“السارد وتوأم الروح”

دأب الباحث المغربي محمد الداهي، الاشتغال على السيرة الذاتية لسنوات طوال، وفيا لمشروعه النقدي ومُجَدِّدا لسؤال وأدوات الاشتغال فيها. بدءا من الاشتغال النظري عليها كجنس أدبي، ووضعها في السياق التاريخي لنشأتها، إلى مقاربتها تطبيقيا على متون عربية وغربية مختلفة من حيث شكلُ وزمن وفضاء الكتابة. ومحددا لخصائص كتابة الذات فيها، ولطبيعة علاقتها بالأجناس المجاورة، وبالأجناس التي تقع في المنطقة البينية مما يُصَعِّبُ عملية تصنيفها.

يأتي كتاب “السارد وتوأم الروح (من التمثيل إلى الاصطناع)” بعد تراكمات نقدية ومعرفية، لما يربو عن الثلاثة عقود. يقع في أربعمائة صفحة، طبعة 2021، عن المركز الثقافي للكتاب، للنشر والتوزيع. بعد التصدير المهم للسيمائي المغربي سعيد بن كراد، ومقدمة عامة للكاتب، قسم اشتغاله إلى ثلاثة أقسام كبرى، المعرفة بالأثر، جدارية ستندال، والمنطقة البينية. وجعل في كل قسم ثلاثة فصول، قارب من خلالها، أكثر من ثلاثين متنا مبينا منها خصائص وشروط الكتابة عن الذات، وكيفية خوضها في لعبة الزيف وهي تسرد الحقيقة. تُوج الكتاب بجائزة الشيخ زايد للكتاب التي تقيمها دولة الإمارات العربية سنويا، فرع الفنون والدراسات النقدية في دورتها السادسة عشرة.

الذات، هذه القارة المجهولة، كيف تشتغل على نفسها وتبوح بما يضج في دواخلها، في إطار ما يسمى ب “التخييل الذاتي”، هذا النوع الذي لم يكتمل تشكله، ولم يُجنَّس بعد. يسائل الكاتب، أيضا، العلاقة بين السيرة الذاتية وكل محكيات الذات بالرواية، وبين ملفوظات الواقعي والتخييلي. ومدى تلاقيهما و تباينهما، مع تركيزه على نقطة التباين تلك، التي تفرز نوعا ثالثا وهو التخييل الذاتي الذي ينزع إلى قول الحقيقة(نسبيا) من خلال التصنع والتمثيل والاصطناع، لأجل كتابة المحتمل الوقوع كذلك وليس، فقط، ما وقع.

إن هذا التخييل يسعف المؤلف على القبض على المنفلت، في فجوات الذاكرة، سواء عن وقائع عاشتها الذات الكاتبة فعلا، أو تمنت حدوثها وحلمت بها. وهذه المهمة يتحملها قرناء المؤلف المتعددون، الذين ينوبون عنه في التذكر والقول، سواء بشكل جلي أو ضمني. قبل غوص كاتبنا في دهاليز الذات الساردة، عبر نماذج متنوعة، من السرد القديم والحديث، ارتأى البداية بالحديث عن علاقة الملفوظ الواقعي بالتخييلي، حيث كان دارسوا السير الذاتية القدامى يفرقون بينها وبين الرواية، وفيما بعد تغير هذا الطرح، وحصل هناك تعالق وتشابك بينهما. فأصبح السارد يصدح بدواخل الذات متنكرا في صور كثيرة. بانيا كتابته السيرذاتية على الاصطناع والتخفي وراء هويات سردية عديدة كنوع من الثورة على التمثيل التقليدي والمواثيق الثابتة.

