الجزائر.. عين لا ترى أبعد من “نيفها”…

في الستينيات من القرن الماضي.. كان الميناء الوحيد في الريف الشرقي هو ميناء مليلية المحتلة.. وكان هذا الميناء هو المعبر الوحيد في المنطقة لدخول الجالية المغربية المهاجرة في أوروبا (أغارابو مالاغا).. وحيث أن وضع الحدود مع الجزائر كان طبيعيا كما يقتضيه منطق المشترك الكبير بين الدولتين والشعبين فإن العديد من الجزائريين القادمين من أوروبا والعائدين إلى بلادهم، كانوا ينزلون هم أيضا بهذا الميناء مع إخوانهم المغاربة ومنه يستأنفون الطريق في اتجاه تلمسان أو مغنية أو وهران وغيرها من المدن الجزائرية الأقرب إلى هذا الميناء من فاس أو مكناس المغربيتين.

كان منزل عائلتي ومسقط رأسي في الريف.. ومازال، يتواجد في مدخل مدينة أزغنغان..على بعد سبع كلومترات شمال مدينة الناظور.. وحيث أن القادم من مليلية متوجها إلى وجدة والحدود الجزائرية إذا حدث ولم ينتبه عند مدارة صغيرة وهو خارج من الناظور.. فإنه عوض أن يأخذ طريق وجدة الصحيحة المؤدية إلى الجزائر، يأخذ بدلا عنها طريق أزغنغان جهة الشمال.

أتذكر أنه في مساء أحد الأيام من ذلك العقد -وأنا طفل- حكى لنا والدي رحمه الله أنه وهو خارج في صباح ذلك اليوم من المنزل إلى العمل.. توقفت عنده سيارة بترقيم أوروبي.. وسأله من كان على متنها إن كانوا في الطريق الصحيح في اتجاه مدينة وجدة، فأجابهم بأنهم قد أخذوا الاتجاه الخطأ وأن عليهم العودة مسافة سبعة كلومترات إلى المدارة وأخذ الاتجاه الصحيح في اتجاه وجدة والحدود.. عرف من لكنتهم أنهم جزائريون.. فما كان منه إلا أن دعاهم لتناول الفطور بالمنزل قبل أن يستأنفوا طريقهم.

كان يحكي أنهم انبهروا بمعاملته الكريمة.. وأن أحدهم.. قال له: “أنتم إخوتنا المغاربة معروفون بكرمكم” و”إننا سنظل مدينين نحن الجزائريون لكم دوما بهذا الكرم”. ولذلك الامتنان -في تلك اللحظة- علاقة ولا شك -كان يقول أبي- بأنهم كانوا على علم بالفترة التي قضاها جيش التحرير الجزائري في أزغنغان أثناء الحرب الجزائرية. إذ أن الثكنة العسكرية بهذه البلدة كانت مركزا للتدريب وضعته السلطات المغربية رهن إشارة جماعة وجدة، كما كانت تسمى آنذاك بقيادة الشريف بلقاسم وهواري بومدين.. وكانت هذه القيادة قد دخلت في علاقات وطيدة مع أهل أزغنغان.. حتى أننا كنا نتندر ونحن في مرحلة الشباب بأن “رهادي” رحمه الله.. أحد تجار التقسيط المعروفين بها حينذاك، ظل لفترة طويلة، يحز في نفسه، أن هواري بومدين لم يسدد له ثمن عبوة غاز ابتاعها منه ولم يسدد ثمنها.. لأن استقلال الجزائر فاجأه.. واضطر هو ومجموعته إلى دخول بلاده… التي سيصبح بعد فترة وجيزة وعلى إثر الانقلاب المعروف رئيسا لها.

حكاية أبي هذه، ستتردد كثيرا في ذهني، وأنا في نهاية مرحلة الطفولة، عندما عن لهواري بومدين هذا، سنة 1975 وهو رئيس للجزائر، ومباشرة بعد استرجاع المغرب لأقاليمه الصحراوية أن يطرد أزيد من 350000 مغربي، كانوا مقيمين بالجزائر إلى الحدود المغربية بشكل مهين وفي انتهاك صارخ لحقوق الإنسان في صيغتها المتعارف عليها دوليا وكذلك لحقوق الجوار والقيم الإنسانية والإسلامية والمشترك الكبير بين الشعبين. في محاولة يائسة وبئيسة منه لزعزعة استقرار المغرب الذي كان موجها كل جهوده حينها إلى الجنوب لبسط سيادته على أقاليمه المسترجعة.

