تحتَ النقاب الأسوَد

كان يُحرِّم الذهابَ إلى الشواطئ لِمَا يراه كشْفًا للعورات ونَشْرًا للمنكرات؛ لكن حدثَ ذات يوم أن التقَيتُه صدفة في محطة استجمام شاطئية بعيدة. وبعد فشلِ تنكُّره وإبداء عدم تعكُّر صفْوِ رحلته، أَصَرّ على تقديم موعظة بدون عنوان، لمْ أدْرِ ما سِياقها، كل ما أذْكر منها أنه ركز على زيادة الأجر والثواب بكثرة الخُطى وفائدة الاستعانة على قضاء الحوائج بالكتمان وفضْل التأمل في خلق الله برا وبحرا. والحقُّ يقال، صعُبَ علَيَّ الاستماع إلى موعظة دينية من شخص بلباس البحر، فأنا لم أكن أتصور وقتها رجلَ دِين يستطيع أن يفرض استعلاءه الإيماني بدون عَبَايَة قصيرة، فهذه من لوازم الاسْتِشْياخ التي رَسَّخَها رجال الدين وتبنّاها العقل الجمعي. ولمّا كان هذا الاعتقاد مُتَجَذِّرا لم أجد مانعا من التنصيص على ألاَّ يَستجِم المصطاف على شاطئ وهو فقيه، أو على الأصح لا يعِظ الواعظ وهو بلباس البحر. يريد بالآراء الفقهية المترسبة في عقله تضييقَ الحريات على الناس، ويذهب خِلسةً إلى الشاطئ للترويح عن النفس؛ يُنْكِره قولا ويمارسه واقعا، حتى إذا ضُبِط متلبِّسا ألْبسَ الاصطياف لباس الدين لأنه يعلم أنه “على قدْر ادعاء الفضيلة تأتي الفضيحة” كما قال أحد الظرفاء. ولَئِن كان صاحبنا يُضْمر حُب الدنيا ويُظهر في المقابل الورع والزهد فليعْلم أن هذا السلوك أصبح من البديهيات المألوفة في المجتمعات المنافقة.

أما الآن، فقد تغيرت استراتيجية اقتحام أماكن الاصطياف؛ رؤوس مُعمَّمة لا يَقْرَبُها شيطان رُفقة عفيفات شامخات بِنِقابِهن على شاطئ البحر. فما السر وراء تَوَافُدهم المكشوف على فضاءات الاختلاط والتبرج؟ عُدتُ إلى فتاوى شيوخ السلفية، القديمة والحديثة، فوجدتُها تُجْمِع على تحريم الاصطياف على الشواطئ بوجود مخالفات شرعية لا يمكن تجنبها؛ لا يحِل للنساء السباحة قوْلا واحدا، ليس لأن النقاب يخنق الأنفاس والحجاب يلتصق بالجسد عند التَبلُّل بالماء، ولكن لأنه يستحيل على المنقبات تجنب النظر إلى عورات الرجال مثلما يتعذر على ذكورهنَّ غضُّ البصر عن الكاسيات العاريات.

إذن ما سبب تمرد هؤلاء السلفيين والسلفيات على مشايخهم المبَجَّلين؟ أهو التوسع في المحرَّمات الذي يُكدِّر عيش المسلم فيدفعه إلى العصيان؟ أيدعو الاستمتاع بالطبيعة إلى الانعتاق من رِبقة رجال الدين؟ قد يكمُن هُنا الدافع الحقيقي، لكن ما صرَّح به رجلٌ مُنْفَلِتُ اللحية هو أن انتصار الحق على الباطل يقتضي مزاحمة الخير للشر، وبسط النفوذ على البحر يتطلب مخالطة أهل المعاصي مع الالتزام بالضوابط الشرعية في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى وإن تطَلَّب الأمرُ إقامة الصلاة وسط المصطافين العراة. هذا ما فعله أحد “الملتزمين” قبل أن يجلس مع مجموعة من النساء المُنتقِبات المحجَّبات على الطريقة المَشْرقية. ويتعلق الأمر باللباس الموحَّد الذي يُكسِب المرأة هويتَها السَّلفية، فهو “لوغو” الجماعة، إذ توحيد الزي يعني دائما الانتماء إلى مجموعة مستقلة متميزة.

