جنازة “ثقافة”

في زمن التفاهة، من الطبيعي أن تنبطح الثقافة، وتترك جسدها القدسي، تحت تصرف التافهين والساقطين والمنحلين والفاسقين والصعاليك، وفي زمن السخافة، من الطبيعي أن يتوارى عن الأنظار، “المثقفون” و”المفكرون” و”العلماء” و”المدرسون” و”صناع الفرجة” و”الفن الراقي”، ويصعد إلى المنصات والخشبات، “المنحرفون” و”الخارجون عن سطر الثقافة الحقة” و”المتجاوزون” لعتبات القيم والأخلاق والدين والأعراف المجتمعية الضاربة في القدم.

بين “مطرقة التفاهة ” و”سندان السخافة”، تقف “الثقافة” اليوم، عند عتبة الانتحار إن لم نقل انتحرت فعلا وواقعا، بعدما بات للصعاليك من أشباه الفنانين، خشبات ومنصات، يمررون عبرها “اللاثقافة” وما يدور في فلكها من “وقاحة” و”عبث” و”قلة حياء”، أمام عدسات الكاميرا وأنظار جمهور “تائه” إن لم نقل “تافه”، يعد شريكا ومساهما في ذات الآن، فيما باتت تتعرض له الثقافة المجتمعية بكل مستوياتها، من انتهاكات جسيمة وجرائم حقيقية، بعدما جعل من التافهين نجوما ومن الساقطين مشاهير، تتعقبهم الأنظار والعيون والميكروفونات والعدسات.

ما حدث في مدينة الرباط عاصمة الثقافة الإفريقية، من انحراف قيمي وأخلاقي في مهرجان فني تحت إشراف الوزارة الوصية على قطاع الثقافة والتواصل والشباب، يعد ليس فقط انزلاقا أو خروجا عن النص من قبل “نكرة” تحول إلى “معرفة” في سياق البؤس الثقافي والقيم والأخلاقي، بل وجريمة مع “سبق الإصرار والترصد” بلغة القانون الجنائي، في حق الثقافة المغربية التي باتت أرضا مستباحة للعابثين، وإهانة ما بعدها إهانة، لكل من تحمل ويتحمل الأعباء والمشاق، حفظا لثقافة الأمة وحرصا على حضارتها الضاربة في القدم، من علماء ومفكرين ومثقفين وإعلاميين مهنيين وفنانين ومبدعين.

الجريمة الثقافية التي كانت الرباط مسرحا لها، لاتحتاج إلى بحث أو تحري أو حتى استنطاق، لأن المجرم معلوم والأدلة الجنائية موثقة بالصوت والصورة، والضحية “ثقافة مجتمع” برمته، تعرضت إلى الاعتداء القدر والطعن الغادر في لحظة ذاب فيها جليد المسؤولية والالتزام، ورحلت فيها نوارس الفن الراقي، لتحضر فيها نسور “قلة الحياء” بلحمها وشحمها، تحت مرأى ومسمع مسؤولين وأطفال صغار وشباب يافعين وآباء وأمهات، على أكتافهم يصعد التافهون والساقطون والمنحرفون.

إذا كانت الجريمة ثابتة والمجرم معلوم، والضحية معلومة، والاعتداء الثقافي جسيم، فلا مناص من توجيه البوصلة كاملة نحو الجهة أو الجهات التي فسحت المجال أمام “تافه” ليصعد المنصة ويفجر طاقته الإبداعية/القدرة، أمام جمهور مهما تمت مؤاخذته على الحضور، فهو يستحق أن يتم التعامل معه بما يلزم من المسؤولية والانضباط والاحترام والتقدير، وفي هذا الإطار، لن نهدر الزمن في البحث والتقصي، لأن مسؤولية الوزارة الوصية على القطاع ثابتة بما أنها تبقى “الجهة المنظمة” للحفل الفني، الذي وقع فيه “الانزلاق العابث”، وبدون شك، فقد أساءت الاختيار والتقدير، في مناسبة فنية، كان يفترض أن تمنح فيها الفرصة لرواد الأغنية المغربية الذين يرحلون عن عالمنا في صمت، وللمبدعين من الجيل الجديد، المشهود لهم بالمسؤولية والاحترام والوقار والاتزان والاجتهاد، لكن كفتها، مالت للأسف نحو”اللاثقافة”.

ما وقع تتحمل مسؤوليته جهات أخرى غير الجهاز الوصي، من منتجين ومستشهرين وإعلاميين وجمهور تائه، وبفضل هؤلاء، تحول التافهون والعابثون وصناع الوقاحة والقدارة، إلى مشاهير ونجوم ساطعة في سماء العبث، وتحول العلماء والمفكرون والمثقفون والمبدعون، إلى ما يشبه “الكومبارس” في فيلم ساقط، وبقدر ما نحمل هؤلاء بمستويات ودرجات مختلفة، مسؤولية ما آل إليه المشهد الثقافي من ميوعة وانحطاط وبؤس، بقدر تكون إدانتنا قوية للوزارة الوصية على القطاع، التي تتحمل مسؤوليات سياسية وثقافية ووطنية، في صون الثقافة المجتمعية ودعمها وتشجيعها، وحمايتها من التافهين الذي يعيثون في أرض الثقافة عبثا وقدارة وانحطاطا.