التحدي الكبير للمغرب حينها كان هو توفير شروط الاستقبال والإيواء الضرورية والمستعجلة لهؤلاء المواطنين، وهو التحدي الذي تم كسب رهانه- على خلاف ما كان ينتظر هواري بومدين -بفضل تضافر جهود المغرب الرسمي والشعبي حينها.

فمن أجل ذلك تم نصب مخيم كبير في مدينة الناظور بساحة مندوبية الشباب والرياضة لأن نسبة كبيرة من هؤلاء المهجرين قسرا كانت أصولهم تتحدر من الريف.

وأتذكر يوم بلغ إلى علم أبي رحمه الله -أيامها- أن أحد أبناء عمومته وأسرته (أمه المسنة وزوجته وأولاده)، قد شملتهم هذه العملية الشنيعة، فما كان منه إلا أن سارع إلى المخيم، واستقدمهم إلى منزلنا حيث مكثوا في ضيافتنا إلى حين استئجارهم لمنزل جديد يأويهم. وقد كان من حسن حظ هذه الأسرة أن كان لها ابنان يشتغلان في أوروبا قدما إلى المغرب باستعجال لتوفير شروط الإقامة الجديدة لعائلتهم بأرض الوطن.

هول ما تعرض له هؤلاء المهجرون من قبل السلطات الجزائرية سأتعرف عليه بالتفصيل منذ أول ليلة قضتها هذه العائلة في ضيافتنا، وذلك مما كانت تحكيه زوجة عمي ووالدته لأمي. حكايات لا تتوقف في تلك الليالي الشتوية الطويلة.. إلا بانخراطهن في نوبة بكاء حسرة وأسف..

لقد طرق الجنود باب منزلهم في أحد أحياء الجزائر العاصمة وهم يستعدون للعشاء في يوم عيد الأضحى والفصل شتاء. أركبوهم في شاحنة عسكرية.. دون أمتعتهم وحليهن (بالنسبة للنساء).. وانطلقوا بهم مع من سبق شحنهم من عائلات أخرى.. إلى جوج بغال.. أفرغوهم هناك كما يفرغ سقط المتاع دون أدنى اعتبار للكرامة الإنسانية. روايات أكثر مأساوية سنسمعها ونحن في تلك السن تخص عائلات من ثلاثة أجيال، تم طردها لمجرد أن أصولها مغربية حتى أن جيرانها من الجزائريين تفاجؤوا بكونهم مغاربة وقد شاركوهم الحلوة والمرة لعقود بما في ذلك العمل والجهاد من أجل استقلال الجزائر.

أتذكر كذلك حجم التعاطف الذي كان عندنا مع أطفال تلك العائلات الذين أدمجتهم السلطات المغربية في أقسامنا الدراسية حسب مستوياتهم التي كانت عندهم في النظام التعليمي الجزائري، ونظرات الارتباك والدهشة وكذلك الانكسار التي كنا نراها في عيونهم وقد وجدوا أنفسهم مطالبين بالتأقلم مع برامج جديدة ومحيط جديد.

هذه الجريمة الإنسانية المكتملة الأركان كان يتغيى منها النظام العسكري الجزائري زعزعة استقرار المغرب وفتح جبهة مواجهة اجتماعية، بعد الجبهة العسكرية التي فتحها عليه في الصحراء عبر تسليح مجموعة انفصالية في الجنوب، مدعوما في كل هذا من نظام القذافي آنذاك في ليبيا وأشباههما من الأنظمة العسكرية عبر العالم، التي كانت تنسب نفسها إلى المعسكر الشرقي في إطار ما كان يعرف بالحرب الباردة بين القوتين العظمتين حينها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي.

حظ المغرب العاثر بمجاورة هذا النظام الأرعن الذي لا يتوانى في استخدام كل الوسائل لمناوئته ومعاكسته حتى ولو كان ذلك على حساب الشعب الجزائري نفسه، سيتأكد مرة أخرى عند إقدامه على غلق الحدود من جانب واحد سنة 1994، (مازالت مغلقة إلى حد الآن)، قاطعا بذلك وشائج التواصل بين الشعبين المغربي والجزائري خاصة في المناطق الحدودية حيث تتواجد عائلات منقسمة بين جانبي الحدود لا تفصل بينهما سوى أمتار معدودة.

