تجليات العالم الجديد .. الكراوي يبرز معالم الحروب على الفكر الاستراتيجي

قال ادريس الكراوي، رئيس الجامعة المفتوحة للداخلة، إن “الأحداث التي يعرفها العالم تظهر أن الحرب الحالية تحمل في طياتها حروبا على صعيد الفكر الاستراتيجي”، موضحا أن “هذه الحروب تعتمد على رافعات قوامها استثمار الأمم لنبوغها الوطني وذكائها الاستراتيجي لتقوية قدراتها على اليقظة والاستشراف والوصول إلى المعلومة بهدف معرفة خطط العدو أو المنافس”.

وبعدما تطرّق الكراوي، في محاضرة خلال الدورة 43 لمنتدى أصيلة، إلى ثلاثة توجهات رئيسية في الحرب الحالية، أبرز أن “هذه التوجهات توحي بأننا أمام تغيرات نوعية عميقة على صعيد الفكر الاستراتيجي ستؤدي لا محالة إلى تطوير أقطاب جهوية قوية مبنية على تحالفات جديدة وعلى أشكال متنوعة من التعاون والشراكة والاندماج”.

وورد ضمن المحاضرة ذاتها أنه “بعيدا عن كل طوباوية مفرطة غير مجدية من زاوية واقعية السياسات العمومية بهذا الشأن، وغير منتجة للمعنى على صعيد ما ستؤول إليه معالم العالم الجديد، فإننا نعتقد جازمين أن في هذه الأبعاد كلها تتجلى الشروط الموضوعية الضرورية لجعل الفكر الاستراتيجي في خدمة تحقيق الأمن الإنساني العام”.

هذا نص المحاضرة:

تظهر الأحداث التي يعرفها العالم أن الحرب الحالية تحمل في طياتها حروبا على صعيد الفكر الاستراتيجي. فهذه الحروب تعتمد على رافعات قوامها استثمار الأمم لنبوغها الوطني وذكائها الاستراتيجي لتقوية قدراتها على اليقظة والاستشراف والوصول إلى المعلومة بهدف معرفة خطط العدو أو المنافس من أجل بعثرة أوراقه ودفعه إلى ارتكاب أخطاء لها مخلفات جسيمة تؤدي إلى خسران المعارك التي يخوضها وإلى تخريب قدراته البشرية والاقتصادية والعسكرية.

انطلاقا من هذا المعطى وبناء على هذا المنظور، فإن الحرب الحالية توحي على صعيد الفكر الاستراتيجي بثلاثة توجهات رئيسية:

التوجه الأول يكمن في استمرار دهاء الفكر الاستراتيجي الأمريكي وتجديد بعض مقوماته القائمة على ركيزة أساسية دعامتها الاستثمار الذكي للحرب والصراعات كضامن لإعادة إنتاج هيمنة الولايات المتحدة على العالم، وكذا للإجابة على أزماتها الاقتصادية. وتعتمد الولايات المتحدة الأمريكية لبلوغ هذا الهدف على رافعتين؛ أولاهما مركب صناعي عسكري قوي ومتجدد، وثانيتهما منظومة وطنية للابتكار جد متطورة ورائدة في مجالات حيوية بالنسبة لحاضر ومستقبل النظام العالمي كالغذاء والأدوية والطاقة والتكنولوجيات الرقمية والذكاء الاصطناعي وعلوم الأحياء والفضاء، المقوية كلها لميزات المقارنة والميزات التنافسية والميزات الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية.

وإذا كان هذا الفكر الاستراتيجي مبنيا على نظرية الخراب، فإن السياسات العمومية المنبثقة عنه تتوخى بالأساس إضعاف الصين وروسيا المنافسين الحقيقيين لأمريكا، وكذا خلق مناخ للردع متعدد الأشكال والأبعاد بالنسبة لباقي الدول وجهات العالم.

التوجه الثاني يتجلى في الضعف النسبي للفكر الاستراتيجي الأوروبي الذي أظهر التاريخ أنه يخطئ عموما في تحديد عدوه الحقيقي. فاختيار أوروبا حاليا لروسيا كعدو يمكن اعتباره كخطيئة جيو-سياسية ستكلفها على المدى القريب والمتوسط على أكثر من صعيد إقليميا ودوليا.

فعوض أن تؤمن أوروبا بأن الأفق الجيو-استراتيجي المستقبلي لجزء مهم من مكوناتها يكمن في بناء منطقة أورو-أفريقية وعربية كبيرة “كرئة” مستقبلية حقيقية، اختارت تحالفات أظهرت كل التطورات منذ الحرب العالمية الثانية أنها أدت إلى تبعيتها وإلى تعميق الهوة بين النخب الحاكمة والشعوب الأوروبية، وبالتالي إلى تأجيل بناء أوروبا موحدة على صعيد الدفاع والعلاقات الخارجية، وقوية على الصعيد الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري.

التوجه الثالث يتجسد في تطور وعي مواطني عالمي جديد لدى المجتمعات والدول غير الغربية مفاده تمثلات مبنية على إيمان متنام بأن عالم اليوم هو عالم مهيكل حول قطب عدو للشعوب وللعالم هو الغرب من جهة، ومن جهة أخرى في تطور عالم متعدد الأطراف حضاريا وثقافيا واقتصاديا وعسكريا أصبح تواقا أكثر فأكثر إلى فك مختلف أشكال تبعيته إزاء هذا الغرب.

