التحرش المعنوي المرتبط بالعمل

المبحث الثاني : تحديد التحرش المعنوي المرتبط بالعمل.

إن ظاهرة التحرش المعنوي ظاهرة دولية ارتبطت في أساسها بأماكن العمل ، لكن ليست الظاهرة الوحيدة التي تعرفها المقاولات بشتى أنواعها ، بل هناك مشاكل أخرى يتعرض لها الأجراء لا تقل أضرارها عما يخلفه التحرش المعنوي على الصحة النفسية والجسدية للضحية ، من بينها التحرش الجنسي والإرهاق المهني والعنف النفسي ، هذه المشاكل تجعل مرد ودية هؤلاء في تراجع مستمر بفعل تراجع ظروف الشغل ، نظرا لكون هذه الأخيرة تؤثر على التوازن النفسي والجسدي لديهم[46] .

لا يمكن تحديد مفهوم التحرش المعنوي في العمل دون تحديد أطراف هذه الظاهرة ، بحيث أن فعل التحرش يرتكبه شخص أو عدة أشخاص ضد شخص أخر أو عدة أشخاص ، وبالتالي يمكن تحديد أطراف ظاهرة التحرش المعنوي في المتحرش والضحية ، وهكذا سنقسم هذا المبحث إلى مطلبين ، نتعرض في المطلب الأول لتحديد ظاهرة التحرش المعنوي في العمل عن بعض المفاهيم المشابهة لها ، ونخصص المطلب الثاني لتحديد أطراف هذه الظاهرة .

المطلب الأول : تمييز التحرش المعنوي عن بعض المفاهيم المشابهة

يتعرض الأجراء بالإضافة إلى التحرش المعنوي ، إلى عدة مشاكل أخرى في عملهم من بينها التحرش الجنسي والإرهاق المهني ، بالرغم من أنه يبدو للوهلة الأولى أن هذه المفاهيم تتشابه فيما بينها ، لكونها من بين العديد من المشاكل التي يعيشها الأجراء في مكان العمل ، حتى أنه يمكن التسليم بوجود قاسم مشترك بينها كونها تقع داخل أسوار المقاولات ، لكن المتمعن في الأفعال والتصرفات المشكلة لكل من التحرش المعنوي والتحرش الجنسي ، هذا الأخير الذي تعاني منه النساء أكثر من الرجال حسب بعض الدراسات [47]، يستشف الاختلاف الواضح بينهما ، وهذا ما سيتم توضيحه في هذا المطلب .

الفقرة الأولى : التحرش المعنوي والتحرش الجنسي

 لقد تطرق المشرع المغربي لتنظيم التحرش الجنسي ، وذلك بالنص على عدم المساس بكرامة الأجراء ، ومراعاة حسن السلوك والأخلاق داخل المقاولة ، وذلك بموجب الفصلين 24[48] و 40 [49]من مدونة الشغل[50] ، كما نص صراحة على التحرش الجنسي في الفصل 1-503[51] من مجموعة القانون الجنائي المغربي ، إلا أن المشرع لم يحدد المقصود بالتحرش الجنسي ، بل اكتفى بتحديد الأساليب والوسائل التي من شانها تحقيق أغراض ذات طبيعة جنسية ، ولعل التقنية التشريعية استلزمت هذه العمومية حتى يترك للقضاء السلطة التقديرية في تكييف الفعل الذي من شأنه أن يعتبر تحرشا جنسيا .

وهكذا حاول بعض الفقه[52] تعريف ظاهرة التحرش الجنسي ، بحيث اعتبرها كل سلوك ذو مضمون جنسي ، يصدر من رجل أو امرأة تجاه الجنس الأخر بدون رضاه ، سواء كان ذلك فعلا أو حركة أو إظهار لصور أو كلام ، كما عرفته الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب على أنه : ” شكل من العنف البدني أو المادي أو المعنوي والسيكولوجي الذي يمس بالكرامة والشرف وبحرية المرأة ، هذا العنف يمكنه أن يتجلى في تلميحات شفوية مباشرة أو غير مباشرة على شكل مزاح أو تنكيت أو دعوات أو أية مقترحات لها هدف جنسي ، كما يمكنه أن يتجلى في تلميحات على شكل إشارة أو نظرة أو تقديم صور لها طابع جنسي ، أو اللمس الذي يمتد إلى القرص والمداعبة والاغتصاب ” .