مدينة رباط الفتح بما تزخر به من منارات وصوامع ومساجد جامعة وأسوار ومدارس عتيقة وجامعات وصروح معمارية ومؤسسات استراتيجية حارسة على التراث الوطني، ومن أسوار وأبراج وقصبات وسواحل وغابات وحدائق ومنتزهات، وما تختزنه من ماضي مشرق وتاريخ ضارب في القدم، وما تمثله من رمزية سياسية وسيادية ومن إشعاع وطني ودولي، فهي تحتاج إلى فعل ثقافي حقيقي يليق بقيمتها ومكانتها، يوازي ما تشهده المدينة من إقلاع تنموي لافت للنظر، ومن العيب بل ومن الخجل، أن يصعد في منصاتها الفنية والإبداعية، “تافهون” و”متهورون” تفصلهم مسافات ضوئية طويلة عن “الثقافة الحقة” و”الإبداع الراقي”.

ما وقع في رباط الفتح التي ازداد جمالها الفتان بهاء بصومعة حسان الأنيقة، وببرج محمد السادس البديع، هو أكبر من “أسف” عبر عنه الناطق الرسمي باسم الحكومة، وأكبر من “اعتذار” لم يقدم من قبل الوزارة الوصية على القطاع، هو “حدث”، يقتضي “رؤية استراتيجية داعمة للفعل الثقافي” في ربوع المغرب، متصدية لكل أشكال “التفاهة” التي تمرر باسم “الفن” و”الإبداع”، كما يقتضي النظر في “المهرجانات الفنية” التي تنظم في عدد من المدن، والتي تسخر لها ميزانيات ضخمة من المال العام، في وقت يمر فيه المغرب من سياقات اقتصادية واجتماعية صعبة، تقتضي توجيه بوصلة الأموال التي تقدم بسخاء باسم الفن والترفيه، نحو دعم القدرة الشرائية للمواطنين، خاصة ونحن نعيش سياق الحوار الاجتماعي، والاستثمار في قطاعات حيوية واستراتيجية وعلى رأسها “التعليم” و”الصحة” و”دور الشباب” و”دور الثقافة” و”ملاعب القرب” وغيرها.

الملك محمد السادس دعا في خطاب سابق، إلى تقوية “الجبهة الداخلية”، التي بدونها يصعب مواجهة مؤامرات ودسائس خصوم وأعداء الوحدة الترابية، كما يصعب كسب رهانات ما وعد به “النموذج التنموي” من خطط ومشاريع تنموية، وهذه الجبهة الوطنية، لا يمكن أن نؤسسها بالتافهين والسفهاء والعابثين والمتهورين والأنانيين. فأرض الوطن معطاء، وفيها علماء ومفكرون ومثقفون ومبدعون وخبراء في الداخل كما في الخارج، يبنون مجد الوطن في صمت، بعيدا عن الأضواء التافهة.

وعليه، وفي ظل ما نواجه من تحديات متعددة المستويات، وما بتنا نعيشه من تراجعات أخلاقية وقيمية، ومن بؤس ثقافي وإبداعي، آن الأوان، لنسمع صوت وكلمة ما أنجب هذا الوطن العزيز، من كفاءات وخبرات مشهود لها بالوطنية والنزاهة والاستقامة والتضحية ونكــران الذات، فبهؤلاء يبنى الوطن ويحمى الوطن، لا بالتافهين والساقطين والبائسين واليائسين، ولن نترك الفرصة تمر، دون تحريك البوصلة نحو “التعليم” الذي يحتاج إلى ثورة إصلاحية حقيقية” لا إلى “مساحيق تجميل”، لأن رهانات “الوطنية الحقة” و”التنمية الشاملة” و”ثقافة الإبداع والرقي والجمال”، لن يتم بلوغها وإدراكها، إلا عبر منظومة تعليمية عصرية تقود المغرب نحو المستقل برصانة وتبصر وثبات، بعيدا عن “الصعاليك” و”قطاع الطرق” ممن يتربصون بثقافة الأمة ويهددون تاريخها الجماعي وهويتها المشتركة..، وفي خاتمة هذا المقال، ندعو الأعزاء القراء إلى الوقوف من أجل الصلاة على الجنازة .. جنازة ثقافة .. ، احتجاجا وتنديدا على ما شهدته منصة الرباط من “قلة حياء”، لايمكن قطعا السكوت عنها، من باب المسؤولية الفردية والجماعية في الدفاع عن ثقافة النبل والرقي والتميز والإبداع والجمال…

#جنازة #ثقافة

زر الذهاب إلى الأعلى