكل واضح بمنظومة العدالة ببلادنا . لا سيما أن نظام النقض الفرنسي الذي استقى منه المشرع المغربي نظام المجلس الأعلى سابقا و محكمة النقض حاليا ، منتقد بشهادة الفقه القانوني الفرنسي الذي يعتبر نظام النقض الفرنسي أسوأ نظام نقض في العالم ، و مع ذلك لم و لا يسع المشرع المغربي سوى الاقتباس من هذا النظام السيء .

إذن، ما هو الحل من اجل تطوير نظام النقض المغربي ، و جعله يقوم بالأدوار المنوطة به على أحسن ما يرام لاسيما توحيد الاجتهادات القضائية من خلال ممارسة الرقابة على التطبيق و التفسير و التأويل من طرف المحاكم الدنيا بشكل يرسخ مبدأ الأمن القضائي ؟ هل يمكن تغيير منظومة النقض كاملة و بشكل جدري ؟ أم أنه يكفي القيام بإصلاحات جزئية في إطار هذا النظام القائم من الرفع من مستوى النقض في اتجاه جعله يحقق أهدافه السامية ؟

بداية لابد من الاعتراف على إن هناك أنظمة نقض أكثر نجاحا على مستوى العالم خاصة نظام النقض الانجلوساكسوني سيما المحكمة الفدرالية العليا الأمريكية و المحكمة العليا البريطانية و التي تعتمد على معايير نوعية تجعل الملفات القابلة للنقض لا تتجاوز العشرات , كما ان قضاة النقض أيضا لا يتجاوز عددهم رؤوس الأصابع و مع ذلك فهو النظام الأكثر ناحا و الأكثر تحقيقا للأمن القضائي ، كما أنه يمكن التفكير في إحياء الثرات الفقهي و القضائي الإسلامي و استخراج نظام نقض يتميز بالأصالة و ينبع من عمق الهوية الإسلامية للدولة .

إلا انه مع ذلك يمكن التأكيد أنه يصعب في الوقت الحالي إحداث تغيير شمولي في نظام النقض سواء باعتماد نظام النقض الانجلوساكسوني بحكم غرابة النظام عن البيئة القانونية و القضائية المغربية ، كما لا يمكن اعتماد نظام نقض إسلامي بناء على الجمود و عدم التطور الذي عرفه هذا النظام ، ناهيك على أن أغلب القوانين المطبقة وضعية و لا علاقة لها بأسس الشريعة والفقه الإسلامي.

لذلك يمكن القول على أن الحل الأنجع من اجل الحصول علة نظام نقض يوحد الاجتهادات القضائية و يحقق الأمن القضائي هو أن يتم الإبقاء على نظام النقض الحالي لكن مع القيام بإصلاحات جوهرية تبقى ضرورية من اجل تفعيل دور محكمة النقض ، وبشكل يمكنها من القيام بدورها القانوني و القضائي و السياسي الخطير الذي تضطلع به. و من بين هذه الإصلاحات الممكن إعمالها نجد ما يلي :

– بناء على انه من الصعب التخلي على نظام الغرف و الأقسام ، و اللجوء إلى نظام الغرفة الوحيدة كما هو الحال في بعض الأنظمة القضائية الانجلوساكسونية و لاسيما المحكمة الفيدرالية العليا و المحكمة العليا ببريطانيا، فإنه من الضروري خلق هيأة مشتركة فيما بين الغرف هيأة مشتركة داخل الغرفة المتعددة الأقسام، و ذلك لضمان توحيد الاجتهاد القضائي ، الذي يعتبر الدور الأساسي لمحكمة النقض .

– أن ضغط الملفات و ضرورية وجود عدد كبير من القضاة بمحكمة النقض لتصفية فلول هذه الملفات ، يجب أن لا ينسينا انه من اللازم سن مسطرة انتقائية صارمة من اجل اختيار العناصر التي تحكم الملفات بمحكمة النقض ، و هذه المسطرة يجب أن تعتمد بالأساس على الكفاءة وعلى عناصر أخرى موضوعية ، مع ضرورة التقليل ما أمكن من عددهم ، لأنه كما يقول بعض الفقه المقارن إن ارتفاع الحاجة إلى عدد هائل من قضاة المحكمة العليا تجعل مهمة اختيار القضاة الذين يستجيبون للشروط المطلوبة أمرا صعبا جدا.

– يجب التخلي عن المعيار الزمني بالنسبة لقبول لاختيار المحامين المقبولين للترافع أمام محكمة النقض ، و الذي أكده و رسخه المشرع المغربي في قانون المحاماة بالمغرب ، بل و أطال من مدته حيث أصبحت خمس عشرة سنة بدل عشر سنوات و يجب اعتماد معايير أخرى تعتمد بالأساس عنصر الكفاءة ، و الاستهداء ببعض ما تقرره بعض التجارب المقارنة في هذا الشأن

– أنه بالنظر إلى أن محكمة النقض و مند تأسيسها بتاريخ 23/10/1957 عرفت اضطرابا في تدفق الملفات عليه ، فقد سجل سنة 1958 ما يقارب ألفي قضية ، و ظل هذا العدد يتزايد إلى أن وصل إلى ما يقارب 40 ألف قضية في السنة , ووصل السنة الفارطة 2019 إلى رقم قياسي وصل إلى 51591 قضية بحسب ما أكدته الإحصائيات الأخيرة , الشيء الذي أنعكس على عمل المحكمة ، لذلك ينبغي منح هذه الأخيرة سلطة ذاتية للتحكم في عمله مثل اعتماد مسطرة انتقائية تسمح بحصر عدد القضايا الواجب البت فيها من طرف محكمة النقض ، عن طريق دراسة قبلية تمكن من مراقبة جدية الطعن، وهذا الأمر من شأنه أن يمكن محكمة النقض من الاضطلاع بدورها الأساسي المتمثل في توحيد الاجتهاد القضائي .