أما التحرش المعنوي فهو مجموعة من التصرفات والمضايقات التي تمس بكرامة الأجراء لكنها ليست ذات طابع جنسي ، والملاحظ أن ظاهرة التحرش الجنسي تتطلب توفر سلطة فعلية للمتحرش على المتحرش ب هاو الضحية ، بينما لا يشترط هذا العنصر في ظاهرة التحرش المعنوي ، بحيث يمكن أن تصدر المضايقة عن أجير ضد زميله في العمل وليس رب العمل [53]، هذا بالإضافة إلى أن التصرفات المشكلة للتحرش المعنوي يجب أن تتكرر على الأقل مرة في الأسبوع ولمدة لا تقل عن ستة أشهر[54] ، بخلاف التحرش الجنسي فتصرف واحد ذو طبيعة جنسية يكفي لتحقيق الفعل الجرمي [55].

أما المشرع الفرنسي فقد بادر إلى تنظيم التحرش المعنوي والتحرش الجنسي في كل من القانون الجنائي وقانون الشغل، فبخصوص التحرش المعنوي، فقد نظمه في الفصول 1-1153L و 2-1152 L من مدونة الشغل، وكذا الفصل 2-222.33 من القانون الجنائي، أما التحرش الجنسي فنظمه بمقتضى الفصل [56]1-1153 L من مدونة الشغل ، المتعلق بمنع كل أنواع التحرش الجنسي ، كما منع بمقتضى الفصل [57]2-1153 L معاقبة الأجير أو طرده أو اتخاذ أي إجراء ضده بسبب رفضه التحرش الجنسي .

كما نص على حماية كل أجير أدلى بشهادته في الموضوع من كل معاقبة أو طرد وذلك بموجب الفصل 3-1153 L، هذا بالإضافة إلى ما جاء في الفصل 33-222 من القانون الجنائي الفرنسي [58].

أما المشرع المغربي فلم  ينص في مقتضيات مدونة الشغل على الإجراءات الحمائية للشهود الذين عاينوا فعل التحرش سواء الجنسي أو المعنوي ، لكن رغم ذلك فالعمل القضائي حاضر بخصوص التحرش الجنسي ، كما هو واضح من خلال بعض القرارات الصادرة في الموضوع ، كما هو الشأن بالنسبة للقرار عدد 758 الصادر عن محكمة النقض[59] ، والذي جاء فيه : ” قيام الأجير بالتحرش الجنسي بزميلة له في مكان العمل ، بإرساله لها رسالة هاتفية مخلة بالآداب يعد خطا جسيما يبرر فصله عن العمل ، وأن صدور حكم ببراءته من جريمة التحريض على الفساد لا يمنع المشغل من إثبات ارتكابه الفعل المعد خطا جسيما ، والذي يثبت بجميع وسائل الإثبات بما فيها شهادة الشهود ” ، وكذا القرار رقم 672 الصادر عن نفس المحكمة[60] ، والذي جاء فيه الخطأ الجسيم المنسوب للأجير والمتمثل في التحرش الجنسي تم إثباته بتصريحات مجموعة من الشهود المفصلة والمحددة لبعض التصرفات التي تفيد أنه كان يتحرش بمجموعة من الأجيرات ، وبالتالي فإن فصله بسبب هذا الخطأ استخلصته المحكمة في إطار سلطتها التقديرية واعتبرته مبررا للفصل ، علاوة على ذلك أصدرت محكمة الاستئناف بالدار البيضاء قرارا يتعلق بتعرض المشغلة للتحرش الجنسي من طرف احد أجرائها[61] .