علاقات القطع والوصل بين السيرة الذاتية والتاريخ

ما هي العلاقة بين السيرة الذاتية والتاريخ؟ وأين يتقاطع المؤرخ مع كاتب السيرة الذاتية، وأين يفترقان؟

سؤال شغل محمد الداهي كثيرا، وللجواب عنه اشتغل مليا على تجربة ابن خلدون. بعد أن رصد تمثل العرب القدامى للسيرة الذاتية، كونهم أعطوا أولوية كبرى للجوانب الفكرية على حساب تجارب الذات مما أضعف جنس السيرة الذاتية العربية. ويرى كاتبنا أن هذا النوع من الكتابة، أفرز شكلا جديدا للكتابة عن الذات، وصنفه فيما أسماه السيرة الفكرية أو الذهنية، وهذا تماما ما جسده ابن خلدون في كتابه “التعريف” حيث أعطى صورة عن ذاته من خلال معارفه المتراكمة وحياته الفكرية، تكوينا وإنجازا. وإن آخذه طه حسين على هذا الطرح لكونه تجنب الحكي عن حياته الخاصة، مما يجعله منزاحا، في رأيه، عن خط سير جنس السيرة الذاتية.

لقد زاوج ابن خلدون في تأليفه بين المحكي الذاتي والمحكي التاريخي، باعتباره جزءا من الأحداث والفاعل فيها أحيانا والشاهد عليها كذلك. ويرى الداهي أن هذا التفاعل يقوم على صنع الحدث، وتعليله، وتقديم شهادات حية من التاريخ لأحداث عاشها وشهد عليها، وهي التي أثرت في مساره الفكري والشخصي، فشغلت وجدانه وصنعت موقفه من العالم. بالإضافة إلى عمله على التخفيف من حين لآخر، من الحمولة التاريخية، حيث يحيل عليها القراء للإلمام بتفاصيل الأحداث في كتابات أخرى، حتى لا يخرج عن مسار سيرته الذاتية.

لقد بُنِي اشتغال ابن خلدون على التقاطع والتفاعل بين محكيه الذاتي ومحكيه التاريخي رغم تباين الاختصاص فيهما، فقد أعطى طابعا تاريخيا للأحداث الواقعة سواء الشخصية منها أو العامة. وإن لم تحظى السيرة الذاتية كباقي الأجناس الأدبية، بالاهتمام والدراسة، وتبين الشعرية فيها، فإنها تتضمن مستويات جمالية وفنية وبلاغية. وقد عمل ابن خلدون على تحقيق المتعة الأدبية، من خلال جمال لغته واتساقها، مما جعل محكيه متماسكا مبنيا رغم استعماله الكثير من الاستطرادات، والاسترجاعات، والاقتباسات، والتكرار وغيرها، فهي لا تعطل الحدث الرئيسي وتبعدنا عنه، بل هي تساهم في تسليط الضوء على بعض الجوانب والمواقف والأحداث في حياته. كما أن تركيزه في سيرته على حياته الفكرية، لم يمنعه من التصريح بدواخل ذاته، وكيفية تصرفه في إدارة شؤونه الخاصة بكل حكمة، ومواجهته الصعوبات. ولتوثيق ما حدث، اعتمد ابن خلدون، على دعامات كثيرة (شواهد متنوعة) وهي بمثابة سندات تدعم طرحه وسرده، وتثبت حقيقة ما رواه، كما عمل على التدقيق في التواريخ والأزمنة والأمكنة، التي دارت فيها الوقائع، مما يمكن القراء والباحثين من التحقق. لكنه اعتمد أيضا، وثائق تجعله يخفي الصورة المشوهة التي رسمها له خصومه، وهذا أمر يسائل قضية الحياد والموضوعية في الكتابة السيرذاتية.

إن المبدع والمؤرخ يتفقان معا في مسألة تفريد الوقائع لكونها تقع في زمن معين ومحدد، فالتاريخ لا يتكرر، والمؤرخ لا يروم تفريد الحدث فقط، وإنما صحته أيضا. أما المبدع فيضفي على سرده التخييل، مما يجعل المؤرخ يستبعد وثائقا استعملها المبدع.

