الوجودية والتوجيه

“الإنسان محكوم عليه بالحرية”، مقولة سارتر الشهيرة، التي بنى عليها مذهبه الوجودي في التعاطي مع الفرد في علاقته مع ذاته ومع البيئة ومع الآخر، أن تكون حرا يعني أن تعيش قلقا وجوديا، قلق من المستقبل قلق مما يجب أن نكون عليه. فالحرية تفرض الاختيار، الاختيار بين الممكنات اللامتناهية، وأي اختيار هو إقصاء لاختيارات أخرى، لممكنات أخرى. الحرية تستلزم المسؤولية، لأن الإنسان مسؤول عما يفعل بمجرد أن تواجد في العالم. “إن الإنسان يوجد ثم يريد أن يكون، ويكون ما يريد أن يكونه بعد القفزة التي يقفزها في الوجود. فهو ليس إلا مجموع أفعاله، ومجموع أفعاله في حياته، فهو مجموع أفعاله وهو حياته”. الإنسان بهذا المعنى ما هو إلا “سلسلة مشاريع. وهو مجموع ومنظم وحاصل العلاقات التي تكون هذه المشاريع”.

أصل كلمة (إيتيمولوجي) مشروع في اللغة العربية هو فعل شرع، ومعناه في لسان العرب هو تناول الماء بفيه. وشرعت الدواب في الماء تشرع شرعا وشروعا أي دخلت. ودواب شروع وشُرع: شرعت نحو الماء. أي الانتقال من لحظة الحاضر، اللحظة التي همت فيها الدابة للفعل إلى لحظة المستقبل، فالمستقبل في الزمن الوجودي أهم وهو سابق على الماضي والحاضر، “ولهذا فان الوجود في الآنية هو أيضا وجود مقدم خارج الآنية يعنى أنه على سبق نفسه باستمرار، أي في حالة مشروع يتحقق في المستقبل”. “وبعبارة بسيطة سهلة نقول: إن الإنسان يعيش دائما في مستقبله، فوجودي هو ما سيكون عليه وجودي في المستقبل، ولهذا فإن الإنسان في سبق مستمر على نفسه. فوجودي إبان سن الحداثة هو أيضا مستقبلي في الشباب والكهولة والشيخوخة. ووجود الطفل هو في الوقت نفسه وجود الرجل المقبل الذي سيكون”.

أما في اللغة الفرنسية فكلمة projet هي من أصل اللاتيني projectum de projicere (jeter quelque chose vers l’avant). “كلمة مشروع في اللغة الفرنسية لا تجد معناها في ما نود أن نفعله، بل في ما نود أن نكونه ce que l’on a l’intention à être”.

التوجيه بهذا المعنى هو اختيار ما نود أن نكونه في المستقبل، هو الانخراط في مشروع الحياة والالتزام بتحقيقه، وتحمل مسؤولية اختياراته. هو ولادة جديدة تحمل الإنسان من الانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرشد وما يصاحبها من تغيرات عميقة على المستوى المعرفي والوجداني والاجتماعي. تدفعه إلى الانخراط الواعي في بناء مشروعه الشخصي. “هذا البناء يستوجب من المراهق أن يعي نفسه أولا ويحدد اهتماماته الشخصية والمهنية، كفاياته، قيمه، ورغباته وأكثر من هذا أن يعي شكوكه ومخاوفه”.

الوعي بمخاوفنا وشكوكنا هو ما يعبر عنه المذهب الوجودي بالقلق الوجودي. “أن الوجود يعلن أن الإنسان يحيا في قلق ويكابد القلق”، وهو يعني أن الإنسان عندما يلزم نفسه تجاه شيء ما، ويدرك في الوقت نفسه أن اختياره سيكون اختيارا لما سيكونه، وأنه لا يختار لنفسه وحدها، بل هو مشروع لنفسه، يختار للإنسانية كلها في الوقت نفسه، ففي لحظة كهذه لا يمكن للإنسان أن يهرب من الإحساس بالمسؤولية الكاملة العميقة”. “ولهذا لا بد للإنسان أن يعيش في القلق لينتبه إلى حقيقة الوجود. ذلك أن الإنسان بطبعه يميل إلى الفرار من وجه العدم الماثل في صميم الوجود، وذلك بالسقوط بين الناس وفي الحياة اليومية الزائفة. ولكي يعود إلى ذاته لا بد من قلق كبير يوقظه من سباته”.