الفقرة الثانية : التحرش المعنوي والإرهاق المهني

تعد العلاقات الشخصية أهم مصادر الضغط النفسي في العمل ، فالعلاقة مع الغير أساسية للتوازن الجسدي والذهني لكل إنسان ، وعلاقة الرئيس بمرؤوسه والمتميزة بالسلطة الإدارية ، يمكن أن تكون مرهقة بشكل خاص ، ويعتبر الإرهاق إحدى النتائج المترتبة عن فشل هذه العلاقات ، وهو نوع من عدم التوازن بين الطلبات الخارجية والداخلية للشخص ، وبالتالي فهو تجربة ذاتية[62] .

ويختلف الإرهاق المهني عن التحرش المعنوي ، في كون الأول لا يتضمن سوء النية أو القصد ، في حين أن القصد في الثاني يهدف من خلاله المتحرش إلى تحطيم الشخص المتحرش به ، إلا أن الإرهاق أيضا يمكن أن يصبح مصدرا لتحطيم شخصية الأجير ، وإرباك توازنه الجسدي والنفسي ، إذا تم استعمال الإكراه ضد الأجير المرهق حتى يصل هذا الأخير إلى درجة الاكتئاب ، لارتباط الإرهاق المهني بسوء ظروف الشغل ، وبالتالي فالتحرش المعنوي هو الحد الأقصى للإرهاق ، لذا نجد هذا الأخير حاضرا بقوة في ظاهرة التحرش المعنوي[63] ، والإرهاق كما سبق الذكر هو عملية تكيف مع حدث خارجي ، الهدف منها تهيئ الجسم إما لمجابهة الخطر أو الهرب منه ، وبالتالي فهو استجابة ذاتية يمكن أن تكون ايجابية أو سلبية ، إما في حالة التحرش المعنوي فالوضعية عكس ذلك ، قد تكون أمام نفس السلوك الذي أدى إلى الإرهاق لكن جواب الضحية ليس ماديا ، لأن واقعة التحرش المعنوي تؤثر على الصحة النفسية للضحايا[64] .

وتجدر الإشارة إلى أن فئة النساء هن الأكثر تعرضا للإرهاق ، ويعزى ذلك إلى كثرة العمل والأدوار التي تقوم بها الأجيرات ، وهو أحد عوامل الإرهاق الأكثر انتشارا ، وما يجعل المرأة الأجيرة تقوم بعدة ادوار هو تلك النظرة السلبية التي ينظرها الرجال للنساء ، ذلك أن هذه النظرة تدفع المرأة الأجيرة إلى مضاعفة جهودها كي ترقى إلى قرينها الرجل ، وهذا ما يشكل سببا أخر للضغط النفسي ، أضف إلى ذلك الإزعاج الذي قد تسببه لهن العلاقة مع الزملاء من الرجال إذ تصبح مقاومتهم قوية خاصة عندما لا تشكل النساء الأجيرات إلا نسبة قليلة من العاملين بالمؤسسة [65].

وخاصة القول ، إذا كان الإرهاق مرتبط بظروف الشغل التي قد تسوء في بعض الأحيان ، فإن التحرش المعنوي كما قال أحد الباحثين ، يختلف عن باقي أشكال الضغط المتعلقة بالعمل ، لأنه يستهدف تحطيم شخصية الأجير والمس بكرامته والمخاطرة بمستقبله المهني.

المطلب الثاني : تحديد أطراف التحرش المعنوي المرتبط بالعمل

للحديث عن ظاهرة التحرش المعنوي لا بد من تحديد أطراف هدا النوع من العنف ، وبما أن هذه المقتضيات تتم في مكان العمل ، فإن هذه الأطراف تتمثل في جل الحالات في كل من الأجير والمؤاجر ، نظرا لكون كل واحد منهما يسعى إلى تحقيق مصلحته الخاصة[66] ، فالأول يسعى إلى استقرار وضعه أو تحسينه داخل المقاولة ، بينما يسعى الثاني إلى رفع أرباحه وتخفيض تكلفة الإنتاج ، وبالتالي هذا التضارب في المصالح يجعل العلاقة بين الأجير والمشغل في توتر مستمر ، بحيث يحاول المشغل التخلص من أحد الأجراء ، وذلك باستعمال مختلف الوسائل غير المقبولة الماسة بالكرامة الإنسانية ، بهدف دفعه إلى ارتكاب الخطأ أو تقديم الاستقالة ، كما يلجأ أحد الأجراء إلى استعمال هذه التصرفات ضد مشغله ، وهكذا سنقسم هذا المطلب إلى فقرتين ، نتطرق في الفقرة الأولى إلى المتحرش ، ونتعرض في الفقرة الثانية للضحية.

