حِينَ يكْبُر الصَّغِيرُ في أعْيُن الْكِبَار

للفطِن النبِيه في قصة الراحل عنا إلى دار البقاء في مثل هذا اليوم 05/02/2022، الطفل ريّان أورام بضواحي مدينة شفشاون، أسرارٌ ودفائِن خصِيبة حاول كل من تفاعل مع هذه الفاجعة الأليمة أن يستجليَها من منظوره الخاص. ولعل التساؤل الذي أُلهِجت به الألسنة وشُحذت القرائح وأفاض كثيرا من المداد، هو كيف يمكن لسقوط طفل من قرية نائية في بئر مهجورة، أن يصنع التاريخ ويوحِّد الصفوف الرسمية والشعبية، الوطنية والدولية، العامّية والعالمة؟ هل المتابعة الحاشدة لمأساة ريّان ذي الخمس سنوات قيد حياته، نابعة من سقوطه في البئر في حد ذاتها؟ أو أن للمسألة أبعاداً وأجوبة أخرى خارج هذه الدائرة؟

غير خاف أن للبئر في المِخيال الشعبي والوعي الجمعي دلالاتٍ دينية وتاريخية وحمولات رمزية وأسطورية عميقة. نستحضر في هذا النطاق “بئر العاتر” (أو بئر الكاهنة داهية)، الواقعة بين الحدود الجزائرية والتونسية، وكانت مسرحا لأحداث وقصص تاريخية وحكايات وأساطير موغلة في التفكير الأمازيغي. كما نستدعي “بئر برهوت” المتجذرة في التاريخ اليمَني، وتُعد في تصور الأهالي “سجنا للجن” و”قعر جهنم”، فضلا عن الدلالة الدينية للجُبِّ في قصتيْ يوسف عليه السلام وأهل الرسّ الذين رموا نبيهم في بئر واضعين في فوهته صخرة. ثم إن مروياتٍ ومحكيات كثيرة حِيكت حول البئر وما يتصل بها من حوادث ووقائع، تناقلتها كتب الأحلام والرؤى والمَنامات عند أبي سعد الدينوري القادري ومحمد بن سيرين وغيرهما، دالة تارة على السعد والحظ وتارة أخرى على الشُّؤم والنحس. فهي تُساق بدلالاتها القدحية المتصلة بالظُلمة والوحشة وغَور العمق والفقد والضياع، مثلما تُروى بإيحاءاتها الرمزية المنصرفة إلى الخير والخصب والنماء والحياة، بناءً على أن الماء منبع الحياة وأساس وجود الإنسان والحيوان والشجر والحجر.

ولئن كان إبراهيم في قصيدة “البئر المهجورة” ليوسف الخال، قاوم الصحراء وسعى إلى بثّ الروح وضخّ الدماء الجديدة في التصديق العقلي والتخييل الشعري العربي، ووصْل ماضي الأمة بحاضرها، فإن “ريان أورام” قاوم غيابات الثقب المائي، وصارع الموت من أجل الحياة، محركا مشاعر الملايين ممن تعاطف معه، فراحوا يتأملون الذات في علاقتها بجدلية الحياة والموت. وقد شاءت الحكمة الربَّانية أن يلتقي “الريّان” والبئر وينسُجا خيوط ملحمة مغربية ذات أبعاد عربية ودولية وإنسانية؛ قوامها المحبة والإخلاص والإيخاء والتعاضد والتلاحم. دام لقاؤهما خمس أيام كافية لتأجيج العواطف، والتأمل العميق في كينونة الإنسان وتكريمه الإلهي واستخلافه في الأرض، والتساؤل عن ماهيته وهويته ووظيفته في الحياة، في زمن طغت فيه الماديات وتلاشت الروحيات.

عديدة في الحقيقة هي الفواجع والمآسي الإنسانية التي تقع في غفلة منا كل يوم لسبب من الأسباب، ونتفاعل معها على نحو من الأنحاء. بيد أن تفاعل القاصي والداني مع هذه الحادثة، فيه من الغرابة والعجب ما لا يخفى. ليس من السهولة بمكان أن يتحول الطفل بين عشية وضحاها إلى رمز ساكن نفوس الملايين في مشارق الأرض ومغاربها، مثلما حُفرت صورة البطلة “عائشة” ونُقشت في الوجدان المغربي في قصة “وادي الدماء” لعبد المجيد بن جلون، فغدت رمزا للوطنية والبطولة والتضحية من أجل تحرير البلاد ونيل الاستقلال.

