تقديم:
لقد أدى التقدم التكنولوجي الذي يشهده العالم في مختلف مناحي الحياة إلى تسهيل المعاملات، بين الأفراد لاغيا الحدود والفواصل الجغرافية ما بين الدول، لجعل حياتنا أسهل ومعاملاتنا أسرع وأيسر عن طريق مزجها بالعالم الافتراضي من خلال الشبكة العنكبوتية، ولا أحد ينكر ما للتكنولوجيا من أهمية في حياتنا اليومية إذا ما تم استعمالها من جانبها الإيجابي بحيث أصبح كل شيء متوقفا عليها، إلا أن هذه الإيجابيات قد تحمل في ثناياها عدة مخاطر تنبثق من سوء استعمالها وطبيعتها، بحيث ظهرت في الآونة الأخيرة العديد من الظواهر يتم بثها ونشرها في البيئة الرقمية دون أية رقابة، مما يؤدي إلى تنامي الجرائم الإلكترونية والتي أصبحت تأخذ أنماطا جديدة -المخدرات الرقمية نموذجا- بحيث كلما ازداد التطور التكنولوجي ازدادت معه النزعات الإجرامية، الهادفة إلى استغلال هذا الفضاء لتحقيق مكاسب مادية بطرق غير مشروعة، ولهذا ارتأينا كتابة هذا المقال لمعرفة دور التشريع في التصدي للجرائم المرتكبة إلكترونيا ومحاولة الوقوف على بعض الإشكالات المثارة بشأن الجرائم المستحدثة واقتراح بعض الحلول للحد من تفاقمها.
هناك العديد من التعريفات المسندة للمخدرات الرقمية لعل أهمها ما سنحاول التركيز عليه في هذا المقال بشكل مقتضب، ليتسنى للقارئ رفع اللبس أو الغموض الذي يحوم حول هذا المصطلح المستحدث بحيث عرفها البعض بأنها عبارة عن ملفات صوتية يتم تحميلها عبر مواقع وشبكات إلكترونية معروفة، أو من خلال الرسائل البينية عبر شبكات التواصل الاجتماعي تحمل نغمات بترددات مختلفة تتراوح بين 300 إلى 310 هرتز يسبب التأثير الممتع نفسه، الذي يسببه الكوكايين أو موقف شديد الرعب.
ويطلق على المخدرات الرقمية اسم i Doser Digital Drugs وهي عبارة عن مقاطع نغمات يتم سماعها بواسطة سماعات بكلتا الأذنين، بحيث يتم بث ترددات معينة في الأذن اليسرى فيعكس الوظيفة الأساسية للأذنين وهو ما يرهق الفرد في الانتباه في نغمات الموسيقى ويشتته عن أي نشاط آخر، ويسبب حالة من المتعة النفسية والهيام للفرد في مرحلة اللاوعي عما يجول بخاطره من مشاعر وأحاسيس.
وعليه فالمخدرات الرقمية بناء على ما سبق هي عبارة عن مجموعة من الأصوات أو النغمات، التي من شأنها إحداث تأثيرات دماغية، تعمل على تغييب الوعي أو التأثير عليه بشكل مماثل لما تحدثه عملية تعاطي المخدرات بمفهومها التقليدي.
