عام من التدبير التنموي للتعليم؟

راهن النموذج التنموي الجديد على التعليم، كمدخل لتنزيل الهندسة الجديدة للقضية التنموية، من خلال إسناد حقيبته لرأس وكبير مهندسي النموذج. حتى يتسنى فتح المسالك والسبل لجريان خلاصاته، في دروب الواقع وشوارع المعيش اليومي، عبر قنوات معاهد التربية والتكوين، بوابة وقاطرة التنمية، وترمومترا يقيس حرارة تفعيل نوايا الساهرين عليها. فإلى أي حد استطاع مهندس النموذج التنموي، حلحلة ملفات المنظومة التربوية المتراكمة؟ وإلى أي مدى بلغ كنس مخلفات عقود من تدبير لم ينل رضى أهل الدار ولا الزوار؟

المدرسة العمومية بين رهان الثقة وواقع الشك:

بلغ الشك في قدرة المدرسة على إكساب المتعلم الحدود الدنيا والأساسية من المعارف والمهارات، دركا ليس بعده سوى الهاوية. فكل الروائز تتحدث نتائجها عن الضعف القرائي والحسابي البين لمستويات متقدمة دراسيا. العنف يضرب أطنابه داخل المدرسة وخارجها وفي كل الاتجاهات، أساتذة محط تبخيس وتنكيت، أخلاقهم لم تسلم من ألسنة السوء واتهام بأشنع النعوت وأخسها. ومتعلم مشبوهة سلوكياته، مطعون في جديته وإخلاصه لدراسته. وأسر تخلت عن أبجديات أدوارها في المواكبة المتبصرة لتمدرس أبنائها، تبحث عن تفوق موهوم أو ممنوح، يتجرع مرارته وسوء منقلبه ولو بعد حين الكثير.

فشلت المدرسة في الانخراط في اقتصاد المعرفة، وإنتاج النخب التي ما إن يبزغ نجمها، وتينع أزهارها ويحين موعد قطافها، حتى تركب موجة الهجرة والنأي بنفسها بعيدا عن الوطن، والإثمار في بساتين وتربة غير التي نمت فيها واحتضنت جذورها. وتسرب الأطر والكوادر في تصاعد مستمر، وفي مختلف الجامعات والمعاهد، مهددا مراكز البحث والتفكير بالشلل، ويحول دون مساهمتها بالقدر والكيف المأمولين منها في المسلسل التنموي. الشيء الذي يعلن عن اختلال ما تعاني منه المنظومة، ويرفع من منسوب الشك في قدرتها على التكوين بدون مثل هذه الموارد البشرية، القادرة على قيادة جبهة رفع تحديات تكنولوجيا الاتصال والقيم التواصلية الجديدة، في زمن أصبح حضورها التربوي والعلمي يزداد أهمية وملحاحية.

يحدث هذا ونحن نتحدث عن الانفتاح على تجارب بيداغوجية ولغوية خصوصا غير فرنكوفونية، التي أصبحت مكتسباتنا المتراكمة في ما بعد الاستقلال مهددة بالإفلاس، أمام الزحف والاكتساح لمنظومات ثقافية وعلمية أنغلوسكسونية وغيرها، فرضت وجودها بإنتاجها الذي طال مختلف المجالات، حتى أصبحت مفرداتها محط لهو وجد الناشئة، فهل نستطيع الصمود بما اعتبرناه ثوابت ومقدسات، هي الآن معيق لنهضتنا وتقدمنا؟ أم ننفض عنا الغبار، ونتحلل من القيود التي ليست كذلك إلا بإملاءات فاقدة للشرعية العلمية، والمعطيات الواقعية. ونختار الاختيار الصحيح كما يتحدث عنه الآن؟ ليكون للمدرسة كما أريد لها دور في إرساء السلم الاجتماعي، وكسب الرهانات المعرفية والسياسية والاقتصادية…

المدرسة تراوح مد الإصلاح وجزر الإنجاز:

لقد وصف تقرير الخمسينية الإصلاح بالتردد وعدم الاستقرار، حيث تتعرض الأولويات للتغيير والتبديل، وعدم الحسم في النموذج البيداغوجي الذي ينبغي نهجه. كما تتوقف بعض المشاريع في منتصف الطريق، ولم تبلغ المدى الذي أريد لها. بالإضافة إلى غياب التقييم للمنجز، والتشخيص الدقيق لمواطن القوة والضعف، والقصور والنجاح. فمنذ الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي كان ولا يزال أهم وثيقة إصلاحية، والمشاريع تثرى، وأداء المدرسة لم يرق. فالوزير اخشيشن أقنعنا بأن الموارد المالية كفيلة باستدراك مواعيد الميثاق المنفلتة، الشيء الذي لم يعجب خلفه السي محمد الوفا رحمه الله، فضرب بمشاريع الأربعين مليارا عرض الحائط جملة وتفصيلا. لكن رشيد بلمختار كان له رأي آخر، فلربما سمع صيحة المرحوم المفكر العالم المهدي المنجرة، الذي اشتكى غياب الرؤية، الناظمة للفلسفة التربوية، والمسددة للأداء البيداغوجي. فتجند المجلس الأعلى لتخطيط الرؤية الاستراتيجية، هي اليوم في منتصف مسيرتها، تشكو اختلالات رغم تجديدها لنفس الإصلاح. ولضمان “الاستمرارية والتراكم الإيجابي”، شرع القانون الإطار الملزم لكل وافد جديد على تدبير الشأن التربوي، تجنبا لقلب الطاولة والبدء من الصفر.

