ممر إنساني جزائري مغربي

في مداخلة له قبل أيام، أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف، تطرق الناشط الجزائري وليد كبير، بإسهاب إلى واقع حقوق الإنسان ببلده الجزائر، بجرأة قل نظيرها، وقد طالب المعني بالأمر في سياق المداخلة ذاتها، بفتح “ممر إنساني خاص بالراجلين بين الجزائر والمغرب” لفائدة العائلات الجزائرية والمغربية، خاصة القاطنة في المناطق الحدودية، وهذا المطلب، إن دل على شيء، فإنما يدل على أن في الجزائر الشقيقة، عقلاء وحكماء، ينظرون إلى العلاقات المغربية الجزائرية، بنظارة غير النظارة التي ينظر بها نظام الشر.

وفي هذا الإطار، كان بالإمكان أن نرفع من منسوب الحماسة، لنطالب بفتح الحدود بين البلدين الجارين، لما في واقع الإغلاق، من كلفة إنسانية وحقوقية واجتماعية واقتصادية وأمنية وتنموية، لكن نجد أنفسنا ملزمين بضبط عقارب الساعة عند حدود مطلب “فتح ممر إنساني”، مؤيدين في ذلك، طرح الناشط الجزائري، لاعتبارات ثلاثة:

– أولها: صعوبة إن لم نقل استحالة المضي قدما في اتجاه “فتح الحدود” بين البلدين في الوقت الراهن، في ظل نظام غير مسؤول، مصاب بمرض عضال عنوانه العريض “المغربوفوبيا”.

– ثانيها: إجهاز النظام المذكور على أية فرصة أو إمكانية للحوار والتقارب، بناء على ما أقدم عليه في قمة “لم الشمل” من ممارسات فاقدة للبوصلة، في محفل عربي، كان بالإمكان، أن يكون “فأل خير” على البلدين، ومقدمة لتذويب جليد الخلاف، والجنوح نحو طاولة الحوار الثنائي، بما يضمن المرور الآمن والسلس نحو “عهد جديد” من العلاقات.

– ثالثها: تجاهل الدعوة التي وجهها جلالة الملك محمد السادس، للرئيس الجزائري لزيارة المغرب من أجل الحوار، بعد ما لم يتسن ذلك خلال قمة “لم الشمل”.

النظام العدواني الذي أغلق الأجواء وقطع أنبوب الغاز نكاية في المغرب، كان من الطبيعي أن يتجاهل دعوة الحوار، كما تجاهل مبادرات عربية للوساطة بين الجزائر والرباط، وبذلك، يتصدى مجددا إلى اليد الممدودة، التي طالما مدها جلالة الملك محمد السادس منذ أكثر من عقد من الزمن، كان آخرها خطاب العرش لسنة 2021، الذي جدد الدعوة للأشقاء الجزائريين للعمل سويا “دون شروط، من أجل بناء علاقة ثنائية، أساسها الثقة والحوار وحسن الجوار”، وطالب بشكل صريح بفتح الحدود، وفي هذا الصدد، أكد جلالة الملك في الخطاب ذاته “فقناعتي أن الحدود المفتوحة، هي الوضع الطبيعي بين بلدين جارين، وشعبين شقيقين، لأن إغلاق الحدود يتنافى مع حق طبيعي، ومبدأ قانوني أصيل، تكرسه المواثيق الدولية، بما في ذلك معاهدة مراكش التأسيسية لاتحاد المغرب العربي، التي تنص على حرية تنقل الأشخاص، وانتقال الخدمات والسلع ورؤوس الأموال بين دوله”، مضيفا في السياق ذاته “لا فخامة الرئيس الحالي، ولا حتى الرئيس السابق، ولا أنا مسؤولين عن قرار إغلاق الحدود، أصبحت متجاوزة، ولم يعد لها اليوم، أي مبرر مقبول”.

اليد الملكية الممدودة، كان بالإمكان أن تكون شهادة ميلاد جديدة للكثير من العائلات المغربية والجزائرية المشتتة بين الحدود المغلقة، التي ترتبط في إطار علاقات دم وقرابة ومصاهرة وحسن جوار، ومقدمة لبداية عهد جديد بين بلدين جارين يجمعهما أكثر مما يفرقهما، لكن وجدت في الضفة الأخرى، نظاما أبعد ما يكون من الوحدة ولم الشمل، يتحمل مسؤولية إنسانية وتاريخية وسياسية أمام التاريخ، بسبب الحدود البرية والجوية المغلقة، التي لا يمكن لعاقل، أن يتجاهل كلفتها الإنسانية على الشعبين المغربي والجزائري، وخاصة على الساكنة القاطنة في المناطق الحدودية، وفاتورتها الاقتصادية والتنموية والأمنية، على البلدين الجارين وعلى الاتحاد المغاربي ومنطقة الشمال الإفريقي والعالم العربي.