وإن ما يجب إبرازه بهذا الصدد، هو أن هذا الوعي المتنامي بدأ يفرز فكرا استراتيجيا جديدا على صعيد الأقطار غير الغربية، سماته الاعتماد على الذات وعلى القدرات الداخلية من جهة، ومن جهة أخرى على بناء جيل جديد من التحالفات الجيو-استراتيجية مخرجاتها ومراميها صون المصالح العليا الداخلية لهذه الأقطار عبر إعادة هيكلة الأرضية الوطنية للنمو والتنمية لبلوغ السيادة الاقتصادية والعسكرية والأمن الاجتماعي لشعوبها.

فهذه التوجهات توحي بأننا أمام تغيرات نوعية عميقة على صعيد الفكر الاستراتيجي ستؤدي لا محالة إلى تطوير أقطاب جهوية قوية مبنية على تحالفات جديدة وعلى أشكال متنوعة من التعاون والشراكة والاندماج مرساة على أساس المصالح المشركة في أبعادها القطرية والإقليمية اقتصاديا وعسكريا.

كما أنها ستدفع إلى خلق واقع دولي قد يتيح الإسراع بإصلاح نظام الأمم المتحدة، فضلا عن كون هذه التوجهات ستكون لها انعكاسات على وتيرة إنجاز الأجندات الدولية المهمة، إن تعلق الأمر بالانتقال البيئي أو الطاقي، أو التدبير الجماعي متعدد الأطراف والمشترك للقضايا الدولية الكبرى كتدبير الهجرة والعدالة الرقمية وتحقيق الأمن الغذائي والصحي ومحاربة الفقر والجريمة المنظمة والتطرف والإرهاب.

إلا أن الأهم من هذا وذاك، هو أن المؤمل من هذه التغيرات أن تؤدي إلى دينامية على صعيد العلاقات الدولية، وإلى تحول جذري في موازين القوى بين القوى العالمية القديمة والجديدة لفائدة التسريع بمعالجة بعض النزاعات الإقليمية والدولية، وبخاصة تلك التي عمرت أكثر من خمسة عقود، وعلى رأسها الصراع بين إسرائيل وفلسطين.

ويبقى التحدي الجوهري على هذا المستوى هو هل ستؤدي هذه التحالفات الجديدة إلى إيجاد حلول مبدعة وإرادية وجماعية لأزمة الحكامة الدولية للأزمات والحروب والنزاعات؟ وهل سيفرز الفكر الاستراتيجي الجديد قناعة جماعية بحتمية التعاون والحوار الضروريين لإرساء قواعد حكامة دولية مسؤولة وتضامنية توفر الشروط السياسية لتحقيق الأمن الإنساني العام، وبالتالي للقطع مع كل ما من شأنه أن يضع العالم الجديد أمام المجهول وفي حالة اللا-استقرار الدائم، وبالتالي في وضعية الخراب الذاتي؟

أما السؤال الكبير الذي سيطرح نفسه بصفة بارزة مستقبلا هو: ما هي طبيعة الصراعات الإيديولوجية التي ستفرزها التحولات التي يعرفها العالم الجديد على صعيد الفكر الاستراتيجي؟

فهل هذ الصراعات الإيديولوجية ستتحول طبيعتها من صراعات بين الرأسمالية والشيوعية كما كان عليه الحال بعد الحرب العالمية الثانية، إلى صراعات بين الليبرالية والاشتراكية بعد سقوط جدار برلين سنة 1989، إلى صراع بين الأديان والحضارات بعد الهجوم الإرهابي على أمريكا في 11 شتنبر 2001، إلى صراع بين التدبير الديمقراطي والتدبير الدكتاتوري للمجتمع كما هو الحال عليه اليوم، وهو صراع لا يقل فتكا مقارنة بالصراعات الإيديولوجية الأخرى لأنها تؤدي كلها عادة إلى أوضاع تغذي العنصرية والكراهية والعنف وثقافة الموت؟

لكن كل هذه الصراعات تخفي صراعا أكثر خطرا وجسامة، هو الصراع الدائر حاليا بين الإنسان والطبيعة، الذي يشكل تهديدا حقيقيا للأمن الإنساني العام، لأنه يضع العالم أمام المجهول، من مخلفاته إذكاء صراعات من نوع جديد قد تؤدي إلى خراب ذاتي جماعي جراء بزوغ وتطور جيل جديد من الحروب، من أهمها حروب الماء والطاقة والدواء والغذاء والمعرفة والصورة والفضاء.

لذا، بات من الضروري والمستعجل على المنظومة الدولية بجميع مكوناتها، حكومات ومقاولات وجماعات ترابية ومجتمعات مدنية وعلماء ونخب ثقافية وسياسية ومنظمات إقليمية ودولية، أن تستثمر ذكاءها ونبوغها وسلوكها المواطني لبلورة فكر استراتيجي يوفر شروط تعاون متعدد الأطراف ييسر حكامة دولية ناجعة للأزمات والحروب، هدفها الجماعي تحقيق السلم، الاستقرار والرفاه لفائدة البشرية جمعاء.

فبعيدا عن كل طوباوية مفرطة غير مجدية من زاوية واقعية السياسات العمومية بهذا الشأن، وغير منتجة للمعنى على صعيد ما ستؤول إليه معالم العالم الجديد، فإننا نعتقد جازمين أن في هذه الأبعاد كلها تتجلى الشروط الموضوعية الضرورية لجعل الفكر الاستراتيجي في خدمة تحقيق الأمن الإنساني العام.

#تجليات #العالم #الجديد #الكراوي #يبرز #معالم #الحروب #على #الفكر #الاستراتيجي

زر الذهاب إلى الأعلى