في سبيل فلسفة للتربية .. المعنى واللامعنى

قد لا يختلف اثنان على أن من غايات التربية في مختلف تعاريفها وعبر كل الحقب والعصور هي تشكيل الوعي الفردي والجماعي والعمل على ديمومته، فسواء أكانت الأسرة أو المدرسة هي المنتدبة لأمرها فهي لا تفتأ تمكن أفرادها من مهارات حياتية دامجة في الوسط الذي تحيا فيه، والمهارات هاته ما هي إلا قدرات يتم بناؤها عن طريق الدربة والمران للقيام بمسؤوليات مرتبطة بالممارسات اليومية، ولعل هذا ما يرد في أعم المناهج الدراسية العربية في عبارات عامة من قبيل: إكساب الأطفال قدرات وخبرات عملية تجعل منهم أفرادا منتجين… أفرادا مساهمين في تطوير اقتصاد بلدهم… أفرادا مواكبين للتطور التكنولوجي… كفاءات وعاملين مؤهلين… وكلها تعابير إنشائية تمثل أماني بدئية يتم حشرها ضمن ما يسمى زمرة المهارات الصلبة بما هي سلوكيات موجهة تقبل الملاحظة والرصد والتتبع والتقويم وترتكز على قدرة أداء مهمة محددة ضمن مجال معين، وما يعزز التحكم في هذا الصنف من المهارات هو طبيعتها الإجرائية بفضل إمكانية تحويل المنهاج الواقعي (بيرينو) للمضامين والمحتويات الدراسية إلى مخرجات نظرية وعملية قادرة على جعل المتخرج مساهما في الإنتاج الاقتصادي لتحقيق النمو، فمن غير منهاج دراسي قادر بمخرجاته على إكساب المتعلم-المتدرب مهارات صلبة قابلة للتصريف في القطاعات الإنتاجية لا يتحقق النمو ولا التنمية، بناء على بديهية مفادها أن كل مجتمع يتمتع أفراده بمستوى تكوين عال ومتمكن من أدوات الإنتاج وآلياته يعرف زيادة في الإنتاجية والابتكار، والتجربة الكورية الجنوبية شاخصة من حيث تمكنها من اللحاق بركب الدول المتقدمة والدخول في لجج المنافسة الاقتصادية، من خلال الاستثمار في الموارد البشرية المتجسدة في قطاع التعليم في التنمية، بحيث تمكن هذا البلد من جهة أولى من توفير اليد العاملة المؤهلة المتمتعة بالخبرة في القيام بنوع مخصص من الأعمال التي تتطلب جملة مهارات صلبة (التكوينات الممهننة) ومن جهة ثانية تبنى سياسة استقطاب كبرى الشركات العالمية في مختلف الصناعات للعمل فوق أراضيه لتكون “قصة كوريا الجنوبية من أنجح قصص التنمية الاقتصادية بفضل التعليم”.

غني عن البيان أن المناهج الدراسية لا تتطرق إلى المهارات الصلبة فقط، وإنما تعمل على بناء سمات شخصية لدى المتعلم تميزه في تعامله مع الآخرين وهو ما نصادفه في عبارات منهاجية كالمساهمة في تكوين شخصية متوازنة مستقلة ومتفتحة؛ ترسيخ قيم المواطنة وممارسة الحياة الديمقراطية؛ اعتماد المشاركة والحوار واحترام الرأي الآخر والانخراط في المشاريع الفردية والجماعية… وهذا يحيل على المهارات اللينة وهي بحسب (Tilly and Moss) “القدرات والصفات المتعلقة بالشخصية والمواقف والسلوك، وهي غير المعرفة التقنية الرسمية المطلوبة لكل مستوى من وظائف الخدمة الماهرة ” وأما بالنسبة لـ(Al and Klein) فهي “كل السلوكيات الموجهة نحو هدف بما في ذلك الاتصال اللفظي وغير اللفظي وكفاءات بناء العلاقات التي تتسم بعمليات إدراكية ومعرفية معقدة”.

ومن المهارات اللينة الصريحة التي ينميها المنهاج الدراسي لدى المتعلم مهارات التواصل؛ تطوير الذات؛ العمل الجماعي؛ إدارة الوقت؛ حل المشكلات؛ اتخاذ القرار… وهي فردية، متشابكة ومتكاملة في الآن نفسه ولا محيد عنها في تنزيل المهارات الصلبة في مكان العمل لزيادة الإنتاج وتجويده، لذلك يقال إذا كانت المهارات الصلبة تساعد في الحصول على العمل فإن المهارات اللينة هي التي تحافظ عليه ويورد (دافيد 2018) مقارنة بين المهارتين كما تظهر في هذا الجدول التوضيحي الوارد في مجلة المثنى العراقية المجلد 10 العدد 3 (2020).