أعطاب الذاكرة وجراحها

تعرف روبان سلمان أزمة الذاكرة ب: “اللحظة الحاسمة، والخطيرة والتصادمية أحيانا، التي تهم سيرورة تذكر الماضي أكان فرديا أم جماعيا. وما يستأثر بالاهتمام أكثر في أزمة الذاكرة هي قضية تمثيل الذات ارتباطا بالسرد الذي يُنجز عن ماضيها: كيف يُنظر إلى ذواتنا؟ وكيف نقدمها إلى الآخرين؟”

من خلال ذلك يطرح كاتبنا التساؤل الكبير عن قيمة اشتغال الذاكرة في الخطاب العمومي، فالسرد الذاتي يندرج، كذلك، في ذاكرة جمعية لأحداث مشتركة مع الآخرين في مجتمع وفي فضاء وفي ظروف معينة، مما يطرح إشكالات إجلاء الحقيقة عبر شهادات ودعامات تثبتُ ما جرى، خاصة حين يتعلق الأمر بأحداث تاريخية محددة المعالم والتفاصيل. والأمثلة كثيرة في هذا الصدد، ومن بين ما قدم الداهي هنا، مسألة اختطاف المناضل المغربي المهدي بن بركة، التي يتغير مسار محكيها بين الفينة والأخرى كلما ظهرت شهادة جديدة من أي طرف. ويعتمد ذلك أساسا على الذاكرة، كما أسمته “سوزان روبان ” شعرية الذاكرة التي تسهم في فهم ما وقع وليس تذكره وسرده فقط.

هناك دوما اختلالات واضطرابات في الذاكرة، مما يتيح إمكانية إعادة النظر في الكثير من الحقائق التاريخية من خلال شهادات مختلفة ومغايرة، وهذا ما يميز الشعري لإتاحته فسحة للتداول وتعدد أشكال الحكي مما يمكن من دراسة كل ما يحيط بحدث ما من أجل تكريس نسبية الحقيقة فيه. وهذا تماما ما عمل الداهي على كشفه من خلال الاشتغال على نماذج “أوراق” للكاتب عبد الله العروي، و”ثمن الحرية” لعبد الهادي الشرايبي، حيث رصد ما تحمله الذاكرة، غالبا، من جراح تُفتح كلما ظهرت حقائق جديدة في قضايا عديدة نعتقد أن الزمن قد طواها، كصدور أحكام جائرة في حق مواطنين أبرياء اختطفوا وزُجَّ بهم في السجون بسبب تهم ملفقة لم يرتكبوها. كل ذلك يولد أزمة في الذاكرة، حيث يتفاوت وقوع حدث ما مع طريقة سرده، فيكبر الجدل بين التاريخ وما سجله من وقائع وبين الرواة الكثر من كُتاب وصحفيين وشهود عيان وغيرهم فيكثر التأويل. استخلص الداهي من اشتغاله في هذا الباب، أن الكتاب لديهم مرجعية من الذكريات التاريخية، سواء التي عاشوها وعاينوها، أو التي قرأوا عنها وهم مجبرون على تمثلها أثناء الكتابة ولا حق لهم في تغيير التواريخ والأحداث التي تعتبر ملكا لجميع الناس. إن الذات الكاتبة، تستحضر، بالضرورة ذاكرة جمعية معروفة عن مراحل من الطفولة مثلا، تتشابه أحداثها مع الكثيرين في فترة تاريخية معينة أو قد يصعب على الكاتب استحضار تجربته الشخصية بحذافيرها فيستعين بذاكرة الآخرين التي تتشابه وتتشارك مع ذاكرته. يرى بول ريكور أن الذاكرة تعمل دائما على خدمة الهوية، ومن أجل تحقيق هذا الهدف منها، يرى الداهي، أنها تركز على حدث دون غيره لأسباب متعددة، ويلخص مجموعة من العناصر التي تساهم في تطويع الذاكرة في:

علاقتها المعقدة مع الزمن.

التصادم مع الآخر.

إرث العنف المؤسس.

أدلجة الذاكرة.

