الحكامة الجيدة للمرفق القضائي في التشريع المغربي

الحكامة الجيدة للمرفق القضائي في التشريع المغربي
نورالدين مصلوحي

الحكامة الجيدة للمرفق القضائي في التشريع المغربي

من إعداد: نورالدين مصلوحي. عدل متمرن وباحث بماستر القانون والممارسة القضائية بالرباط.

الحكامة الجيدة للمرفق القضائي في التشريع المغربي

تقديم :

تعتبر الحكامة الجيدة أو حسن التدبير أو القيادية الجيدة؛ أحد أهم الآليات الفعالة التي يسير على ضوئها الفاعلون أيا كان مجال نشاطهم، من أجل تحقيق أهداف سامية، تتجلى في تكريس ثقافة حقوق الانسان، ودمقرطة المجتمع، خدمة للصالح العام.

وقد جعل دستور المملكة المغربية الحكامة الجيدة من مرتكزات الدولة الحديثة وذلك في الأسطر الأولى من تصديره، وبموجب الفصل الأول من هذا الدستور؛ فإن النظام الدستوري للمملكة يقوم على مجموعة من الأسس من بينها الحكامة الجيدة.

وقد خطر ببالنا أن نقوم بتسليط الضوء على الحكامة الجيدة في تدبير المرفق القضائي وتسييره، باعتبار القضاء سلطة من السلط من جهة، ونظرا لما أنيط به من مهام جسام؛ وهي حماية حقوق وحريات الأفراد والجماعات وأمنهم القضائي وتطبيق القانون تطبيقا عادلا من جهة ثانية، وسنقوم بمعالجة الموضوع منطلقين من دعامات الحكامة الجيدة التي هي: النزاهة والشفافية والمشاركة والمساءلة.

أولا: النزاهة

عرف أهل اللغة النزاهة بأنها صيانة النفس من المدانس، ومنه قيل فلان يتنزه عن الأقذار وينزه نفسه عنها أي يباعدها عنها، وقيل إن النزاهة هي البعد عن الشر والسوء وترك الشبهات[1].
وقد جعل المشرع من المهام التي يسهر عليها المجلس الأعلى للسلطة القضائية؛ إشاعة ثقافة النزاهة والتخليق بما يعزز استقلال القضاء، وذلك في المادة 103 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وبموجب المادة 106 من هذا القانون التنظيمي؛ فإن من أهداف وضع مدونة الأخلاقيات القضائية، تمكين القضاة من ممارسة مهامهم بكل نزاهة وتجرد ومسؤولية. وحسب الفصل 113 من الدستور، فإن المجلس الأعلى للسلطة القضائية يضع بمبادرة منه، تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة، ويصدر التوصيات الملائمة بشأنها، وأشارت المادة 108 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية إلى أن هذه التقارير تتضمن بصفة خاصة مقترحات رامية إلى تحقيق مقاصد منها: دعم نزاهة واستقلال القضاء.

ويقع التزام مهم على عاتق القاضي يؤدي اليمين على الوفاء به، وهو أن يمارس مهامه سالكا مسلك القاضي النزيه، وهذا ما تنص عليه المادة 40 من النظام الأساسي للقضاة، ونفس الالتزام يقع حتى على عاتق أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية للقيام بمهامهم،[2] والنزاهة تعد من المواصفات التي تشترط في الشخصيات الخمس التي يعينها الملك لعضوية المجلس الأعلى للسلطة القضائية وذلك بموجب الفصل 115 من الدستور. ويؤدي موظفو هيئة كتابة الضبط اليمين القانونية التي يلتزمون فيها كذلك بسلوكهم في مهامهم مسلك الموظف النزيه وهذا ما نصت عليه المادة 4 من النظام الأساسي الخاص بهيئة كتابة الضبط.

………

وقد اعتبرت مدونة بانغالور للسلوك القضائي النزاهة أمرا جوهريا لحسن أداء الوظيفة القضائية، ونصت على أنه يتعين على القاضي أن يكون سلوكه فوق الشبهات في نظر المواطن العادي، وأوجبت المدونة كذلك أن يكون سلوك وتصرف القاضي متوافقا مع ثقة الشعب في نزاهة الجهاز القضائي[3].

هذا، وقد تناول خبراء تابعين للأمم المتحدة النزاهة بمزيد من الشرح والتفصيل، حيث يرون بأن النزاهة هي صفة الاستقامة والصلاح، ومكونات النزاهة هي الصدق والاخلاقيات القضائية، يجب على القاضي دائما التصرف بشرف وبأسلوب يناسب المنصب القضائي، وأن يبتعد عن الاحتيال والخديعة والكذب، وأن يكون طيبا وفاضلا سلوكا وطباعا.

ولا توجد درجات محددة من النزاهة، فالنزاهة مطلقة، وفي السلطة القضائية تعد النزاهة  أكبر من كونها فضيلة؛ فهي ضرورة[4].

