ملتقى عين أمكون.. الإنسان والمجال

في موقع أثري يزخر بعبق التاريخ رغم وجوده وسط البراري، ولا يثير انتباه المسافر عبر الطريق الوطنية رقم 23 الرابطة بين الكارة وبنسليمان، توجد “عين أمكون” التي تقع بالجماعة الترابية الردادنة أولاد مالك بقبيلة لمذاكرة – أولاد اعلي. إن وجود هذا المنبع المائي الأسطوري، كما يشير اسمه الذي يضرب في أعماق التاريخ، ودون إمكانية تحديد معناه في لغتنا الحديثة، يستحق وقفة تأمل. لقد وجد في المكان تجمع سكاني يرجع إلى إمارة بورغواطة في العصر الوسيط، كما تدل على ذلك بقايا بعض الآثار، منها المقبرة وبعض أحجار البناء المتناثرة رغم محاولات طمس المعالم عبر الأزمنة الفائتة. لكن هذا الموقع وبهذا المكان المعزول لم يمنع فريق البحث في تاريخ وتراث الشاوية بلجنته العلمية من النزول إليه بعد الاطلاع عليه وإدراك أهميته في تاريخ المغرب قديما وحديثا.

كان هذا المكان محطة اجتمع بها يوم السبت 28 يناير 2023، وفي يوم ماطر يبشر بتحسن أوضاع الفلاحة، فريق يتكون من أكاديميين وباحثين ومؤرخين، وجمهور عريض من المتتبعين والمهتمين. المبادرة الأولى انطلقت من خلال تدوينة على منصة التواصل الاجتماعي قام بها الأستاذ المختار عطية، ابن المنطقة والكاتب العام لجمعية الصفاء للتنمية والثقافة والتضامن، التي يرأسها الشاب زكرياء عريف.

تتحدر من جماعة الردادنة أولاد مالك شخصيات تركت بصمتها في تاريخ المنطقة، وتتمتع بصيت طيب محليا وإقليميا، وحتى على الصعيد الوطني.

نذكر منهم على سبيل المثل المقاومين الذين انخرطوا مبكرا ضمن الحركة الوطنية لمحاربة الاستعمار بداية خمسينيات القرن الماضي، كـ”الحاج الطاهر فكري، وهو أول برلماني عن دائرة لمذاكرة أولاد علي باسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الحاج أحمد تاغية، أحمد الهيبة، عبد القادر الهبية والحاج عبد السلام الهيبة” وغيرهم. ومن أبناء المنطقة شخصيات وطنية مرموقة، منهم “البروفيسور المحجوب الهيبة، المندوب الوزاري لحقوق الإنسان والخبير في اللجنة المعنية بحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة”. كما عرفت المنطقة وقوف سكانها في وجه الاحتلال الفرنسي سنة 1908، وسجل لها الضباط الفرنسيون المدونون لحملة الجنرال الدموي ألبير جيرار ليو داماد.

بعد أن تبلورت فكرة أهمية الموقع التاريخي لـ”عين أمكون” احتضنها مختبر السرديات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، برئاسة الدكتور والروائي شعيب حليفي ونادي القلم المغربي. وتم ربط الاتصالات مع المكونات المحلية التي تتألف من جمعية الصفاء للتنمية والثقافة والتضامن، وجمعية ملتقى الذاكرة والتاريخ، وجمعية الأحمر بنمنصور.

صبيحة هذا اليوم التأم جمهور غفير من مناطق متعددة، بالإضافة إلى السكان المحليين، تحت الخيام وعلى مرتفع من مجرى وادي بوعسيلة، لإحياء وتخليد ذكرى معركة “عين أمكون وفخفاخة” ليوم 24 يناير 1908، ذلك اليوم المشهود في تاريخ الشاوية. وتلتها معركة 29 فبراير من السنة نفسها، ومعارك أخرى حولها.

في البداية افتتح اللقاء بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم. وترأس الجلسة الدكتور نور الدين فردي الذي ذكر بكون هذا المكان يختزل تاريخا يمتد إلى قرون بعيدة، ومنطقة شهدت أحداثا تاريخية عبر مختلف الأزمنة، وذكر بأن الهدف من هذا اللقاء، وهو السابع عشر من نوعه في أرجاء الشاوية، وذلك لنفض الغبار والنبش عن عالم يشوبه التهميش في غياب البعد الثقافي.

ثم تناول الكلمة رئيس جمعية الصفاء زكرياء عريف الذي عبر من خلالها، عن امتنانه العميق للأساتذة والباحثين المؤطرين لهذا الملتقى، وشكره لجميع الحضور والمتتبعين للاطلاع على معرفة مكونات هذه المنطقة المعروفة بأبعادها الراسخة في التاريخ منذ العهد البورغواطي حيث كانت تقيم بها مدينة.