المهارات اللينة مقابل المهارات الصلبة

المهارات اللينة تميز علاقة العامل بالآخرين، أو تبين كيفية التعامل مع الحياة والعمل

التعريف

المهارات الصلبة تتضمن المعرفة والقدرات المحددة للنجاح في العمل

المهارات اللينة هي مهارات شخصية ذاتية من الصعب قياسها

القابلية للقياس

المهارات الصلبة هي قدرات قابلة للتعلم، يمكن تعريفها وقياسها

تتعلق المهارات اللينة بالخصائص والصفات الشخصية فمن الصعب إثباتها

الإثبات

من السهولة إثبات المهارات الصلبة من خلال الشهادة، درجة التعليم، الجوائز..

مهارة التفكير الناقد

أمثلة

مهارات الحاسوب

بيد أن ما يميز المناهج الدراسية هو خطابها المزدوج، فهي عادة عندما تصرح بأدوارها في إكساب المتعلم المهارات الحياتية تقوم بإخفاء حقيقة الأدوار التي تطلع بها في الخفاء عبر المبادئ التي يقوم عليها المنهاج، فبتسليط الضوء على مبدأ: “إعطاء معنى للتعلمات” نجده يتستر على المعنى الفعلي للعبارة، فما المقصود به؟ وكيف يمكن تأويله وفق العلوم الإنسانية؟ فبالرجوع إلى الوثائق الرسمية للتربية وأدبياتها، نلفي تفسيرا فريدا يتمثل في جعل التعلمات ذات جدوى بالنسبة للمتعلم بفضل وضعيات تعليمية دالة وحوامل واقعية مبنى ومعنى، لكن ما لا تشير إليه الوثائق التربوية أن المعنى يبنى سوسيولوجيا فقط عندما يستشعر المتعلم تطابقا وظيفيا بين المهارات الصلبة واللينة التي تقدمها المدرسة والممارسات الاجتماعية والاقتصادية لها، فالتعلمات مرتبطة بالاستعمال الإجرائي وليس لذاتها، بمعنى آخر يوجد المعنى بتوافر شرطين أولهما فيما تذهب إليه الذات المتعلمة وتقصده وثانيهما هو الإجراء أي ما تقوم به الذات، فالمتعلم الذي يريد أن يصبح مهندسا سيجد المعنى في درس الفيزياء والآخر الذي يريد أن يصبح مرشدا سياحيا سيجد المعنى في اللغات، فالمعنى يبنى وليس معطى جاهزا للاستهلاك وإعطاء معنى للمتعلم يجعل التصور في الأدبيات تقليديا والمفاهيم غير واضحة والمسافة الإبستيمولوجية منعدمة، لأن ما يتم تجاهله أن المتعلم كائن استراتيجي يعرف جيدا المواد الدراسية التي عليه التحكم فيها والتي تخدم مشروعه الشخصي فتكون بذلك ذات معنى بالنسبة له، فالمسألة ليست في إعطاء المعنى بقدر ما هي المساعدة في إيجاد المعنى في خضم المشروع الشخصي للمتعلم، فالمعنى لا يتأسس إلا بتعالق المعنى نفسه والمضامين الدراسية المبرمجة خلال فترة زمنية معينة، والمقدمة على صيغة مواضيع متسلسلة أو بحسب تعالقها بدورها مع مواد دراسية أخرى في سياق التكامل المعرفي وهي بما هي مضامين فهي موجهة للوعي، معتمدة في التنشئة الاجتماعية وبانية للمعنى، ولكن بأي معنى؟ فلأن الإنسان دائم السؤال فهو كائن مفكر دائم تقليب النظر في الأفكار والمعاني حول الحياة والوجود والعدم والزمان والمكان… أي النظر في الوجود بما هو موجود (أرسطو) كما أن أسئلته ذات بعد قيمي.

