مركزية الاتجاهات في مآل العلاقات الزوجية

يعتبر الزواج من بين المؤسسات التي يلج إليها الفرد في مرحلة معينة من مراحل عمره بغية الاستقرار وتكوين أسرة. ويتم ذلك وفق عقد قانوني يؤطر وينظم علاقة الزوجين فيما بينهما. ومما لا شك فيه أن الإقدام على العلاقة الزوجية من قبل الفرد يجب أن يتأتى من الرغبة في الاستمرار ودوام هذه العلاقة، حيث إنها يجب أن تبنى منذ البداية على أساس صلب ومتين، يضمن الهدف والمبتغى الأسمى المحدد لها مسبقا؛ لكن العكس هو ما أصبح يلاحظ في الآونة الأخيرة؛ بسبب الارتفاع المهول في نسبة الطلاق بالمجتمع المغربي، إذ سجلت 26,957 حالة سنة 2021، مقابل 20,372 حسب المعطيات الرسمية الصادرة عن وزارة العدل.

لذلك، ارتأينا، في هذا المقال، التطرق إلى موضوع “العلاقات الزوجية” ومقاربة هذا الموضوع سيكوسوسيولوجيا من خلال مفهوم “الاتجاهات” باعتباره عاملا أساسيا في تفشي الخلافات والمشاكل بين الزوجين، وكذا مدخلا لتأهيل واستعادة التوازن في العلاقات الزوجية، مع إعطاء بعض الأمثلة الموضحة لذلك.

لعل الطلاق ظاهرة من بين الظواهر التي أضحت تغزو مجتمعنا المغربي في السنوات الأخيرة، ومما لا شك فيه أن الدولة بمختلف مؤسساتها تسعى إلى إيجاد حلول ناجعة للتخفيف إلى حد ما من هذه الظاهرة التي أصبحت تشكل خطرا على المجتمع بشكل عام ومؤسسة الأسرة بشكل خاص، إذ تعتبر العلوم الإنسانية والاجتماعية بمختلف تصوراتها وأدواتها من بين المجالات البحثية التي يمكن أن توجهنا لفهم وتحليل العديد من الجوانب المتعلقة بهذه الظاهرة.

وتعد “الاتجاهات les attitudes” من بين النظريات السيكوسوسيولوجية التي تندرج في هذا المجال، والتي يمكن أن تسعفنا في فهم الكيفية التي تساهم بها الاتجاهات في بروز النزاعات والخصومات ما بين الشريكين وكذا في تحقيق التوازن والاستقرار في العلاقات الزوجية، إذ يقصد بالاتجاهات: “حالة نفسية يعبر عنها بالتقييم لشيء ما في بيئتنا الاجتماعية أو المادية(شخص، شيء، أو موضوع معين) من حيث درجة تفضيله أو عدم تفضيله. وتتكون الاتجاهات من ثلاثة أبعاد أساسية:

المكون الانفعالي: إذ لا تخلو الاتجاهات من العواطف والانفعالات؛ فالفرد قد يشعر بالإنجاب أو النفور من موضوع الاتجاه (مرغوب فيه/ مرغوب عنه)؛ وبالتالي فهذا البعد يشير إلى تلك الانفعالات التي يحملها الفرد تجاه موضوع الاتجاه.

المكون المعرفي: حيث يحيل هذا البعد على تلك الاعتقادات والأفكار التي يحملها الفرد، أي ما يعرفه أو ما يعتقد الفرد أنه يعرفه عن موضوع الاتجاه.

المكون السلوكي: حيث تسمح الاتجاهات بتوجيه سلوك الفرد وممارساته اليومية؛ وبالتالي، فإن هذا البعد يربط ما بين الاتجاه والسلوك.

من خلال التعريف المبسط لهذا المفهوم، يمكن القول إن الاتجاهات هي التي توجه السلوكيات والممارسات اليومية للفرد تجاه حياته المادية والاجتماعية. وبما أن مؤسسة الزواج تعتبر جزءا لا يتجزأ من هذه الحياة؛ فإن الولوج إليها يتأتى من خلال الاتجاهات التي يحملها الفرد تجاه هذه مؤسسة، لكونها توجه اختيارات الفرد نحو الشريك الذي يراه مناسبا، فعلى سبيل المثال: عندما يقرر الرجل اختيار شريكة حياته فإن هذا الاختيار دائما ما يكون مصدره هذه الاتجاهات التي يحملها تجاه المرأة التي يريد الزواج بها، كأن تكون جميلة، ليس لها ماض، مثقفة… وغيرها من المعايير والصفات المختلفة تبعا لكل رجل على حدة، كما توجه أيضا الكيفية التي يرغب في أن يعيش بها الفرد حياته الزوجية؛ إذ إنها لا تقتصر فقط على توجيه هذه الاختيارات والسلوكيات، بل يتعدى ذلك إلى الدور الجوهري الذي تلعبه الاتجاهات في تحديد طبيعة العلاقة الزوجية ما بين الشريكين. وهذا ما يمكن التطرق إليه من خلال “نظرية التوازن المعرفي L’équilibre cognitive” التي أسسها عالم النفس الأمريكي هايدرHaider. هذا المفهوم قد استمد أصوله النظرية من المبدأ العام للتوازن (L’homéostasie) لكلود برنارد Claude Bernard في البيولوجيا، حيث يحيل على خاصية في جسم الكائن الحي يسعى من خلالها إلى تحقيق التوازن أمام التغيرات التي قد تواجهه، كارتفاع درجة حرارة الجسم مثلا.