– انه من الضروري تفعيل مسطرة اجتماع غرف محكمة النقض ، المنصوص عليها في الفصل 373 من ق م م ، و ذلك للوصول إلى غرضين ، الأول هو ثبات و استقرار الاجتهادات القضائية ، و الثاني السير بهذه الأخيرة نحو الأفضل و الأوفق بتكييفها مع المستجدات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الأخلاقية .

– انه يجب القيام ببعض الإصلاحات المسطرية، التي من شانها أن تساهم في تسهيل و وثيرة البت في الملفات ، و الوقوف على كنهها و حقيقتها بشكل أفضل ، و هكذا فمن الأفضل إدماج المسطرة الشفوية إلى جانب المسطرة الكتابية ، و ذلك لان المسطرة الأولى تجعل كامل الهيئة على دراية بموضوع النزاع ، بعكس المسطرة الكتابية التي تجعل قضاة الهيئة غير المقرر – يجهلون موضوع الدعوى ، كما أنه من الأفضل التخلي عن نظام المقرر، لاسيما إذا تم اعتماد مسطرة انتقائية و تم التقليل من عدد الملفات المرفوعة إلى محكمة النقض ، لكن مع ذلك يمكن الاعتراف أن نظام المقرر هو الحل في حالة ارتفاع عدد الدعاوى المحالة على المحكمة الأعلى للبت فيها

– انه ينبغي إعادة صياغة الفصل 359 ق م م المحددة لأسباب الطعن بالنقض ، لكي تصبح أسباب الطعن هي : 1- خرق القانون 2- خرق قاعدة مسطرية جوهرية 3- عدم الاختصاص 4- الشطط في استعمال السلطة -5 عدم ارتكاز الحكم على أساس قانوني 6 – تحريف الثابت في الأوراق.

– يجب إرجاع نظام التصدي الذي كان منصوصا عليه في الفصل 368 ق م م قبل تعديله ، و ذلك بالنظر إلى أن لا يمس محكمة النقض بوصفها محكمة قانون في المواد المدنية ، و لأنه يقتصد الإجراءات ، و يقضي على جانب من التعقيد و الشكلية التي تهيمن على مسيرة التقاضي عموما , ثم إن محكمة النقض لم تستعمل حق التصدي فيما قبل إلا على وجه صحيح .

– يجب تعميم مسطرة إيقاف التنفيذ المنصوص عليها في الفصل 361 من ق م م ، وعدم حصرها في الحالات الثلاث المحددة من طرف المشرع ، و ذلك لما لذلك من أهمية لاسيما في بعض الحالات التي يصعب فيها إعادة الحالة إلى ما كانت عليه ، و بالتالي فالحل يبقى هو إعطاء هيئة الحكم لدى محكمة النقض سلطة تقديرية في إيقاف التنفيذ أو عدم إيقافه في الدعاوى المعروضة أمامه.

– يجب التقليل ما أمكن من الاختصاصات الثانوية لمحكمة النقض ، و التي لا تدخل في صلب دوره الرئيسي المتمثل في توحيد الاجتهاد القضائي ، و السهر على حسن تطبيق القانون ن و ذلك حتى لا يتأثر هذا الدور الرئيسي للمجلس ، أمام تراكم الاختصاصات الأخرى.

– ينبغي الزيادة في المجهودات المبذولة من اجل تحديث الإدارة القضائية لما لها من دور في مساعدة القضاة و العمل القضائي بمحكمة النقض في القيام بدورها على أحسن وجه ، و أيضا من اجل تحسين التنسيق وتفادي التضارب الواقع في الاجتهادات القضائية ، و لما لا تكون محكمة النقض عبارة عن محكمة اليكترونية تتم فيها جميع الإجراءات القضائية بطريقة معلوماتية و الكترونية .

– يجب العمل على نشر كافة الاجتهادات القضائية لمحكمة النقض و ليس جزء منها فقط، كما هو حاصل الآن ، و ذلك لما يشكله ذلك من رصيد قانوني و قضائي يجعل القضاة على بينة من هذه المواقف القضائية السابقة ، مما يقلل من فرص خرقهم للقانون، ومن ناحية أخرى فإن مواقف محكمة النقض من خلال قراراتها تساهم في تطوير الوعي القانوني لدى الدارسين بصفة خاصة ، و لدى جميع أفراد المجتمع بصفة عامة.

– يجب على المشرع المغربي أن يرسخ مبدأ الاعتماد على أعمال تحضيرية لكل القوانين التي يحدثها و ذلك حتى تكون فلسفته واضحة بشكل يقلل من التضارب القضائي في هذا المجال ، و الذي يكون ناتجا بالأساس عن عدم وضوح موقفي المشرع من إشكالية قانونية معينة ، و بالتالي فانعدام الأمن القانوني ، يؤدي إلى انعدام الأمن القضائي.

المصدر الصفحة الرسمية للأستاذ خالد الإدريسي على الفايسبوك.

دور الطعن بالنقض فــي ضمــان الأمــن دور الطعن بالنقض فــي ضمــان الأمــن

زر الذهاب إلى الأعلى