فالقيم الإنسانية ليست كيانات فيزيائية أو أشياء حتى تتم موضعتها وهي غير مطلقة ولا ثابتة، فقد أكد بروتاغوراس على نسيبة الحقيقة فالإنسان كما يقول: “معيار كل شيء… ألا يحدث أن الهواء بعينه يرتعش منه الواحد ولا يرتعش منه الآخر، فما عسى أن يكون الهواء في ذاته”، وهي أسئلة زيادة على ذلك من صميم الموقف الإبستيمولوجي المتمثل في انعدام التطابق بين الذات والموضوع أي بين الفرد والعالم على مستوى عجز العقل على تأسيس نظر عميق لسيرورة عقلنة الواقع لأن شوائب التفكير الأسطوري لم تختف أبدا من مجال العقل، فمازال الماضي البدائي يعتمل في عقل الإنسان المعاصر إلى درجة العصاب (يونج)، فالعصاب وجود مهجور وموت روحي والشيء الذي يحيي منه لا بد أن يكون “وهما” حقيقيا جدا، لا بد أن يكون وجودا قويا جدا، لا بد أن يكون له معنى جوهريا، فالانتقال من الأول إلى الثاني أي من الموت إلى الحياة هو الانتقال من العدم إلى الوجود أي الانتقال من العالم اللامعقول بمعنى ما إلى العالم المعقول، وهو خروج من الدرجة صفر (رولان بارت) التي ليس أمامها سوى الطبيعة الفطرية والدخول في الثقافة، بما هو خروج من اللامعنى والدخول في المعنى غير المعطى في الطبيعة، لذا كانت الوظيفة الحقيقية للتربية هي إعطاء معنى للحياة في ذهن الأفراد وليس معنى للتعلمات أو كما قال جاك هالاك مجاز: “النظام المدرسي أصبح اليوم بديلا للكنيسة” فهو نظام هيغلي صارم ينتصر للعقلانية ويشتغل تحت شعار: “ما هو عقلاني هو واقعي، وما هو واقعي هو عقلاني” إلى درجة تأليه العقل الأداتي وتحكيمه وحده في فهم وتفسير الطبيعة والتاريخ وحياة الأفراد والمجتمعات، ما دامت خاضعة لقوانين موضوعية بإمكان العقل التعاطي معها انطلاقا من اعتقاد التطابق بين الفكر والواقع في وثوقية صماء، وهو ما لا يتوافق مع الطبيعة البشرية، فلا شيء يثبت أن البراديغمات المنطقية يمكن أن تكون كونية وضرورية بحسب (نيتشه) والحياة نفسها لا يمكن أن تكون إثباتا منطقيا صارما فالتطابق فكر/واقع هو تطابق تحريفي للتطابق الحقيقي فكر/حياة، حيث الوهم القوي ركن أساسي من المعرفة كما الخطأ المعرفي ليس عرضا في سياق البحث وإنما هو من صميم الحقيقة، لأن الحقيقة هي نفسها وهم قوي إلى درجة إيهام العقل بتجاوز الخطأ ليصادفه في مسيرته وكأنه شبح لا انفكاك منه. لذلك فالعقل هو نفسه وهما عند (فرويد) لأن ما يحرك سلوك الإنسان ويفتح طاقاته يدور في فلك اللاوعي وليس الوعي واللاشعور وليس الشعور واللاعقل وليس العقل، فاللاعقل هو أصل العقل كما نتلمسه في اللسانيات البنيوية التي قطعت مع وهم الوعي والإرادة، بنقلها إشكالية المعنى والدلالة من مساحة المقاصد والنوايا والذوات إلى فضاء النسق اللغوي اللاشعوري، وهو ما استلهمه (ستروس) وطبقه على الظواهر الاجتماعية والثقافية ليحطم أصنام الوعي والإرادة ويعيد الاعتبار لحقائق اللاشعور وتضارب المعاني وهو ما عبر عنه (موريس جودليي) حينما قال: “اللاشعور يمثل في الأنثروبولوجيا البنيوية ذلك الأساس الذي يسمح بفهم وتمثل العلاقات، والذي يجاوز الفكر ويتواجد في الجهاز العصبي… يحيل إلى قوانين تشكل المادة والطبيعة التي تؤسس الشروط الأولية لإمكان الفكر ذاته، ولإمكان التاريخ البشري ذاته “إن الوقوف على سراب العقل هو ما جعل الأنثروبولوجيا البنيوية تحمل لواء الفكر المادي” على حد تعبير (ستروس). وأما توحيد المعنى وفق نموذج عقلي فهو مصدر الهيمنة والاستبداد والاغتراب عن الذات والإهانة لأن الإنسان يزخر بالاختلافات والتنوعات الثقافية والإثنية والفكرية والعقائدية واللغوية ومحركه ليس مطلقا وعيه، فتوحيده وفق أقانيم العقل والوعي هو تعسف شديد وموت للإنسان وإعلان نهايته، فلا غرو إذا أن للامعنى معنى متفوقا على المعنى يتجاوزه ويتخطاه إلى الواقع الحقيقي للشخصية الإنسانية، وهو ما ليس من وظائف التربية ولا من مجال اهتمام المناهج التعليمية.

على كل حال، فماذا كان سيكون الإنسان لو تحرر من عقال أوهام العقل؟؟

#في #سبيل #فلسفة #للتربية #المعنى #واللامعنى

زر الذهاب إلى الأعلى