لكي تندمل جراح الذاكرة بالكتابة، تحتاج لبلاغة الإطفاء، وقد مثل لها الأستاذ الداهي، بنموذجين، رواية “أنشودة الصحراء الدامية” للمؤلف المغربي ماء العينين ماء العينين وبالسيرتين الذاتيتين “رحلة جبلية رحلة أصعب” و”الرحلة الأصعب” للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان. زاوج ماء العينين بين السرد التاريخي المبني على تفاصيل أحداث مأخوذة من دعامات ووثائق مكتوبة وأحداث مرسخة معروفة بدقة. وكذلك عبر شهادته كمشارك في بعض الأحداث ومعاين لها، وبين التخييل السردي الكاشف عن وجدانه من خلال استعمال لغة حسية شعرية، تخبرنا عن جلسات شعراء الشعر الحساني، وطقوسهم في الحب وفي الحياة وفي حب الوطن بصدق. ومن خلال ذاتيته التي تفصح عن رأيه الخاص، ككاتب (مواطن) وموقفه فيما حصل، وخاصة مسألة الدفاع عن منطقة الصحراء واسترجاعها من المستعمر بعد نضال مرير، ثم قضية تضميد الجراح من خلال تأسيس هيئة “الإنصاف والمصالحة” التي تجبر الضرر ماديا، بينما تبقى الجراح الغائرة في الجسد والروح غير قابلة للاندمال.

أما طوقان، فقد زاوجت في المؤلفين معا، بحكي ما حدث على المستوى الشخصي/ الذاتي، من مشاكل عائلية، ومرضها في طفولتها ومعاناتها من حرمانها من تتمة دراستها، ومقاومتها للتقاليد والأعراف البائدة لتواصل حياتها بكرامة وتحقق ذاتها كامرأة عربية تتمتع بحقوقها كاملة كإنسان، فكتبت شعرا كثيرا، ودُعيت لمناسبات وواجهات ثقافية متعددة. وعلى مستوى الذاكرة الجماعية، وفي سيرتها “الرحلة الأصعب” وإن ركزت على الذات، فقد سردت كثيرا من التفاصيل عن القضية الفلسطينية بدءا من حرب 67 إلى مؤتمر مدريد، وما سببه الاحتلال من جروح ومحن للشعب الفلسطيني. استحضرت في سردها كذلك، “الذاكرة الجريحة ” المثخنة بالألم الذي يسببه المعمر (الإنجليز ثم إسرائيل) مدمرا للهوية الشخصية أيضا (ذات الكاتبة) فيما أسماه بول ريكور ب “الهوية الذاتية أو الجماعية”.