ونظرا للثقوب العديدة التي يعرفها الجسم التربوي، أعلن محمد حصاد حربا على ظاهرة الاكتظاظ، والحث على الطلاء وارتداء الوزرة لستر العورات، وتدريس الفرنسية بالمستوى الأول انفتاحا على الثقافات. ولأهمية التعليم الرقمي وراهنيته، وتعزيزا للتعلم الذاتي، راهن السيد أمزازي على مأسسة التعليم عن بعد، وإنتاج عدة بيداغوجية رقمية فرضتها الجائحة، فكانت “ضارة نافعة”، بالإضافة إلى تنظيم اللجنة الوطنية لتتبع ومواكبة الإصلاح الذي لم يحصل من قبل.

إن التعجيل بمعالجة العجز الحاصل في الخدمات العمومية وفي مقدمتها التعليم، شكل أهم خلاصات النموذج التنموي الجديد، حتى يتسنى دعم والرفع من القدرات الشخصية للمواطن، الذي يعتبر وسيلة وهدف التنمية المنشودة. لهذا أطلق السيد شكيب بن موسى المشاورات الوطنية للإصلاح، فجاءت مضامينه في خارطة طريق تمتد من 2022 إلى 2026. من خلال التركيز على مؤشرين اثنين لتجسيد الجودة التي سجل انخفاض بصددها: تقليص الهدر المدرسي الذي مازال يسجل أرقاما مخيفة، يعيق الاندماج الاجتماعي والنجاح المهني للفرد، وتعزيز التمكن من التعلمات الأساس، حيث لوحظ الضعف على مستوى القراءة والكتابة والحساب لدى التلميذ المغربي بعد سنوات والتعليم في صدارة الأولويات.

من أجل موسم دراسي آمن:

يعتبر الفصل الدراسي الميدان الذي تختبر فيه المشاريع الإصلاحية، بمكوناته وجميع أعضائه الفاعلة فيه. فـ “التجديد رهين بجودة عمل المدرسين وإخلاصهم والتزامهم” (الميثاق الوطني للتربية والتكوين)، فطالما ركزت الأدبيات التربوية على فعالية الأستاذ، وهو اليوم أكثر حضورا وقدرة على المساهمة في تحقيق أهداف الإصلاح، وتمكين المتعلم من تحصيل مشوق ومستدام، كما بيده ولا مبالاته جعل كل هذا المخاض الذي تعرفه الساحة التربوية مجرد صيحة في واد، لا تلقى الترحيب المنتظر من الأستاذ، بل الرفض والتنديد، في ظل وضع موسوم بكثير من التقصير في حقه، وعدم الالتفات لعطائه وتثمين مجهوداته.

“كل الدول في حاجة إلى مدرسة السلام” (ألبير جكار)، فكيف تكون كذلك وهي تئن تحت كثرة دعوات الاحتجاج، والهروب الطوعي والجماعي من فصولها؟ جدرانها وشحت بنداءات الإضراب المتوالية، والشارة الحمراء لا تفارق الأذرع إلا مؤقتا، والمتحاورون لفض النزاعات تفرقت بهم السبل، لا يجتمعون على رأي، حتى يتحللوا منه على التو. كل الأوصاف القاتمة تنطبق على مدارسنا، رغم تدفق الطلاء وبهاء الألوان، التي تخفي من النقائص والعيوب، أكثر مما تضفي من الجمال، والحماس في “تحريك التغيير وتعبئة الفاعلين”.

إن التحفيز الذي وُعدت به الموارد البشرية ما يكاد يرسو على بر، حتى تنطلق اجتهادات ترجع النقاش إلى مبتدئه. حصل هذا مع أطر الأكاديميات الذين وعدوا بطي ملفهم إبان الانتخابات، وها هو اقتراح جديد يلوح في الأفق. قانون أساسي موحد ومنصف طال أمد انتظاره، لا يحول دون الأستاذ والترقي المستمر، الذي بدأت الوزارة مسيرته بالنسبة للابتدائي والإعدادي، عازمة على إقصائهم من خارج السلم. شيوخ التعليم الذين ظل ملفهم محط تداول ونقاش عمر لسنين عديدة، ولم يفض إلى حل ينصف هذه الفئة التي قضت زهرة حياتها بين الجبال والقفار، بعد أن غادر أكثريتهم الميدان، والأسى يعصر النفوس براتب لا يسمن ولا يغني من جوع.

واليوم، وبعد انطلاق مسلسل الحوار الاجتماعي، وانتظار الشغيلة انفراجا طال ترقبه، ها هي الطبول تقرع، والتعبئة على قدم وساق للاحتجاج، الملحق بالتعليم والتنمية أكبر الخسائر والأضرار.

#عام #من #التدبير #التنموي #للتعليم

زر الذهاب إلى الأعلى