لكن السؤال الذي يبقى مطروحا هو كيفية اختبار نزاهة القاضي؟

تجيب بعض الآراء بأن السؤال الذي يجب طرحه ليس إذا ما كان تصرف معين أخلاقي أم لا طبقا لبعض الأديان أو المعتقدات الأخلاقية، أو إذا كان التصرف مقبولا أم غير مقبول بالنسبة لمعايير المجتمع، بل يجب أن يكون عما إذا كان التصرف ينعكس على المكونات الأساسية لقدرة القاضي على أداء العمل المخول إليه، وهي: العدل، والاستقلالية، واحترام عامة الناس؛ بالإضافة إلى انعكاس تصرفه على وجهة نظر الناس في مدى أهليته للقيام بعمله[5].

وأما بخصوص نزاهة كتاب الضبط باعتبارهم يشكلون الركيزة الأساسية للإدارة القضائية؛ فلم يقصر ميثاق قيم وسلوك كتابة الضبط في التطرق لقيمة النزاهة وتطبيقاتها، فالنزاهة كقاعدة حسب هذا الميثاق؛ هي أن كاتب الضبط يرفض كل إغراء مادي أو معنوي يؤثر على عمله وعلى سير القضايا ويسيء إلى كرامته وسمعة المرفق القضائي، وقد وضع الميثاق للقاعدة أعلاه تطبيقات عديدة نذكر منها: امتناع كاتب الضبط عن استغلال صفته للاستفادة من امتيازات شخصية له أو للغير، وتجنبه العبارات والايحاءات التي قد يفهم منها الرغبة في الحصول على جزاء مادي مقابل الخدمات التي يقوم بها في إطار مهامه، ويقاوم كل أشكال الاغراء المادي أو المعنوي التي يقدمها بعض المتقاضين في شكل رشاوى مباشرة أو هدايا أو امتيازات شخصية.

ثانيا: الشفافية

تعتبر الشفافية مدخلا أساسيا لتوفير المعلومات للمواطنين عامة وللمتقاضين خاصة، وكذلك لممتهني مهنة القضاء بالذات، باعتبار ما قد يصدر من السلطة التأديبية من قرارات تنعكس سلبا أو إيجابا على وضعيتهم المهنية.

والحق في المعلومة يعد حقا مكرسا دستوريا ولأول مرة في دستور 2011 وذلك بموجب الفصل 27 من هذا الدستور الذي ينص على أن “للمواطنات والمواطنين حق الحصول على المعلومات، الموجودة في حوزة الإدارة العمومية، والمؤسسات المنتخبة، والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام. ولا يجب أن نغفل في هذا الصدد أن القضاء باعتباره مرفقا عموميا، فإنه كغيره من المرافق العمومية يخضع لمعايير منها الشفافية، وهذا ما يشير إليه الفصل 154 من الدستور في فقرته الثانية.


وقد صدر قانون 13-31 المتعلق بالحق في الحصول على المعلومات، واعتبر هذا القانون في المادة الثانية منه المحاكم من المؤسسات والهيئات المعنية بتمكين المواطنين والمواطنات من الحق في الحصول على المعلومات، وحسب المادة 6 من نفس القانون؛ فإنه يمكن استعمال أو إعادة استعمال المعلومات التي حصل عليها المواطن من المحاكم كالأحكام والقرارات والأوامر القضائية، شريطة أن يتم ذلك لأغراض مشروعة وألا يتم تحريف مضمونها، مع ضرورة الإشارة إلى مصدرها وتاريخ إصدارها، وألا يؤدي ذلك إلى الإساءة أو الاضرار بالمصلحة العامة أو المساس بأي حق من حقوق الغير.


وإذا كان الحق في المعلومة القضائية حقا دستوريا مضمونا للمواطنات والمواطنين، فإنه حسب المادة 7 من قانون 13-31 يخضع لمجموعة من القيود لاعتبارات متعددة، فلا يمكن تمكين المواطنات والمواطنين من المعلومات التي يؤدي الكشف عنها إلى إلحاق ضرر بحقوق ومصالح الضحايا والشهود والخبراء والمبلغين، فيما يخص جرائم الرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ وغيرها، المشمولة بالقانون رقم 10-37 القاضي بتغيير وتتميم القانون رقم 01-22 المتعلق بالمسطرة الجنائية، وكذلك المعلومات التي من شأن الكشف عنها الاخلال بسير المساطر القضائية والمساطر التمهيدية المتعلقة بها، ما لم تأذن بذلك السلطات القضائية المختصة.

…………….


ولم يجعل القانون المتعلق بالحق في الحصول على المعلومات الحصول على المعلومات رهينا فقط بضرورة تقديم طلب من المواطنات والمواطنين؛ بل أوجب في المادة 9 من هذا القانون على المؤسسات والهيئات المعنية ومنها المحاكم أن تقوم في حدود الإمكان، بنشر الحد الأقصى من المعلومات التي في حوزتها، والتي لا تندرج ضمن الاستثناءات الواردة في هذا القانون، بواسطة جميع وسائل النشر المتاحة خاصة الالكترونية منها بما فيها البوابات الوطنية للبيانات العمومية.