فقد بُذلت لإنقاذ ريان جهودٌ حثيثة على المستوى الشعبي والرسمي، وتبُودلت رسائل التعازي، واستدعِي الخبراء، واستُخدمت الآليات والمعدات، ولهجت ألسنة العلماء والمثقفين تفسيرا وتأويلا، وفاضت جِراب رجال الصحافة والإعلام تحليلا وتعليقا وتصويرا، وتفتَّقت قرائح الأدباء والشعراء والفنانين شعرا وتشكيلا وغناء. ولا نحسب أن هذا الاهتمام الرسمي والشعبي، الوطني والدولي آتٍ من فراغ. بل هو هو نابع من وجود روح طاهرة في بئر معطَّلة ضيِّقة المنفذ، غائِرة العمق (60 مترا)، واقعة في منطقة نائية وعْرة التضاريس، تصارع ضيق التنفّس والعطش والجوع، وتكابد آثار الخوف والكسور والجروح والآلام، وتستغيث: أنقِذوني، “طلّْعُوني،..”.

هذه النقطة المفصلية الحرِجة واللحظة البرْزَخية المديدة بين انحصار الذات في محبسيْ الفضاء المرعِب والجسد المكلُوم، وهي تقاوم وجع الممات وتنتظر ممَّن حولها بصيص أمل في الحياة، هي التي أثرت في النفوس وألهمت هذه المشاعر الفياضة. ذلك أن الكل وضع نفسه موضِع الطفل، وتخيل نفسه في مقامه، فتماهت بذلك شخصية “ريّان” مع شخصية كل مُواكِب لقصته في نُشدَان الحياة ومجابهة الموت.

شاء القدر حقا أن يقع الطفل في الثقب المائي الفاغر فاه كباقي الآبار في البوادي والأرياف في مختلف بقاع العالم، وأبت المشيئة الربانية إلا أن يعجز المهَرة من المستغوِرين وذوي الاختصاص عن إنقاذه حيا. وكان كل من تابع الحدث من قريب أو بعيد، يحذوه الطمُوح الشديد لعودته سالما. وهو يرفع أكُف الضراعة، داعيا البارِئ أن يرأف أمام هوْل الظلام وضيق الثقب وألم الجروح، وداعيا للبرِيء بالنجاة والسلامة والبقاء وطول العمر. وكان من الممكن أن يتسع الثقب لإنقاذه كما أُنقذت حالات كثيرة مشابهة، لكن حكمة الخالق وقدرته التي لا تُردُّ قضت بالالتحاق بجواره، بعد قضائه ما يقارب خمسة أيام في قعر مظلم، عاش فيه تجربة مريرة لم تظهر أسرار دفائنها ولم تُفتح أغلاق خزائنها.

قد ترتبط المسألة ببراءة الطفل، وموقع الطفولة الراسخ في وجدان الكبار والصغار معا. وقد تُعزى إلى خطورة الخطاب الإعلامي؛ صوره وفيديوهاته وحواراته وتعليقاته، وبلاغته ومقدرته الفائقة على تقريب الحدث من الأفهام، واستدراج العواطف للتجاوب معه. ذلك أن هناك تسويقا إعلاميا للفاجعة، وتفسيرا للحدث تفسيرات مغرضة، كان وراءه أشباه إعلاميين مسكونين بهاجس الرِّبح المادي والتجاري الإلكتروني المقيت، أكثر من الرغبة في نقل الحقيقة في ذاتها ولذاتها. وليس أدل على ذلك من محاولاتهم استدرار عواطف الجماهير، والاستمساك بدقائق الأشياء المتصلة بالطفل وأقاربه وأسرته، ونقلها عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة، تحت عناوين مخاتلة وبصور مثيرة.

بيْد أن تجربة ريّان أعمق من ذلك، عائدة في المقام الأول إلى عظمة الروح وجلال الإنسان. ولا أدل على ذلك من كون علمها مقصورا على البارئ المصوّر، “ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”، الكهف، 109. وليس من المبالغة في شيء إن كنا نلمس في النصوص التخييلية والقصص القرآنية والحوادث التاريخية خشية وتخوفا من إزهاق الأرواح إزهاقا مباشرا، فتتم محاولة التخلص منها بطريقة من الطرق غير المباشرة (المسخ، الرمي في الجب، الإحراق)، كما في قصيدة “تيمور ومهيار” لعلي أحمد سعيد أدونيس. ثم إن أهل الرسّ وقوم إبراهيم وإخوة يوسف، ارتأوا القتل غير المباشر على القتل المباشر وهم عليه قادرون. إذ لجأت الفئتان الأولى والثانية إلى الرمي في البئر، والثالثة إلى الإحراق بالنار.