هذا القلق ليس قلقا سلبيا، إنما قلق إيجابي إذ سيعلن سارتر في كتابه ‘الوجودية مذهب إنساني’ أن “ما نعنيه هنا ليس القلق الذي يؤدي إلى الاستكانة واللافعل، ولكنه القلق الصافي والبسيط، من النوع الذي يعرفه كل من تحمل مسؤولية من المسؤوليات في يوم من الأيام، وهو ما أعبر عنه بقولي إن الإنسان محكوم عليه بالحرية: محكوم لأنه لم يخلق ذاته، وهو حر لأنه قد صار مسؤولا عن كل ما يفعل بمجرد أن تواجد في العالم”.

إن “وجود الإنسان بلا حرية يجعله أشبه بمحصلة أو مجموع للقوى الطبيعية، وإنما تظهر الفردية والشخصية بظهور الحرية والاختيار. والاختيار عند كيرجورد “مخاطرة دائمة، إذ يشعر الفرد المحاط بجو من عدم اليقين والاستقرار، ومع ذلك فإنه يختار أن يفعل على أن يظل حائرا بين الإمكانيات المختلفة، والفعل الحر إذن بداية مطلقة لا عقلية أي لا يمكن التنبؤ بها أو تفسيرها تفسيرا منطقيا. ونحن إذ نختار إنما نختار أنفسنا في الواقع، فالحرية هي اختيارنا لأنفسنا أو هي توتر الموجود في اتجاهه نحو نفسه”.

ممارسة الفعل التوجيهي، ممارسة وجودية ” فالمستشار في التوجيه هو قبل كل شيء من يقول المستقبل، ليس بمعنى التنبؤ به مثل الساحر او الكاهن، لكن بمعنى انه يضعه بين يدي المستشير. ما هي الدراسات التي يمكن ان اتبعها السنة المقبلة؟ ماذا سأفعل في حياتي عندما اصير راشدا؟ ما هي المهنة التي سأمارسها؟” وراء كل هذه الأسئلة فالمستشير ينتظر من المستشار ان يطور رؤية استشرافية لحياته، ان يتصور مستقبله، ان يموقعه في مشروعه”.

في تقرير اليونسكو لـ jacques Delors، سنة 1996 التعليم: “كنز يختبئ في الداخل”، والذي أكد أن التكوين يتأسس على أربعة أعمدة. ألا وهي تعلم أن أعرف، تعلم أن أفعل، تعلم أن نعيش سويا، أن نعيش مع الأخرين، تعلم أن أكون. معرفة كينونتي تعني أن أعيش وجودي الأصيل على حد تعبير هايدجر “فنحن حينما نقرر أن نحيا هذا الوجود الأصيل لا يتغير شيء من المضمون العالم، وإنما يتغير الضوء الذي نرى على هداه الناس والعالم، إنه أشبه باكتشاف جديد للعالم الذي نعيش فيه”. والبحث عن الأصالة يبدأ بالبحث عن تطابق أهدافي في الحياة مع قيمي ومبادئي، وبالمجمل التطابق مع فلسفتي في الحياة. فقد نجد تلميذا اختار لنفسه مسار علوم الاقتصادية وأتم مساره الدراسي بنجاح وتفوق لكنه في مسيرة البحث عن العمل سيصطدم بقلة فرص الشغل، ولم يتبق له سوى الاشتغال في بنك ربوي، إلا أن قيمه ومبادئه الدينية تحرم عليه الاشتغال في مثل هذه الأبناك. في هذه الحالة سيعيش تلميذنا صراعا داخليا عنيفا، بين إكراهات الواقع وقيمه. الخروج من هذا المأزق الوجودي يتوقف على إعادة بناء مشروعه الشخصي وفقا لفلسفته في الحياة. “فكل فرد عندما يختار نفسه فهو يختار غاياته، هذه الغايات تتراتب من خلال درجة الصعوبات التي يواجه الفرد من أجل بلوغها. وبعبارة أخرى، كل فرد يكتشف نفسه عن طريق المشاعر التي من خلالها تجعله يلتزم بفعله”.