وجدير بالذكر أن القانون الجديد للتنظيم القضائي الذي صادق عليه مؤخرا مجلس المستشارين، نص في المادة 96 منه على أنه تنشر أهم القرارات والاجتهادات القضائية الصادرة عن محكمة النقض وفق ضوابط يحددها النظام الداخلي لهذه المحكمة، وهو ما يعد تنزيلا حقيقيا لآلية النشر الاستباقي للمعلومات، وألزم هذا القانون في المادة 35 منه مسؤولي المحاكم بتيسير وصول المتقاضين إلى المعلومة القانونية والقضائية طبقا للقوانين الجاري بها العمل، وأساس هذا المقتضى هو التوصية رقم 132 من ميثاق إصلاح منظومة العدالة، والتي تحث على تحسين ظروف استقبال المواطنات والمواطنين بالمحاكم وتعميم المعلومة القانونية والقضائية، وكذا التوصية رقم 136 التي تنص

………….

على تحديد آلية للتواصل بين المحاكم ووسائل الاعلام، بما يساهم في تفعيل مبدأ الحق في المعلومة، فبموجب الفقرة الثانية من المادة 35 من مشروع قانون التنظيم القضائي ، يعتبر كل مسؤول قضائي أو من ينيه عنه، ناطقا رسميا باسم المحكمة كل فيما يخص مجاله، ويمكنه عند الاقتضاء، التواصل مع وسائل الاعلام من أجل تنوير الرأي العام.


وبعد صدور القوانين الجديدة السلطة القضائية، أصبح المجلس الأعلى للسلطة القضائية بصفته الساهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة؛ منخرطا في تكريس الشفافية إذ لم تعد قراراته وأعماله تتخذ في منأى عن اطلاع العموم عليها، حيث ألزم القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في المادة 65 منه بأن يتم تدبير وضعية القضاة المهنية وفق مبادئ متعددة منها الشفافية. ولهذا فإنه حسب المادة 94 من القانون التنظيمي أعلاه؛ فإنه يسمح للقاضي المعروض على التأديب الاطلاع وأخذ صورة عن ملفه التأديبي.

……………


هذا، وإن المادة 56 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ألزمت المجلس بنشر جدول أعماله قبل كل اجتماع، والمادة 60 تؤكد على نشر المجلس الأعلى للسلطة القضائية للنتائج النهائية لأشغال كل دورة وفق الكيفية المحددة في نظامه الداخلي، هذا النظام الداخلي الذي تنص المادة 17 منه على أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية ينشر نتائج أشغاله النهائية المتعلقة بتعيين المسؤولين بمختلف المحاكم وبتعيين القضاة في السلك القضائي فور موافقة الملك عليها، كما ترفع إلى علم الملك باقي النتائج النهائية لأشغال كل دورة من دورات المجلس الذي يقوم بنشرها. ولتسهيل إمكانية الاطلاع على المقررات التي يتخذها المجلس، نصت الفقرة الثالثة من المادة 17 أعلاه على أن جميع مقررات المجلس يتم نشرها بالموقع الالكتروني للمجلس وبأي وسيلة يعتبرها ملائمة لهذا الغرض.

وقد استثنت الفقرة الثانية من المادة 60 أعلاه نشر أسماء القضاة المعنيين بالعقوبات من الدرجتين الأولى والثانية المنصوص عليها في المادة 99 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة[6].

وحسب المادة 74 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية؛ فإنه قبل ترقية هذا المجلس للقضاة، يهيئ لائحة الأهلية للترقية برسم السنة الجارية، وتنشر هذه اللائحة بالمحاكم وبالموقع الالكتروني للمجلس وبكل الوسائل المتاحة قبل متم شهر يناير كل سنة. والنشر الاستباقي ليس مقصورا على ما ذكر بل يشمل حسب المادة 76 من القانون التنظيمي للمجلس حتى نشر لائحة الخصاص بمختلف المحاكم، حيث يتم نشر هذه اللائحة بالمحاكم وكذا بالموقع الالكتروني للمجلس وبكل الوسائل المتاحة ليطلع عليها (أي لائحة الخصاص) عموم القضاة، هذا النشر الذي تقوم به الأمانة العامة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وتتلقى الأمانة العامة طلبات القضاة بشأن لائحة الخصاص أعلاه، وتشعر كل قاض بتوصلها بطلب انتقاله، كما تشعره بمآله.

إن التزام أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالقيام بمهامهم بكل شفافية ليس فضيلة؛ بل واجب تقتضيه ضرورة سير المرفق القضائي، وحماية لحقوق وحريات القضاة الذين انتخبوا عددا لا يستهان به من القضاة لعضوية المجلس، ووضعوا فيهم ثقتهم مع غيرهم من المعينين، ليسهروا جميعا على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة ولتحقيق العدالة، وأدى هؤلاء الأعضاء اليمين على أن يقوموا بمهامهم بأمانة[7]، فلا أمانة لمن لا شفافية في عمله.


ومن شأن تعزيز الشفافية في عمل السلطة القضائية أن تحصن هذه السلطة إزاء التوجهات الفئوية السلبية، كما تعزز من قابليتها للمساءلة، وتاليا من الثقة العامة بأدائها.


1 2الصفحة التالية
زر الذهاب إلى الأعلى