سؤال التجنيس والقراءة في السيرة الذاتية

يبني القارئ صورة عن الكاتب من خلال قرائن معرفية معينة، ويتخيلها من خلال اللغة والرموز المعتمدة من طرف الكاتب بعد تأويلها، رغم تباين الملفوظات التأويلية والواقعية. وهذا يطرح مجددا لعبة التخفي التي يخوضها كاتب الرواية من خلال التخييل، والتي يستثمرها كاتب السيرة الذاتية أيضا، من أجل التعتيم على وقائع محددة، فيفصح عنها بألسنة غيره. إن مفهوم “الكاتب المشارك” كما تبناه “واين بوت” و”سيمور شاتمان”، يعتر بمثابة الوسيط بين الكاتب والقارئ، وهو ينسحب على الرواية كما ينسحب على السيرة الذاتية. وصورة كاتب السيرة الذاتية تتميز بتعهد قول الحقيقة. إن القارئ يتصور كاتب السيرة الذاتية كمتعهد بقول الحقيقة المطابقة للواقع، في حين يتعاقد الروائي مع القارئ على ميثاق التخييل. وإن كان هذا التمايز نسبيا بسبب اللبس الذي يحدث بين المنطقتين، فقد يعتمدان معا الصدق والاصطناع مما يجعل الكتابة “حدثا خطابيا معقدا” كما يرى جاك لاكان. كل ذلك أبرز كتابة جديدة هجينة يختلط فيها الخطابين الواقعي والتخييلي في مرحلة ما بعد الحداثة، لكن يصعب تجنيسها تحت اسم محدد، والتمييز بينهما والتصنيف يعتمد على المعيار البلاغي واللغوي. وكذلك معياري التخييلية (Fonctionnalité) والمرجعية (Référentialité)، اللذين يبنيان اقترابهما أو تباعدهما اعتمادا على الأداء الأدبي والفني. لقد أرسى أرسطو، حسب كاتبنا أنواع المحكيات الذاتية وتموقعها بين الواقع والتخييل. فوضع مثلا في خانة الواقع، الرواية الشخصية، والرواية ـ المذكرة، ثم الرواية السير ذاتية، في مقابل خانة التخييل، التي نجد فيها السيرة الذاتية، وتخييل الواقع، ثم السرد التاريخي. رغم صعوبة تصنيف المحكيات الذاتية بسب تداخلها، يروم القارئ التمييز بينها من خلال ما يطابق الواقع وما يجانبه. ولم يعد النقاد يشددون في الكتابة الجديدة على قابلية التحقق وإنما على طريقة تمثيل الحقيقة وتشخيصها. كل كاتب يتبنى استراتيجية كتابة تناسبه، كما يمتلك كل قارئ نمطا وطريقة يؤول من خلالهما النص ويفهمه، فلا قانون محدد يجبر الكاتب على قول الحقيقة مما قد يجعل الكاتب وقارئه يقعان في سوء تفاهم. يقدم في هذا الصدد فيليب لوجون، أنساقا من المواضعات التي قد يعتمد عليها الكاتب والقارئ وتسعف على وصف دقيق يراعي أساسيات كثيرة، منها: انتساب السيرة الذاتية إلى نظامين مرجعيين مختلفين واقعي وأدبي، مما يسبب مظاهر الإبهام. بالإضافة إلى إمكانية حدوث تفاوت بين مقصدية الكاتب، وبين المقصد الذي يمنحه القارئ للعمل. فعندما أعاد لوجون النظر في الميثاق السردي، توصل إلى كون قراءات عديدة لنص واحد تكون متباينة على مستوى الفهم والتأويل ارتباطا بنوع القراء ومستوياتهم، فالجمهور غير متجانس. يقول الداهي إنه أورد المفارقات السابقة من أجل التأكيد على العناصر التالية:

ـ سؤال التجنيس الذي يظل مطروحا، وعند تقدم النظرية الأدبية، تُفتح دوما آفاق جديدة لإعادة تجنيس النصوص وقراءتها من خلال تصورات جديدة.

ـ كانت المقاربات النقدية والشعرية القديمة تهتم بما يهم السردية على حساب التخييل لكونه سردا غير مرجعي. وقراءة السيرذاتية بوصفها تخييلا، تفرض وضع مسافة بين ما هو مرجعي وما هو غير مرجعي. يقول جون فيليب: “لا تُرفض الحقيقة، بل يتدخل الخيال تدريجيا، ليس لتغيير المطابقة بالواقع فقط، وإنما للقضاء عليها أيضا” لأن استحضار الماضي كما هو، أمر مستحيل، ومن تم فإن كتابة السير الذاتية الجديدة تغيره.

بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل

تضاربت الآراء حول هذه العلاقة الجدلية بين التخييل والواقع، حيث يرى أرسطو في كتابه “فن الشعر” أن الشعرية تكمن في التخييل، مما يجعل الكاتب لا يحاكي الواقع بحذافيره بل يحكي ما يُحتمل أن يقع أيضا. عكس التاريخي الذي يروي ما حدث فعلا. وتدرج الأمر من أرسطو إلى من تلاه من المنظرين والدارسين، حيث ارتبطت الشعرية التخيلانية بالوظيفة الجمالية مرورا بجيرار جنيت، وتدوروف، وبارث، ودوريت كوهن وغيرهم. إلا أن جون بوديار أوجد مفاهيم جديدة لعرض العلاقة الملتبسة بين الواقع والخيال، فاعتمد مفهوم التصنع الذي يعارض مفهوم التمثيل. فالتمثيل حسب الداهي، يبحث عن المشترك بين اللغة والواقع، في حين يعمل التصنع على طمس الواقع وخلق بديل جديد له، مما يجعل الواقع يظهر بصفته تخييلا، حيث يصنع الكاتب ويختلق واقعا من نسغ خياله. وقد أورد بوديار أمثلة كثيرة تبين صعوبة التمييز بين الواقعي والتخييلي، والحقيقي والمصطنع.