الفقرة الأولى : المتحرش أو مرتكب فعل التحرش المعنوي

يعتبر مرتكب فعل التحرش المعنوي المرتبط بالعمل شخصا ينتمي إلى المقاولة ، بحيث يمكن أن يكون أجيرا أو مشغلا[67] ، إذ يختلف الهدف من المضايقة أو التحرش باختلاف وضعية المتحرش ، فإذا كان هذا الأخير مشغلا فإنه غالبا ما يسعى إلى دفع الأجير لارتكاب خطا جسيم أو الضغط عليه بهدف مغادرته لمكان العمل أو تقديم استقالته ، وذلك باستعمال مختلف الوسائل من بينها تلك التصرفات اللاأخلاقية التي يتكون منها التحرش المعنوي ، كإثقال كاهل الأجير المستهدف بالعمل ، أو تغيير منصبه داخل المقاولة من مسؤول عن وحدة إنتاجية مثلا إلى أجير عادي ، زد على ذلك بعض العبارات التي يتلفظ بها المشغل والتي تمس بكرامة الأجير ، بحيث من شانها أن تترك أثرا على صحته النفسية والجسدية ، خاصة أن هناك بعض المشغلين أو رؤساء المقاولات يجدون توازنهم في إذلال الأجراء وإهانتهم [68]، وذلك باستغلال السلطة المخولة لهم قانونا لتسيير المقاولة ، ومهنا تظهر أهمية تدخل المشرع المغربي للحد من هذه التجاوزات في السلطة ، أضف إلى ذلك أنه قد يقوم المتحرش بهذه التصرفات المشينة لأنه تعرض لها في طفولته ، ويحاول الانتقام من أحد الأجراء[69] ، كما قد يلجأ في بعض الأحيان إلى استعمال الكذب كوسيلة لإخفاء بعض المعلومات المهمة التي تساعد الضحية في عملها ، وغيرها من الوسائل الأخرى التي يلجأ إليها المشغل للتخلص من أحد أجرائه دون حصوله على تعويض .

كما قد يكون المتحرش أو مرتكب فعل التحرش أحد الأجراء ، وهنا أيضا يختلف الهدف من هذا التحرش بحسب ما إذا كان المتضرر منه أو الضحية مشغلا أم أجيرا ، بحيث قد يلجأ أحد الأجراء إلى القيام ببعض التصرفات التي من شأنها أن تمس بكرامة مشغله ، وخاصة إذا تعلق الأمر بامرأة مشغلة ، بحيث قد يرفض المتحرش طريقة تسييرها للمقاولة ، أو عدم قبوله أن تكون للمشغل سلطة عليه ، كما قد يتصرف بهذه السلوكات ضد رئيس جديد ، هذا بالإضافة إلى أنه يمارس نوع من العنف ضد أجير أخر زميله في العمل ، إما لتنافسهما على منصب واحد أو فقط لإهانة والحط من كرامته أمام زملائه ، لأن المتحرش يحاول أن ينقص من قيمة الضحية وإضعاف قدراتها ، لأنه غالبا ما يكون عديم الإحساس ، ولا يكثرت بما يعيش الأخر من معاناة نتيجة هذه التصرفات المشكلة للتحرش المعنوي[70] ، يتبين من خلال ما سبق أن هذه التصرفات يمكن إرجاعها إلى بناء شخصية المتحرش سواء كان هذا الأخير مشغلا أم أجيرا[71] .

الصفحة السابقة 1 2 3 4الصفحة التالية
زر الذهاب إلى الأعلى