المحور الأول: أسباب تعاطي المخدرات الرقمية والآثار المترتبة عنها
1- أسباب تعاطي المخدرات الرقمية
قد تتعدد وتختلف الأسباب المساهمة في إدمان وتعاطي المخدرات الرقمية من فئة الى أخرى، منها ما قد يتصل اتصالا مباشرا بغياب الرقابة القانونية على المواقع المنتجة والمروجة لهذا النوع المستحدث من المخدرات، إضافة إلى عدم تجريم تداولها وتعاطيها وترويجها بيعا وشراء، فتستغل المواقع الإلكترونية المروجة لها إقناع روادها بعدم احتوائها على مواد كيميائية ضارة، وقدرتها على تحسين الحالة النفسية للشخص، دون حاجة إلى تناول المواد المخدرة التقليدية مستغلين بذلك ضعف الإدراك لدى الكثير من الشباب والأطفال -خاصة المراهقين منهم- (المستهلكين) المقبلين على تعاطيها، إضافة إلى بعض الفئات التي يسهل إقناعها بسبب شعورهم بالخوف والقلق أحيانا، واليأس والاكتئاب أحيانا أخرى، حتى صار بعضهم مهيئا لتعاطي المخدرات التقليدية، التي تدمر العقول والقيم والمبادئ، دون نسيان هاجس البطالة وعدم توافر فرص الشغل لدى الكثير من الشباب والمراهقين مما يزيد من فترات الفراغ التي تؤدي في غالب الأحيان إلى التفكير في الانحراف، مع ضعف الوازع الديني لدى الكثيرين؛ إذ أن المتمسك بتعاليم الشريعة السمحاء ومبادئها سيبتعد بشكل طبيعي عن كل ما يضر العقل ويهدم القيم والمبادئ الأخلاقية.
2- آثار تعاطي المخدرات الرقمية
إن التعاطي والإدمان على المخدرات الرقمية قد يكون سببا رئيسيا في إصابة الشخص بـالقلق والاكتئاب والاضطراب والشرود الذهني؛ حيث أكـد بعض الأطباء على أن سماع الموسيقى الصاخبة يحدث تأثيرا سيئا على كهرباء المخ، مما يترتب على ذلك إصابة المستمع لها باللذة والنشوة والشرود الذهني، وهـذا مـن أخـطـر الأشياء وأشدها ضررا على المتعاطي لها؛ حيث يشعر بالنشوة واللذة على سبيل الوهم ويقل تركيزه بشدة في هذا الوقت؛ مما يحدث له انفصال عن الواقع، والإصابة بنوبات من التشنج، خاصة عند تكرار اختلاف موجات كهرباء الدماغ بهذا العنف مرة بعد مرة، مع ظهور أعراض شبيهة بأعراض تعاطي المخدرات التقليدية، كالتوتر والعصبية الشديدة والاضطرابات النفسية، وانخفاض كفاءة ذاكرة المتعاطي للمخدرات الرقمية؛ مما يؤثر سلبا على استرجاع المعلومات وتذكرها، وبروز بعض الآثار النفسية كالصراخ والتشنجات العضلية والعصبية وارتعاش البدن؛ بسب الاستماع إلى نغمات المخدرات الرقمية، وهذا ما يؤدي إلى فشل المتعاطي لها في حياته العلمية والعملية غالبا.
المحور الثاني: إشكالية تجريم المخدرات الرقمية وسبل الحد من تفاقمها
1- إشكالية تجريم المخدرات الرقمية
إن قانون مكافحة المواد المخدرة والمؤثرات العقلية نص في مواده على أن المخدرات هي مادة، أي أنها شيء ملموس، مما يجعلنا نفكر في كيفية البحث عن الأركان الضرورية لقيام الجريمة من أجل تطبيق القواعد الواردة في ظل القانون الجنائي إلى جانب قانون مكافحة المخدرات، وهو ما استعصى علينا في ظاهرة المخدرات الرقمية، إذ كيف سيتم تعريف هذه الملفات الصوتية بكونها مادة، وهي في الأصل غير ملموسة، على الرغم من أن الملف الموسيقي (الذي يتضمن أصواتا ونغمات صاخبة تؤثر على الدماغ) قد يؤدي إلى التأثير سلبيا في صحة الإنسان، والإشكال الأكبر يتصل اتصالا وطيدا بكيفية إثبات التأثير الذي أدى إليه استماع ذلك الشخص للملف الموسيقي، وتبيان آثاره الصحية، وتزداد الصعوبة حينما يتطلب التأثير في المتعاطي جراء الملف الصوتي وجود السماعات الخاصة بذلك، مما يؤدي إلى عدم إمكانية محاسبة من روج لهذه الملفات، كونها لم تكن مؤثرة لولا وجود السماعات التي تتوفر على مميزات ذات طابع خاص، فيفلت ذلك المروج من العقاب، كما أن المواد المخدرة المجرمة بموجب النصوص القانونية يتم وضعها في جداول من قبل وزارة الصحة، التي تضيف أي مواد ترى أنها مخدرة ليتم اعتبارها ممنوعة، ويمكن بعدها تطبيق القانون على المخالفين وإحالة المتهمين على المحكمة بتهمة تعاطي مثل تلك الملفات الصوتية، وهو الشيء الذي ينطبق على المخدرات الرقمية التي لا نجد لها أي تصنيف ضمن المواد المخدرة المحددة من قبل وزارة الصحة، مع غياب الدراسات العلمية بخصوصها، إلا أن غياب النصوص المؤطرة لا يعني عدم القيام بأية خطوة تقف على الظاهرة من كافة جوانبها من أجل التصدي لها، خاصة إذا ما اتضح تأثيرها على صحة وسلوك المتعاطي وبالتالي التأثير على الأمن العام للدولة.