صدقية المحكي

اهتم بول ريكور بالمفارقات الموجودة بين زمن القصة والخطاب وبين الصورتين المُدركة والمتخيلة، لشدة صعوبة تذكر الماضي الشخصي للإنسان. كما أنه قد يتغاضى عن استرجاع ذكريات بعينها لما تسببه لم من آلام، مما يجعل الكتاب يعتمدون على الاستيهام، حيث يتعذر على القراء، غالبا، التمييز بين الواقعي والخيالي. في مرحلة ما بعد الحداثة أخذت الكتابة عن الذات تواكب المستحدثات المعرفية، مما جعلها تفرز جنسا هجينا اصطلح عليه ب “التخييل الذاتي” باعتباره كتابة يتنازع فيها السيرذاتي والروائي. إن الحقيقة السردية، كما يراها “Michel Mathieu” لا تكمن فقط في علاقات التطابق أو اللاتطابق بين القصة والواقع، وإنما تقتضي، أيضا، مراعاة موقف المتلفظ، ورد فعل المتلقي وطبيعة العلاقة التي تجمعهما. وقد أدى التقدم التكنولوجي واتساع هامش الحرية إلى تزايد الكتابة عن الذات، في كل العالم، حيث أصبحت مشتركة بين الناس عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كما أن المحكي أصبح مدعما بالصور وبالفيديوهات لتحقيق الصدق. يتخفى الكاتب وراء صور وأقنعة كثيرة حسب المواقع لكشف ذاته من أجل التأثير في المتلقي. هذه الذات العصية والبعيدة والتي لا يظهر منها إلا القليل مثل جبل الجليد. أما امتداداتها الداخلية فعميقة ومتضاربة، ومعقدة مما يجعل الكاتب يكشف عن خباياها الحقيقية منها، والمفترضة.

إن مساحات التخييل تتيح البوح بخبايا الذات ولا شعورها، ونقدها كذلك، والانتفاض على المعتقدات المسكوكة، فيستقر الكاتب في منطقة الالتباس حيث يتلاعب على الحقيقة ويقدمها من خلال الكذب والزيف والاصطناع حتى يفهم ذاته ويملأ ثقوب الذاكرة. والصورة المصطنعة التي ينسج الكاتب عن نفسه، تترسخ عند القارئ، وتصبح هي الحقيقة، كما عمل الكاتب عبد القادر الشاوي في تجربته “التخييل الذاتي السيري” على تصحيح الصورة الراسخة في ذهن الناس حوله، ذلك المناضل الطوباوي، وجعلها صورة المناضل الإنسان، الذي يحلم، ويحب، ويخطأ فيحقق ذلك من خلال اللغة التي تخلد أسطورته الشخصية.

في كل تجربة تخييلية للسارد، يكلف قرينا له يلبسه أقنعة مختلفة يمارس السرد من خلالها. في “دليل العنفوان” تجادل السارد وقرينه حول صدقية بعض الأحداث، وفي ” دليل المدى” أخذ اسما مستعارا (سعيد/ كرينكو) لأخذ المسافة مع ذاته حتى يتحدث بأريحية عن تجربته النضالية وفي “من قال أنا” يتكلف قرينه بتصدير الكتاب. إن استخدامه لأصوات كثيرة في أعماله جعله يستوعب ذاته ويمثل انكساراتها النفسية وتمزقاتها الوجودية. كما أسعفته ألاعيب الزيف والتحريف على البوح بالحقيقة المتقلبة وتبيين منطقة الفجوة بين ما يظهر ويختفي. لقد استعان السارد بالتوسط السردي لإعادة تشكيل هويته السردية، وممارسة النقد الذاتي وتبيين المفارقة بين الطوباوي والواقعي.