وإذا كان فتح باب الحدود مازال مستعصيا في الوقت الراهن، ولم تنفع معه “يد المغرب الممدودة”، فعلى الأقل، يمكن الدفع في اتجاه “فتح ممر إنساني” بشروط، في وجه العائلات المغربية الجزائرية المقيمة بالمناطق الحدودية، للتخفيف من حدة المآسي الإنسانية الناتجة عن إغلاق الحدود البرية منذ ما يقارب الثلاثة عقود، وبدون شك، ازداد وضع هذه العائلات تعقيدا بعد اتخاذ السلطات الجزائرية قـرار إغلاق الأجواء وقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب من جانب واحد، وبقدر ما نرى أن حظوظ “فتح ممر إنساني” أمام الراجلين من العائلات المغربية والجزائرية القاطنة في المناطق الحدودية، تبقى حظوظا ضئيلة وضئيلة جدا، بقدر ما نأمل أن يطرح النظام الجزائري أسلحة السياسة وما يرتبط بها من عداء عصي على الفهم والإدراك، ويتنازل عن “الفانتازيا” و”العنتريات” ولو للحظات، ويغير اتجاه البوصلة المركزة على المغرب، نحو الحدود المغلقة بين البلدين، لعل وعسى يتحرك فيه الضمير الإنساني، وهو يتأمل مشاهد إنسانية مؤلمة، لأسر ممزقة وعائلات مشتتة بين الحدود، حاجتها إلى “فتح الحدود”، أكثر من حاجتها إلى البطاطس أو الموز أو الحليب أو الرغيف…

السياسة مهما كانت قاسية وعنيدة، لا بد لها أن تلين، والساسة مهما بلغوا مستويات متقدمة من الحزم والعناد والكبرياء والعنتريات، لا بد أن يتحرك فيهم الضمير الإنساني والمشاعر الإنسانية، لما يتعلق الأمر بخدمة الإنسان وافتكاكه من مخالب الآلام والمآسي، وحتى إذا لم تكن لهم القدرة على الليونة وتغيير الطباع، فعلى الأقل التفاعل الإيجابي والمسؤول مع الأيادي الممدودة، والجنوح الطوعي نحو قنوات التواصل واللقاء والحوار، بما يضمن رأب الصدع وبناء الثقة وتجاوز أسباب الخلاف، وفي هذا الإطار، فإذا كانت أيادي المغرب ممدودة بسخاء نحو الجارة الشرقية، من منطلق ما يجمع البلدين الشقيقين من أخوة وقرابة وحسن جوار، واعتبارا لما لإغلاق الحدود من فاتورة إنسانية واقتصادية وتنموية، فإن الكرة ملقاة في مرمى النظام الحاكم في الجزائر، الذي يتحمل بمفرده مسؤولية دينية وأخلاقية وسياسية وتاريخية، نتيجة إصراره على إغلاق حدود، باتت مرادفة لقطع الأرحام والأرزاق، وهذه الممارسة اللامسؤولة ترتقي إلى مستوى “جريمة ضد الإنسانية”…

يؤسفنا في خاتمة هذا المقال، أن نشاطر الناشط الجزائري وليد كبير، مطلبا صغيرا عنوانه العريض “فتح ممر إنساني مغربي جزائري”، وكنا نأمل أن نشاركه حلم “فتح الحدود” بين البلدين الجارين، لضرورات إنسانية واقتصادية واجتماعية وتنموية وأمنية واستراتيجية، لو كنا أمام نظام مسؤول وعاقل وحكيم ومتبصر، وبما أن واقع الحال ليس كذلك، يبقى أقصى ما يمكن المطالبة به في الوقت الراهن، هو “فتح ممر إنساني” أمام الأسر والعائلات المغربية والجزائرية القاطنة في المناطق الحدودية، وهذا المطلب الصغير، يرتقي للأسف، إلى مستوى “الحلم الكبير”، لأن العداء الكاسح يعمي البصيرة ويطفئ سراج العقل ويقتل الضمير الإنساني، ويؤسفنا ثانيا، أن نرفع يافطة “فتح المعبر الإنساني” بين بلدين جارين يتقاسمان الدين والعروبة والقرابة والتاريخ والمصير المشترك، وعلى مقربة منا، “اتحاد أوروبي” يجنح نحو “الاندماج الشامل”، وبجوارنا نظام يسعى إلى الشتات والتفرقة والخراب، دون أن يستوعب أن عالم اليوم، لم يعد يقبل البتة، إلا بلغة الوحدة ولم الشمل والمصالح المشتركة والخيرات والمنافع المتبادلة…، ودون أن يستوعب أن فاتورة العداء، أقسى على البلاد والعباد… في انتظار زعماء عقلاء وأسوياء وحكماء، يعيدون النقطة إلى السطر والبيت إلى القصيدة.

وحتى لا نبخس الناس أشياءها، لا يمكن إلا أن نحيي عبر هذا المقال الناشط وليد كبير، ونثمن دعمه لوحدة المغرب وسيادته الكاملة على كافة ترابه، بالموازاة مع فضحه لكل ما ينتجه النظام الحاقد من دسائس ومؤامرات ونعرات، عابثة بوحدة الصف العربي، ومن خلاله ننوه بكل أصدقاء المملكة من إعلاميين ونشطاء وباحثين…، يبلون البلاء الحسـن، دفاعا عن مغربية الصحراء، وهؤلاء يستحقون جزيل الشكر وعظيم الثناء والتقدير…، ومهما قيل أو ما يمكن أن يقال، ليس أمامنا من خيار، سوى ترك رسالة مفتوحة موجهة إلى من يتحكم في أزرار النظام الحاكم بالجارة الشرقية: إذا لم تستطيعوا هدم جدار الحقد والعداء، فعلى الأقل امنحوا فرصة للأسر والعائلات المشتتة بين الحدود، لتبني جسر المحبة والسلام والوفاء…

#ممر #إنساني #جزائري #مغربي

زر الذهاب إلى الأعلى