الممارسة الوجودية في التوجيه هي “ممارسة فلسفية حوارية توليدية تسعى الى تحديد الفرضيات التي يضعها المستشير من اجل فهم الواقع والعالم والحياة. وتهدف الى كتشاف طريقة تفكيره وفهمه لواقعه المعاش. هذا الفهم لا يتوقف فقط على الأفكار انما يتجاوز ذلك الى المشاعر والسلوكيات والاماني والرغبات وكل طريقة يمكن ان يحيا بها الفرد”.

نجد البعد الوجودي في التوجيه حاضرا في الإطار المرجعي للمواكبة التخصصية الصادر عن الوحدة المركزية للتوجيه المدرسي والمهني سنة 2022، حيث سيؤسس لهذا الإطار على مجموعة من النظريات، كنظرية التحليل النفسي والسلوكية والسوسيوبنائية والإنسانية… دون أن يشير صراحة إلى حضور المقاربة الوجودية في التأسيس لهذه المواكبة التخصصية. إذ نجد في فقرة المواكبة النفسية الاجتماعية في إطار المقاربة التفاعلية للمواكبة التخصصية أن “المواكبة النفسية الاجتماعية تتأسس على” تحليل التفاعل متعدد الابعاد بين ذات المتعلم ومحيطه، وبين تجاربه الحياتية الماضية والحالية كما يتمثلها، واهتماماته وانتظاراته وطموحاته وأهدافه المستقبلية، في سياق اجتماعي معين، حيث تنتج عن هذه التفاعلات حالات ذهنية ونفسية قد تتطور لتصبح من عوائق الاختيار واتخاذ القرار كالقلق، والتردد، والخوف على سبيل المثال.

ولتجاوز هذه الصعوبات، تستهدف المواكبة النفسية والاجتماعية تحليل الإطار المرجعي الذاتي للمتعلم من خلال رصد مختلف تجاربه الحياتية، ومنظومة تمثلاته حول ذاته ومحيطه، وكذا تشخيص مختلف أشكال التأثير الاجتماعي في اختياراته”.

الاختيار واتخاذ القرار بناء على الاهتمامات والطموحات والأهداف المستقبلية بعيدا عن مختلف أشكال التأثير الاجتماعي، هو ما يعبر عنه هايدجر كما ذكرت سابقا “بالوجود الأصيل” في مقابل الوجود المبتذل الذي من أهم مميزاته “غلبة الثرثرة أو الدردشة، بحيث تصبح كلمة يقولون.. أو يقول الناس هي المرجع الأخير للحقيقة ومعيارا لكل دقة وعمق، فالكل يعرف كل شيء ويتحدث عن كل شيء وعن كل ما قد يحدث وما يجب أن يفعل الناس، وتصبح القدرة على الكلام مقياسا لمعرفة المرء بالأشياء بينما في الواقع لا يتحدث عن شيء ولا يعرف شيئا، وحينما يتمكن حب الدردشة في الإنسان يقطع كل صلة بينه وبين الوجود الحقيقي الأصيل”.

ولعلاج مثل هذه الحالات “حالة توجيه”، في إطار المواكبة النفسية والاجتماعية. يشير الإطار المرجعي للمواكبة التخصصية إلى أنه “يتم توظيف سيرورة الاستشارة كآلية للتدخل الوقائي أساسا ومقدمة في التدخل العلاجي في هذا الصدد، ولا سيما وفق مقاربة متمركزة حول الذات من خلال الإنصات النشيط. فعبر المواكبة النفسية والاجتماعية يقوم المتعلم بتفكيك إطاره المرجعي من أجل إعادة بنائه”.

إعادة بناء الإطار المرجعي هو مساعدة المستشير على إيجاد ذاته وتجاوز قلقه والبحث عن وجوده الأصيل وأكثر من هذا إيجاد “المعنى”، وقود الحياة، والذي بفضله يمكن لأي شخص أن يحول فشله إلى نجاح، أن يجتهد ويكافح “في سبيل هدف يستحق أن يعيش من أجله، فلا شيء يعين الإنسان على البقاء والاستمرار والثبات في أحلك الظروف مثل معرفته أن هناك معنى في حياته. وكما يقول نيتشه، إن من لديه سبب يعيش من أجله، فإن بمقدوره غالبا أن يتحمل أي شيء، وبمقدوره غالبا أن ينهض بأي شكل من الأشكال”.

#الوجودية #والتوجيه

زر الذهاب إلى الأعلى