وتقوم هذه النظرية -التوازن المعرفي- على فكرة أساسية، مفادها أنه: لا ينبغي أن تتعارض الاتجاهات والأحكام التي يتبناها الفرد مع بيئته الاجتماعية. وعندما يكون هنالك تعارض تميل القوى إلى استعادة التوازن؛ إما عن طريق تغيير العلاقات بين عناصر البيئة أو عن طريق تغيير التمثل الذي يحمله الفرد عن بيئته، حيث تفترض نظرية التوازن المعرفي من هذا المنطلق أن الفرد دائما ما يسعى إلى تكوين رؤية متماسكة ومشتركة في علاقته مع الآخرين، ومع البيئة الاجتماعية التي ينتسب إليها. كما يميل إلى تأسيس علاقات مع الأفراد الذين يتوافقون معه فكريا، أي في الاتجاهات التي يحملها كفرد مستقل عن الآخرين؛ إذ يعتبر هذا التوافق والانسجام كأساس لتحقيق التوازن ونجاح العلاقات، وأن الاختلاف والتضارب من حينها يعتبر عنصرا مفجرا للصراعات والخلافات التي تنتهي بفشل هذه العلاقات وتفككها. فعلى سبيل المثال، لا يمكن للمرأة غير الموافقة على فكرة تعدد الزوجات(-) أن تتزوج برجل يخالفها الاتجاه(+) وأن تكون علاقتهما الزوجية ناجحة؛ وإذا حدث وتزوجا على الرغم من عدم الانسجام الذي بينهما حول فكرة “التعدد”، ستحدث حالة من اللاتوازن في العلاقة في حالة ما إذا طلب الرجل من الزوجة الأولى بأنه يريد الزواج للمرة الثانية(+>>- =-)؛ إذ سيترتب عن هذا اللاتوازن مجموعة من المشاكل بين الزوجين بغية استعادة الاستقرار في علاقتهم الزوجية، أو تغيير الاتجاه الذي يحمله كل منهما تجاه الآخر؛ بغية تحقيق التوازن المعرفي.

من بين الإستراتيجيات المعرفية التي يلجأ إليها الأفراد من أجل استعادة الاستقرار أو التوازن والتي تم رصدها من قبل هذه النظرية، “إستراتيجية الفعلL ‘action ” وعن طريقها يحاول الفرد أن يتدخل من أجل تعديل الاتجاهات التي يحملها الطرف الآخر نحو موضوع الاتجاه؛ بهدف تحقيق التناسق والانسجام فيما بينهما. فعلى سبيل المثال، كأن يحاول الزوج إقناع شريكته بتغيير اتجاهها حول فكرة تعدد الزوجات، باستخدام بعض الحجج والأدلة التي تدافع عن هذا الموضوع، من قبيل: أن تعدد الزوجات مستحب في الدين الإسلامي، وأنه لا يشكل أي ضرر على الزوجة الأولى… وغيرها من الحجج التي تنحو منحى إقناع شريكته بتغيير اتجاهها؛ فإذا توفق في ذلك تصبح العلاقة متوازنة ومستقرة(+>> + = +)، خالية من الصراعات والمشاكل؛ ما دامت فكرة التعدد مرحبا بها، ولم تعد تسبب أدنى مشكلة بالنسبة للزوجة.

بالنسبة للإستراتيجية الثانية فتتمثل في “إعادة التنظيم المعرفي la réorganisation cognitive” والتي يلجأ إليها الفرد في حالة ما إذا فشل في الإستراتيجية الأولى، وتنقسم إلى ميكانيزمين أساسيين؛ يتجسد الأول في تغيير الاتجاهات التي يحملها الفرد تجاه موضوع الاتجاه. وهنا يحاول الشريك تغيير تلك الاعتقادات التي يحملها تجاه فكرة “التعدد”، كأن يحاول إقناع نفسه بأن التعدد سيجعل من علاقته مضطربة مع الزوجة الأولى، أو أن هذا القرار سيتسبب له في العديد من المشاكل(عاطفية، مادية، أسرية…) بهدف تحقيق التناسق، استعادة التوازن، والاستقرار في العلاقة(->>->> +)، أو اللجوء إلى الميكانيزم الثاني، والذي يتمثل في: تغيير الاتجاهات التي يحملها الشريك تجاه زوجته. هذا التعديل في الاتجاه سيؤدي به مباشرة إلى إصدار حكم اجتماعي في حقها، مثلا: كأن يعتبرها متسلطة، عنيدة… وغيرها من الأحكام الاجتماعية التي ستسمح له باستعادة توازنه المعرفي(->>->> +) والتي ستفضي به في علاقته مع الزوجة إلى الانفصال والتباعد سواء في شكله القانوني أو العاطفي؛ بمعنى حتى وإن استمرت العلاقة بينهما كزوجين تحت سقف واحد، فلن يكون هناك تجاذب وانسجام بينهما؛ الأمر الذي سيفضي بهما إلى التخبط في مشاكل زوجية وأسرية كثيرة، تذوب معها متعة الحياة الزوجية.

