الغش يقتحم أسوار كليات الطب!

قبل حتى أن تتلاشى أصداء الضجة التي أحدثتها أعمال الغش في الامتحانات الجهوية والوطنية الموحدة للبكالوريا برسم دورة يونيو 2022، التي تمكنت على إثرها العمليات الأمنية لمصالح المديرية العامة للأمن الوطني حول ردع الغش، من ضبط 573 شخصا على الصعيد الوطني من بينهم 468 مشتبها في ارتكابهم الغش، فيما يشتبه في تورط 105 من الأشخاص في قضايا مرتبطة بحيازة وترويج معدات معلوماتية متطورة، تستخدم في أغراض الغش المدرسي ونشر محتويات رقمية متعلقة به على الأنترنت.

فإذا بنا نفاجأ بانفجار فضيحة أخرى أكبر وأخطر من كل سابقاتها، وهي تلك التي اتخذ أبطالها من كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان في المغرب مسرحا لها، حيث أنه بمجرد انطلاق أطوار إجراء المباراة الوطنية لولوج هذه المؤسسات الرفيعة السمعة والمستوى، حتى تعالت أصوات الاستنكار والتنديد بما عرفته الاختبارات من تسريب للمواضيع وحالات غش هنا وهناك. مما خلف ردود فعل غاضبة على مواقع التواصل الاجتماعي، وأثار موجة عارمة من الاستياء في صفوف الطلبة والأطباء على حد سواء.

إذ كيف لا يعم السخط ليس فقط طلبة كليات الطب والأطباء، بل كل المهتمين بالشأن التربوي وذوي الغيرة الوطنية على مستقبل البلاد والأجيال الصاعدة، ولا سيما أن هذه الجامعات المتميزة ظلت عبر الزمان منارة العلم والمعرفة، وتشكل مشتلا لاستنبات خيرة الأطر الطبية ذات الكفاءة العالية، التي تتسابق عديد البلدان الغربية على استقطابها للعمل بمؤسساتها الصحية؟ ويعد الغش من الظواهر الاجتماعية السلبية الوخيمة العواقب على الفرد والمجتمع، باعتبارها انزياحا عن قيم ومعايير الشرع، فطالما يؤدي إلى انتزاع حقوق الآخرين وحرمانهم منها بطرق احتيالية خبيثة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالامتحانات المدرسية والجامعية أو مباريات التشغيل، لما يتم فيها من سطو على جهود الآخرين طوعا أو كرها، رغبة في الحصول على أعلى النقط وتحقيق “النجاح”.

فعلى الرغم من أن جميع المعنيين يعلمون بأن هناك إجراءات صارمة تنتظر الغشاشين، على أساس أنه يفترض في المؤسسات التعليمية الحرص على تكريس القيم الفاضلة والانضباط، والتحسيس بأن الامتحانات في معظمها مجرد محطة يتم خلالها قياس قدرات الممتحنين، غير أن بعض المترشحين يصرون على التمادي في العناد والمجازفة، ويسارعون إلى الغش غير عابئين بما قد يكلفهم ذلك من ثمن باهظ ويعصف بمستقبلهم. إذ أنه وفي ظل تنامي معضلة الغش في الامتحانات خلال السنوات الأخيرة، اضطرت الوزارة التربية الوطنية إلى وضع قانون زجر الغش سنة 2016، يتضمن عقوبات حبسية تتراوح ما بين ستة أشهر وخمس سنوات، وغرامة تتراوح ما بين خمسة آلاف وعشرة آلاف درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين، دون الإخلال بالعقوبات المنصوص عليها في القانون الجنائي.

والأدهى من ذلك أن ما تم ضبطه من حالات غش أثناء إجراء المباراة الوطنية للولوج إلى كليات الطب ببلادنا يوم الجمعة 29 يوليوز 2022، لم يتوقف عند حدود تبادل الأجوبة همسا بين المترشحين من الحاصلين على شهادة البكالوريا، بل تعداه إلى تسريب أوراق الاختبارات ونشرها في مواقع التواصل الاجتماعي قبل حلول الموعد المحدد للامتحانات في بعض المراكز، وإلى مغادرة عدد من المترشحين لقاعات الامتحانات وعودتهم “مسلحين” بالأجوبة، فضلا عن انتشار استعمال الهواتف المحمولة. وهو ما اعتبره الكثير من الملاحظين فضيحة مدوية، لم يشهد لها مثيل من قبل في هذا النوع من المباريات الجامعية، التي لم يكن مسموحا باجتيازها إلا لنخبة من المتفوقين ذوي المعدلات الجيدة.

وهو ما أدى باللجنة الوطنية لطلبة الطب والصيدلة وطب الأسنان إلى دعوة وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار المحسوب على حزب الأصالة والمعاصرة عبد اللطيف ميراوي، إلى التعجيل بإجراء بحث دقيق حول ملابسات الواقعة ليس فقط من أجل إعادة تنظيم المباراة، بل كذلك بترتيب الجزاءات على كل المتورطين من أساتذة ومترشحين، ومراجعة ظروف وكيفية ولوج كليات الطب ابتداء من الموسم الجامعي المقبل، حفاظا على سمعة الجامعات العمومية وضمان مبدأ الاستحقاق وتكافؤ الفرص. لكن الوزارة الوصية أكدت على أنها فتحت تحقيقا في الحادث، وتبين لها أنه تم بالفعل تسجيل حالات غش محدودة، ستعرض على العدالة لتقول كلمتها في حق المتورطين والمتواطئين معهم، نافية أن تكون عملية الغش بتلك الصورة المنقولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مشددة على أنها ستصدر في القريب العاجل بيانا لتوضيح الأمر وكشف الإجراءات المتخذة…

إننا نقر بأن هناك جهودا تبذل في اتجاه الارتقاء بمنظومتنا التعليمية مهما كانت متعثرة، حيث أن وزارة التعليم العالي اعتمدت مقاربة جديدة لدخول كلية الطب ابتداء من الموسم الجامعي 2022/2021، وذلك قصد إتاحة الفرصة لأكبر عدد ممكن من الحاصلين على شهادة البكالوريا الراغبين في استكمال دراساتهم العليا بأحد التكوينات في الطب والصيدلة وطب الأسنان، من خلال تخفيض عتبة الانتقاء التمهيدي للمترشحين إلى معدل 20/12 وتنظيم مباراة مشتركة لولوج السنة الأولى وتقريب مراكز المباراة لجميع المترشحين في المدن المغربية.

لكن واقعة مباراة ولوج كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان تسائلنا جميعا ولا يمكن أن ندعها تمر مرور الكرام، وإنما تستدعي وقفة تأمل عميقة أمام هذا الفيروس الخطير لاستخلاص العبر، والانكباب الجاد والمسؤول على بحث السبل الكفيلة بتحصين جامعاتنا من العدوى، إذ لا ينبغي حصر تسريب الامتحانات وحالات الغش في تخفيض معدل المشاركة في المباراة أو سوء التنظيم وعدم احترام وقت انطلاق الاختبارات في الكليات، لأن المشكل أكبر وأعمق من ذلك بكثير ويتطلب دراسات تربوية وبحوثا علمية…

#الغش #يقتحم #أسوار #كليات #الطب

زر الذهاب إلى الأعلى