ومن أجل صلة الرحم والتزاور أصبحت هذه العائلات مجبرة حين الضرورة إلى سفر سوريالي بالطائرة حتى باريس ثم أخذ طائرة أخرى إلى الجزائر لزيارة أهاليها في الجانب الآخر من الحدود، (يحكى أن عروسا زفت إلى زوجها في الجانب الآخر من الحدود بهذه الطريقة والحال أن بغلة كانت تكفي لتقطع بها المسافة القصيرة التي تبعد بها دار العريس). كل ذلك لمجرد أن المغرب في تلك الفترة الخاصة التي كان فيها الوضع الأمني منفلتا بالجزائر فيما أصبح يسمى عند الجزائريين في ما بعد بالعشرية السوداء، قدر حفاضا على أمنه الوطني أن يفرض تأشيرات على المواطنين الجزائريين الراغبين في زيارة المغرب. منطق الأمور آنذاك كان يقتضي أنه حتى لو كان حكام الجزائر قد رأوا في القرار المغربي خطأ في حقهم أو سوء تقدير فإن القرار المناسب وكما هو معمول به عادة في مثل هذه المواقف هو المعاملة بالمثل وبالتالي فرض تأشيرة على المغاربة الراغبين في زيارة الجزائر. ليتأكد باتخاذهم قرار إغلاقهم للحدود بصفة نهائية أن الطغمة الحاكمة في الجزائر آنذاك قد وجدتها فرصة للتنفيس من الاحتقان الداخلي عبر تقديم المغرب للشعب الجزائري على أنه عدو حقيقي وأنه ذلك الخطر الخارجي الذي اعتادت الأنظمة العسكرية والشمولية أن تعلق عليه أمام شعوبها أسباب حالات الاستثناء والحصار الدائمة التي تفرضها عليه، ومن ثمة أن تعيث فسادا واستغلالا في مقدرات هذه الشعوب لحسابها الخاص.

وهذا الأمر أثبتته صيرورة الأحداث بجارتنا الشرقية عندما انتفض الشعب الجزائري سنة 2019 في إطار حراك شعبي وسلمي، مطالبا برحيل “العصابة” وبسن “نظام حكم مدني” تفرزه صناديق الاقتراع ويستجيب لتطلعات الشعب الجزائري، هذا الحراك تم الالتفاف عليه مع الأسف من طرف جزء من العصابة نفسها كما سماها الحراك، في إطار تصفية حسابات داخلية في ما بينها وتم إخراج المشهد الحالي لنظام حكم برئيس مدني في الواجهة وحكم عسكري فعلي في الظل، وذلك عبر التضحية ببعض رموز الفساد الذين سار بذكرهم الحراك. ولعل الدليل الأكبر على أن الأمر مازال يتعلق بنفس الثعبان الذي غير فقط من جلده هو إمعان هؤلاء الحكام الجدد في معاداة المغرب وتقديمه للجزائريين في صورة الخطر الخارجي المحدق بهم، وتوسل ذلك بقرارات رعناء تضر بالجزائريين قبل غيرهم بل وبالمنطقة بأكملها، من قبيل إيقاف ضخ الغاز إلى أوروبا عبر الأنبوب المغاربي الذي كان يمر من الأراضي المغربية وحظر الأجواء الجزائرية على الطائرات المغربية. بل إن هذا النظام الجديد أضاف جرعة جديدة من الشعبوية في خطابه الذي يسوقه للشعب الجزائري بخصوص المغرب، حتى أن الرئيس الحالي وصل به الإسفاف إلى حد الإشارة للمغرب في خطاباته الرسمية وفي الإعلام الرسمي للدولة بكلمات تمتح من لغة “مشاجرات الحمامات الشعبية” من قبيل “هاذو للي هوك” أو “جماعة المخز “… إلخ، مطلقا بذلك العنان لجوقة غير مسبوقة من التحامل على المغرب ورموزه الوطنية عبر المواقع الإلكترونية ووسائط التواصل الاجتماعي وصل حتى إلى مدرجات الملاعب الرياضية. بل وبلغ به الأمر إلى حد التصريح لجريدة فرنسية أخيرا (لوفيغارو)، بأن كل هذه الإجراءات والممارسات التي يقوم بها نظامه تجاه المغرب هي البديل عن حرب مباشرة مع هذا الأخير، متجاوزا بكثير في هذا التصريح “جهل الجاهلين الذي سبقوه” (بتعبير عمرو بن كلثوم)، لما يمثله من تهديد صريح للسلم في المنطقة بأسرها. ومكمن الخطورة في الأمر هو أن كل المؤشرات تفيد بأن هذا النظام لن يتوانى عن البحث عن أدنى سبب لهذه الحرب، إذا ما اشتد عليه الطوق من طرف أحرار الشعب الجزائري الذين ضاقوا ذرعا بما آلت إليه أحوالهم الاجتماعية والسياسية والحقوقية، رغم أن بلادهم تطفو على بحر من الغاز والثروات الطبيعية.

(يتبع)

#الجزائر. #عين #لا #ترى #أبعد #من #نيفها

زر الذهاب إلى الأعلى