أثار فضولَ المصطافين تواجدُ هذه الزُّمْرة المتنافرة مع حيوية الأجواء الشاطئية بما تعْرفه من مهرجانات موسيقية وأنشطة ترفيهية. وإذا كان المغاربة يتقبَّلون الزي التقليدي المغربي الأصيل بِلِثامه الذي لا زال رمزا للحياء والوقار في بعض مناطق المغرب، فلإنهم يعْلمون أن ليس وراءه تيار فكري معين، ذلك أن المرأة المغربية بفطرتها السَّوِية تميل إلى الحشمة، ولا داعي أن تُفرَض عليها العِفَّة المُسْتَورَدة مرفوقةً بلَوازِمها وإكْسِسْواراتها. فالهندام السلفي الذي يتم تسويقه بِاسم الشرع لا ينفصل عن الفكر الوهابي، أي أن مَنْ ترتديه سلفيةُ التفكير ومشرقيةُ الولاء بالضرورة، تَتَمَذْهب وتأْتَمِر بما يُمليه مشايخ قُطْر بعيد يفتقدون التأصيل العلمي القويم؛ فحيثما كان التطرف فثَمَّ آراء فقهية مهرَّبة من الخارج.

أخذ المصطافون يَسْتَرِقون النظر إلى النساء المُتَّشِحات بالسواد؛ لقد خَطفْنَ الأضواء من مُرتدِيات البِكيني والبُركيني واْستَأثرْنَ باهتمام مُرتادي الشاطئ رجالا ونساء. لم يَبْدُ عليهن القلق من نظرات الناس، فقد كُنَّ مُنْهَمِكات في التقاط صور السِيلْفي وهُنَّ متحَلِّقات حول طاولة بلاستيكية تُظِلها شمسية لحظةَ الْتِحاق وافدة جديدة، سمينة لدرجة أن انطبق عليها الوصف السائد “خيمة سوداء متنقلة”، وزَّعتْ عليهن عُلَب مُثلَّجات وملاعق صغيرة ثم أخذتْ لها مكانا في مجلس الحريم.

كثُرت ملاحظات وتعليقات المصطافين حول هذا المشهد غير المألوف؛ صاح أحدهم “لقد حَلَّت الغِرْبان السُّود مَحل أسراب النورس، فمتى نستمتع بألوان زاهية تطرد الكآبة وتُضْفي على المنظر البحري جَمالا وتزيد النفس انشراحا؟”؛ وقال آخر مستغربا وجود الآيس كْريم على مائدة المُنتقِبات “نحن على موعد مع لقطة لم يسبق أن شاهدناها في كل الأشرطة الوثائقية عن طُرُق الاِقْتِيات عند الكائنات الحية”. وأضافت فتاة كانت برفقته “احذروا، خلْف كل نقاب لؤلؤة مكنونة، لو كُشف عن الوجه أثناء الأكل، لحصلتْ فتنةٌ عظيمة وأدى التنافس والاقتتال بين الرجال إلى سقوط ضحايا على الشاطئ!”. وأخرى لفتَت انتباهَ الجميع إلى التصوير” أليس عندهنَّ من المحَرَّمات؟ وفيمَ يُفيدهنَّ أصلا؟ أيمكنُ تمييز الأشباح؟”

وهكذا تناسلت التعليقات الساخرة وتعززت الآراء بشواهد من الواقع. فهذه تَنقَّبت للظفر بزوج ولَوْ في إطار التعدد؛ وتلك وقعت تحت الضغط، كلما سنحت الفرصة تحررتْ من النقاب وأظهرت مِن أخلاقها ما كان خافيا؛ وأُخْرَيَات تنقبن للتنكُّر طمسًا لِماضٍ أسود، أو للتمويه، فَكُنَّ أخطرَ على المجتمع من أسوَء المتبرجات. إنها نماذج تُسيء إلى اللائي يرتدين النقاب مقتنعات بوُجُوبِه شرعا؛ وهؤلاء الملتزمات حقًّا لا يعْلمهن إلا الله تعالى.

وما دام أمرُ اللباس والاصطياف لا يعدو أن يكون حرية فردية ولا يصل إلى درجة فرض الوصاية الدينية وإجبار المخالف على التبعية، فالمرجو “كل واحد يعوم فبحرو”؛ لكن مع الحذر، لأن أغلب المغاربة “الموجة اللي جات تديهم”.

#تحت #النقاب #الأسود

زر الذهاب إلى الأعلى