اهتمت النظرية التواصلية الكلاسيكية بالمطابقة بين ما يرسله المرسل ويستقبله المتلقي، دون الخوض في ألاعيب التحقق. إلا أن السيميائيين اهتموا كثيرا بميثاق التحقق من خلال البحث عن الحقيقة الداخلية في الخطاب كما يرى “روبيرتو فلاورز”، وتمييزها عن الزيف، لكون الميثاق التحققي يقوم على مقولتي الظاهر والكينونة، وغيرهما مما يبين أقنعة الحقيقة.
إن كل ظاهر يستدعي تقويما تحققيا للتأكد من الكينونة. يرى روبيرتو فلاورز أن التفاعل اللغوي هو الذي ينتج الحقيقة ويحولها. وفي هذا الاتجاه استخدم “فونتاني” مفهوم التخصيص، من أجل تجسيد اثني عشر حكما تحققيا، حيث أن الظاهر قد يخصص الكينونة، وقد تخصص الكينونة الظاهر كما أنهما قد يتبادلان الأدوار وتتولد عنهما حالات جديدة. مما يجعل الحقيقة عصية على القبض لكونها حمالة أوجه وغير ثابتة.

انزياحات المؤشر

تكمن أهمية شعرية الذاكرة في كونها تقارب مناطق مغيبة وداجية لأسباب سياسية إيديولوجية أو أخلاقية وعرقية، والتي يُهملها المؤرخ وإن اعتبرت وثائقا بشكل ما لكونها تشترك مع التاريخية في الخصيصة المرجعية. وهذه المعالم المرجعية ركز عليها الناقد الداهي، من خلال نماذج سيرذاتية تتبع فيها المؤشر الذي يتأرجح بين التحقق والتخييل. السيرة الذاتية هي: “حكي نثري استعادي يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص عندما يركز على حياته الشخصية، وخصوصا على تاريخ شخصيته” هذا التعريف المأخوذ من معجم روبير، انطلق منه “فيليب لوجون” لتمييز السيرة الذاتية عن باقي الأجناس الملتبسة بها والبعيدة عنها، لذلك اعتمد ميثاقا سيرذاتيا يتكون من العناصر التالية:

1ـ شكل اللغة: حكي، نثري.

2ـ الموضوع: حياة فردية، وتاريخ شخصية ما.

3ـ وضع المؤلف: تطابق بينه وبين السارد.

4ـ وضع السارد: تطابق بينه وبين الشخصية الرئيسية، منظور استعادي للسرد.

إن وجود هذه الشروط أساسي، ليكتمل السرد السيرذاتي، إلا أن حضورها يتفاوت في الأجناس المتخامة للسيرة الذاتية (المذكرات، اليوميات، الاعترافات، التخييل الذاتي، محكي الحياة والرواية الشخصية) مما يجعل كل جنس يتميز عن الآخر ببعض الخصائص، خصوصا فيما يتعلق بمسألة التطابق وطبيعة العلاقة بين الكاتب/ السارد/ الشخصية الرئيسية. ومستتبعات التطابق هذه، تحددها أربعة عناصر أساسية، هي: التلفظ، المشابهة، الإحالة والهوية الإسمية. فإن استعمل المؤلف ضمائر نحوية مختلفة، من غائب ومتكلم، فهو يشهد لقارئه بأنه المقصود بهذا الحكي المطابق لذاته وما عاشه، كما أن كاتب السيرة الذاتية، يسعى إلى تقديم صورة في الورق تشبه ذاته، كما هو الأمر بالنسبة للسيرة التي يتكلف كاتبها بجمع معلومات حول الشخصية التي يحكي عنها لتكون مشابهة لها في الواقع، وإن كانت اللغة غير كفيلة بنسخ الواقع كما هو. بالإضافة إلى الإحالة على واقع خارجي يمكن التحقق منه اعتمادا على قرائن، وهذه خصيصة تشترك فيها السيرة الذاتية والسيرة والتاريخ. ويعتبر كذلك، إثبات الهوية الإسمية شرط يعزز الميثاق السيرذاتي، سواء كانت بشكل صريح أو ضمني، مفادها أن السارد سيحكي عن نفسه.