السيد سعيد الهيبة قدم كلمة نيابة عن شقيقه الحقوقي، وعضو لجنة الإنصاف والمصالحة، المحجوب الهيبة، الذي لم يسعفه الوقت للمشاركة شخصيا، ورحب من خلالها بالمنظمين للملتقى ومجموع الحضور، مذكرا بطفولته التي قضاها بالبلدة مسقط رأسه، وكونه تابع تعليمه الابتدائي بمدرسة عين أمكون، متمنيا إعادة الاعتبار للمنطقة من حيث التنمية ورفع التهميش عنها.

الدكتور خليل بوعبيد، عضو المجلس الإقليمي لبنسليمان، تمنى في كلمته أن تكون هذه البادرة بداية رفع التهميش عن المنطقة، والتعريف بها جهويا ووطنيا. كما أشار إلى أنه عاقد العزم على العمل ما في وسعه لتنمية بلدته.
وألقى الدكتور شعيب حليفي مداخلة أبلغ من خلالها الحاضرين بشعوره بفرحة كبيرة لكون هذا اللقاء صادف هطول أمطار الخير بمكان التجمع. كما أثنى على جمعيات المجتمع المدني المنظمة والمشاركة في هذا اللقاء الذي اعتبره استثنائيا لكونه ولأول مرة بعد العديد من اللقاءات عبر الشاوية، استطاع الجمع بين هرمين في البحث التاريخي بالشاوية. يتعلق الأمر بكل من الأستاذ علال الخديمي الذي أرخ للشاوية، وكان مؤلفه “التدخل الأجنبي والمقاومة بالمغرب 1894 – 1910، حادثة الدار البيضاء واحتلال الشاوية” هو الذي أطلق الشعلة للاشتغال على تراث الشاوية. والشخصية المتميزة الثانية تكمن في تواجد الأستاذ أحمد سيراج الذي أسس للترقيم والبحث الأثري في منطقة الشاوية. كما اعتبر المتحدث أن هذا اللقاء يعيد إلى النبش في التاريخ لمدة اثني عشر قرنا مع وجود إمارة بورغواطة، مضيفا أن هذه الأرض تحوي بين طياتها كنزا لا يزال مطمورا، ويدخل ضمن الهوية الوطنية. واعتبر هذا المكان معلمة أثرية لما له من ذكر في التاريخ لمشاركة سكانه في الكفاح والجهاد عن منطقتهم. ووعد بأن الفريق المشرف عليه سيجمع مداخلات هذه الندوة في كتاب يقدم بنفس المكان في السنة المقبلة.

تدخل الأستاذ علال الخديمي تضمن عرضا عن الجهاد والمقاومة التي قامت بها قبائل الشاوية ضد الغزو الفرنسي سنتي 1907 و1908، للدفاع عن الهوية والكرامة رغم تفوق العدو المجهز بالأسلحة المتطورة والجنود المحترفين. وقدمت للمحاضر، الجمعيات المنظمة للملتقى، درعا رمزيا للاحتفاء به، عربونا للمحبة باسم سكان جماعة الردادنة أولاد مالك.

وتوالت العروض بمداخلة كل من الدكتورة خديجة الخديري والدكتور أحمد سيراج لتقديم توضيحات حول كتابهما المشترك “بصمات بورغواطة، دراسة حول حضارة بورغواطة المنقرضة بتامسنا”. وكان من جملة المتدخلين بعض الطلبة الباحثين أبناء المنطقة منهم عبد الكبير صبور الباحث في علم الاجتماع والذي ناقش موضوع القبيلة والمجال. ورشيد عبيد الذي قدم عرضا حول التحولات السوسيو-مجالية وتأثيرها على الموارد المائية، جماعة الردادنة أولاد مالك نموذجا، عين أمكون. ثم تدخل في الختام الدكتور صالح شكاك الذي تحدث عن مقاومة الشاوية للاحتلال الفرنسي بداية القرن الماضي رغم ظروف معيشهم القاسية، لكنهم تمسكوا بالحفاظ على الكرامة وشهامة القبيلة. ودعا إلى التفكير في محاولة تدوين هذه الملاحم البطولية عن طريق السينما لتجسيد الأحداث وظروف العيش.

وانتهى اللقاء بتوزيع شواهد تقديرية من طرف الجمعيات المنظمة على المشاركين في الندوة تقديرا لمجهوداتهم، وتكريما لبعض الفاعلين الجمعويين.

#ملتقى #عين #أمكون. #الإنسان #والمجال

زر الذهاب إلى الأعلى