2- آليات الحد من تفاقم ظاهرة المخدرات الرقمية
– مكافحة الجرائم الإلكترونية بإشراك جميع القطاعات الحكومية وكافة الفاعلين والهيئات الحقوقية، ورسم استراتيجية متكاملة للأمن الإلكتروني من خلال التوعية والتحسيس بمخاطر سوء استعمال التكنولوجيا، والتبليغ عن كافة الجرائم الإلكترونية بسرعة من أجل ضمان سهولة الكشف عنها واتخاذ الإجراءات القانونية بشأنها.
– سد الفراغ التشريعي المتعلق بالبيئة الرقمية بتشعباتها المختلفة وتحيين القوانين العقابية مواكبة للجرائم المستحدثة، لا سيما في مجال مكافحة الجريمة الإلكترونية، مع الحرص على أن تكون هذه التشريعات منبثقة من المجتمع المحلي حرصا على فعاليتها.
– إحداث هيئات وطنية ودولية متخصصة في مكافحة الجرائم الإلكترونية المستحدثة، مع التشجيع على خدمة تلقي الشكايات عبر بوابة إلكترونية خاصة بذلك والعمل بها ونشر ثقافتها.
– إدراج مواد خاصة بالأمن المعلوماتي وطرق الاستعمال الآمن للفضاء الرقمي ضمن المناهج الدراسية، على اعتبار أن العصر الحالي هو عصر التكنولوجيا.
– ضرورة تكثيف الجهود الوطنية لنشر المعرفة وزيادة الوعي بالجرائم الإلكترونية ومدى خطورتها ووسائل الوقاية منها وسبل مواجهتها، مع إبرام اتفاقيات عربية ودولية في مجال مكافحة الجرائم الإلكترونية، لتحديد مصادر هذه المواقع، والعمل على ضبط مروجيها وحجبها.
وفي ظل الفراغ التشريعي الذي يسود مجال المخدرات الرقمية، فإن ذلك يقتضي نشر الوعي في الأوساط الاجتماعية بضرورة مراقبة سلوك الأفراد من مستعملي شبكات الأنترنت وعدم السماح لهم بولوج المواقع الإلكترونية التي تروج وتبيع مثل هذه التطبيقات، فضلا عن التوعية عبر وسائل الإعلام وشرح تأثير هذه الظاهرة على متعاطيها. وإدراكا منا بخطورة هذه الظاهرة أصبح من الضروري خلق تعاون دولي باعتباره من الآليات التي أثبتت فعاليتها وجدواها في مجال مكافحة كافة الجرائم، فكل جهد محلي رغم أهميته لا يستطيع لوحده أن يقاوم العمليات الإجرامية خاصة المستحدثة منها والتي تقودها عصابات دولية منظمة.
#المخدرات #الرقمية.