تمثل السيرة الذاتية لثلاثة مواثيق تميزها عن غيرها، كما يرى فيليب لوجون، وهي الميثاق السردي، الميثاق المرجعي وميثاق القراءة. تندرج في هذه المواثيق الثلاثة مفاهيم كثيرة من قبيل الصدق والتطابق والتشابه، مما يعزز مشكل قضية الحقيقة حرصا على إزالة وتجاوز الشبهة، كما هو الشأن بالنسبة ل”جدارية ستندال” التي وصفها هنري بابل في “الأعمال الحميمة” فهو لكي يخبرنا عن تآكل الجدارية الذي يتطلب ترميما وإصلاحا وطلاء لمعالجة تصدعاتها. أما شكلها القديم وما كانت عليه، لم يبق منه إلا ما علق في الذاكرة، وقد يطاله النسيان أيضا فيصعب تذكر التفاصيل الدقيقة. هذا التأرجح بين الوقائع المُتذكرة الحقيقية والمنسية هو الذي يُحدث لُبسا لدى القارئ في تجنيس ما يقرأ، فتتشابك عنده الرواية مع السيرة الذاتية مما يجعل القارئ دائم التساؤل عن هوية السارد. كما يقول Philipe Gasparini: ” هل هو أنا؟ أو بعبارة أخرى، الكاتب هو الذي يحكي حياته أم شخصية خيالية؟” هذا التداخل والتشابك ينتج سردا هجينا في منأى، قليلا، عن مسلمات الكتابة السردية الحاسمة بين الملفوظات الواقعية والتخييلية.

على سبيل الختم

في المنطقة البينية يقع اصطدام بين التخييل والواقع يصل إلى التعقيد فيصعب علينا التمييز بينهما. هذا اللبس أثار زوبعة نقدية، لم تستقر إلى الآن على تحديد طبيعة وكينونة هذا التخييل الذاتي. ويجمع أغلب من اشتغل عليه، أنه خروج من التصنيفات النمطية، وأنه يوافق الإبدال الما بعد حداثي.

يروم أغلب النقاد اعتبار التخييل الذاتي امتدادا للسيرة الذاتية ولو أن هناك إشكال يطرح ما بعد الحداثة لكون الكتابة قبل ذلك اعتمدت التمثيل والمشابهة، والمطابقة والوعي بالذات، وفي إبدال ما بعد الحداثة، ارتكزت على التصنع والاصطناع وتبادل الأقنعة وتعدد الأصوات. يقول جون فرونسوا ليوتار: “وأي تعديل ولو متناهي الصغر في قاعدة واحدة يغير طبيعة اللعبة وأن أي نقلة أو ملفوظ لا يتفق مع القواعد لا ينتمي إلى اللعبة التي يعرفونها”

يخلص كاتبنا من خلال المتون المدروسة، إلى كون سلطة السارد هشة ومزيفة، حيث تقوم الأصوات البديلة عنه بالبوح بالحقيقة من خلال وجهات نظر متعددة. وإلى أن التخييل الذاتي مجال للكشف عن خبايا الذات وتراكماتها وكسر حواجزها الداجية من خلال الأقنعة والقرناء المكلفين باسترجاع حياة الكاتب الشخصية مع اتخاذ المسافة اللازمة وممارسة النقد الذاتي خارج أي وصاية أو رقابة.

إن التحايل والزيف الممارس في كتابة التخييل الذاتي، هو انعكاس للزيف في الواقع أو إنه زيف مصغر مقابل الزيف الكبير.

#السارد #وتوأم #الروح

زر الذهاب إلى الأعلى