لقد احتار هؤلاء جميعا في أمر الروح ومصيرها، مثلما يحتار كل مجرم اقترف جريمة قتل، فيسعى إلى طرق شتى للتخلص منها، ولو بالاعتراف بما اقترف. وهي الحيرة نفسها التي سكنت “قابيل” لما قتل أخاه “هابيل” النادم عن فعلته، والمحتار في أمر روحه وجثمانه. وعلى هذا النحو يتأكد أن هذا التجاوب الإعلامي والجماهيري القوِي مع حادث ريان أورام، لا يرتبط بأثر الصورة وحب الفضول والاستجابة للدوافع الغريزية الساكنة للإنسان، بقدر ما هي مسألة حب البقاء والتمسك بخيوط الأمل في الحياة، والاستعداد الفطري للتضحية بالغالي والنفيس من أجل ذلك كله. تلك هي النقطة التي أفاضت كأس العواطف والمشاعر، على جميع الأصعدة والمستويات في قصة ريّان الذي استطاع أن يجعل الجماهير تتفاعل معه، باحثة بطريقة من الطرق عن التفاصيل الدقيقة، علَّها تروي العطش الروحي الذي تُكابده. ولو أنه وقع في البئر ومات في الحين كما حصل لكثير من نظرائه، ولم يكن هناك أمل لإخراجه حيا، لما كسب هذا التعاطف الكبير، على الرغم من هول صدمة الفراق وعظمة الموت طبعاً. ولو أنه خرج وهو حيٌّ يرزق، لارتوت النفوس من ذلك العطش، وتخلصت في الحين من كمدات الفاجعة.

إنها في نهاية المطاف قصة روح وذات وحياة وموت ووجود، وما إليها من القضايا الميتافيزيقية التي يعجز فيها العقل عن الفهم والتفسير والتأويل. إذ طفَت جليّاً إلى السطح كرامة الإنسان المكرّم والمعزّز، والمخلوق في أحسن صورة، والمستخلَف في الأرض لوظائف ومهام ومسؤوليات جسيمة مُلقاة على عاتقه. كما لمسنا فطرة الإنسان المجبُول على المحبة والإخاء والتآزر والتعاون والتلاحم والتعاضد والتماسك، على اختلاف شعوبه وقبائله وأجناسه وأعراقه وجغرافياته وانتماءاته. وبذلك جاءت التجربة حُبلى بالأسرار السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية والبيئية والاقتصادية.

ومهما قلنا عن ريان وقصته التي جعلت العالم أجمع عالقا بعواطفه ومشاعره في حفرة يتلمّس معه خُطى النجاة، فإن التعاطف القوي معهما سيظل لغزا محيّرا مستفِزا على مدى التاريخ. وفي هذه الحادثة ومثيلاتها على كلٍّ من الأسرار الدفينة، ما من شأنه أن يزلزل كيان الإنسان، ويُزيح الغشاوة التي تعلو بصيرته، متسائلا عن هويته وماهيته ووظيفته وموقعه فوق هذه البسيطة، ويستشعر ما يتهدده ومَن حوله من أخطار صحية وبيئية وحربية واقتصادية محدقة.

وبوُسع الحادثة وشدة وقعها كذلك، أن تنتشل متأمِّلها من آبار مادية كثيرة تتسع أعماقها يوما بعد يوم، وترتقي به في مدارج الرّقي القِيمي والإنساني المفتقَد في اللِّيالي الظلماء. تلك هي حال الزمن الراهن المحكُوم في أحداثه وصراعاته وعلاقاته في مواقف كثيرة “بزَبَد” المصالح المادية، والمتغافِل “عما يمكُث في الأرض” من أنماط سلوكية وأنساق قيمية وأخلاقية وحضارية تؤمِّن استقراره وسعادته وتألُّقه.

#حين #يكبر #الصغير #في #أعين #الكبار

زر الذهاب إلى الأعلى