لقد أثبتت نظرية “التوازن المعرفي” منذ تأسيسها، من خلال العديد من التجارب، أهميتها وفاعليتها في فهمها لطبيعة التفكير الإنساني الاجتماعي الذي يميل إلى التماسك والانسجام مع بيئته الاجتماعية، وكيف يلعب الاختلاف في الاتجاهات عاملا أساسيا في تفشي الخلافات والمشاكل بين الأفراد والمجموعات الاجتماعية. وبالتالي، يجب على الفرد أن يكون مدركا بأنه قبل ولوجه إلى مؤسسة الزواج، على معرفة تامة بالاتجاهات التي يحملها الطرف الآخر[الشريك]، من حيث ما يحب وما يكره، معتقداته، مبادئه، فونطازماته الجنسية… بمعنى أن تكون لديه نظرة شمولية على الكيفية التي يريد أن يعيش بها شريكه علاقته الزوجية؛ وهذا بطبيعة الحال لن يتأتى إلا عن طريق الإفصاح بشكل واضح وصريح على الاتجاهات التي يحملها كل طرف للآخر تجاه حياته الزوجية في شتى أبعادها، إضافة إلى معرفة ما إذا كان هنالك انسجام بينهما؛ بعدها يمكنهما آنذاك الولوج إلى مؤسسة الزواج وتأسيس أسرة. أما إذا لم يكن هنالك توافق وانسجام، فيجب التراجع على هذه الخطوة، وعدم الإقدام عليها وفق مبدأ أن: “الاختلاف لا يفسد للود قضية”؛ لأنه في حقيقة الأمر، وأمام معايشة الواقع، فالاختلاف يفسد الكثير والكثير؛ ولو لم يكن كذلك لما كنا لنرى أن التضارب في الاتجاهات ما بين مختلف الفئات(أزواج، الأصدقاء، الدول…) يؤدي إلى النزاعات والتطاحنات التي تصل في بعض الأحيان إلى العنف بمختلف أنواعه، وكذا إلى الإقصاء الاجتماعي.

يمكن القول، عموما، إن التطرق إلى موضوع العلاقات الزوجية من خلال “مفهوم الاتجاهات” باعتباره ركيزة من الركائز الأساسية في تحقيق التوازن واستقرار العلاقات، وكذا عنصرا أساسيا في بروز الصراعات والخلافات بين الأفراد كما وضحنا سابقا لا يعني القول بأن عدم التوافق في الاتجاهات بين الشريكين هو المصدر الوحيد في تذبذب العلاقات الزوجية بالمجتمع المغربي، وكذا في الارتفاع المهول الذي شهدته المحاكم المغربية مؤخرا في نسب الطلاق؛ لكنها تظل من بين النظريات السيكواجتماعية العلمية والعملية التي لا يمكن للدولة أن تتغاضى عنها أو إغفالها في فهمها لأحد العوامل الكامنة وراء ما يعرفه المغرب حاليا “بتسونامي الطلاق”. لذلك، من أجل تقديم حلول موضوعية وخطوات استباقية فعالة في المستقبل، للتخفيف إلى حد ما من هذه الأزمة التي تجتاح مجتمعنا، يجب أن تتم الاستعانة بالأخصائيين وبالأساتذة الباحثين في مجال علم النفس الاجتماعي المعرفي ومبحث المعرفية الاجتماعيةLa cognition sociale في الاتفاقيتين اللتين وقعتهما كل من الجمعية المغربية لتنظيم الأسرة وصندوق الأمم المتحدة للسكان والهيئة الوطنية للعدول؛ واللتان تهدفان إلى إخضاع الاشخاص المقبلين على الزواج لدورات تأهيلية من أجل استثمار العديد من المقاربات في مجموعة من الدراسات الميدانية، من قبيل “التمثلات الاجتماعية Les représentations sociales” والتي من خلالها يمكن التبصر علميا بتمثلات الأزواج والشباب المقبلين على الزواج حول هذه المؤسسة، وغيرها من المقاربات التي يمكن أن تساعدنا في إعطاء تفسيرات علمية دقيقة حول العوامل الكامنة في انتشار هذه ظاهرة، ومن ثم الخروج بخلاصات واستنتاجات موضوعية تمكننا من إخضاع هذه الفئة إلى التوعية بشأن العلاقة الزوجية الناجحة، بشكل ممنهج وفعال.

#مركزية #الاتجاهات #في #مآل #العلاقات #الزوجية

زر الذهاب إلى الأعلى