الاستقلال الفردي للقاضي على ضوء المعايير الدولية والقانون المغربي

الاستقلال الفردي للقاضي على ضوء المعايير الدولية والقانون المغربي

الاستقلال الفردي للقاضي على ضوء المعايير الدولية والقانون المغربي

الاستقلال الفردي للقاضي على ضوء المعايير

من إعداد: نورالدين مصلوحي. عدل متمرن وباحث بماستر القانون والممارسة القضائية بالرباط.

تقديم :

إن حماية حريات وحقوق الانسان حال الاعتداء عليها؛ يقتضي وجود سلطة قضائية مستقلة ومحايدة ومنشأة بحكم القانون، وإن استقلال القضاء كما هو متعارف عند المهتمين بالشأن القضائي؛ له مظهرين أساسيين، الاستقلال المؤسساتي ويعني استقلال السلطة القضائية عن باقي السلط الموجودة في الدولة، والاستقلال الفردي والمتعلق بالقاضي؛ أي استقلاله عن كل المؤثرات التي تحول بينه وبين تحكيم ما يمليه عليه ضميره المسؤول بناء على فهمه للقانون والتطبيق العادل له، وما يهمنا في مقالنا هذا هو الاستقلال الفردي للقاضي، والذي سنتناوله بشيء من التفصيل غير الممل على ضوء المعايير الدولية (المطلب الأول) ومبينين مظاهر هذا الاستقلال ومحلها من دستور المملكة وقوانين السلطة القضائية (المطلب الثاني).

المطلب الأول: الاستقلال الفردي للقاضي وفق المعايير الدولية:

تعد المبادئ الأساسية المتعلقة باستقلال السلطة القضائية التي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة المنعقد في ميلانو؛ إطارا مرجعيا هاما لكل الفاعلين في ميدان الدفاع عن استقلال السلطة القضائية، وقد أولت هذه المبادئ اهتماما بالغا للاستقلال الفردي للقاضي، حيث جاء في البند الثاني منها ما يلي: “تفصل السلطة القضائية في المسائل المعروضة عليها دون تحيز، على أساس الوقائع ووفق القانون، ودون أية تقييدات أو تأثيرات غير سليمة أو أية إغراءات أو ضغوط، أو تهديدات، أو تدخلات، مباشرة كانت أو غير مباشرة، من أي جهة أو لأي سبب”.

ومن التجسيدات الأكثر ضمانة لاستقلال القاضي الفردي؛ استقلاله عن زملائه ورئيسه التسلسلي، فقد جاء في البند الثالث من مشروع الإعلان العالمي لاستقلال القضاء –إعلان سينغفي-: ” يتعين أن يكون القضاة مستقلين عن زملائهم ورؤسائهم في عملية إصدار الأحكام، مع مراعاة أن أي تنظيم هرمي للسلطة القضائية، او اختلاف درجة المحاكم، او الرتبة الوظيفية، لا يجيز بأي حال من الأحوال التدخل في حق القاضي في إصدار حكمه بحرية.

وقد كان لمبادئ بانجالور للسلوك القضائي الدور المهم في إعطاء الاستقلال الفردي نصيبه من الاهتمام، حيث أكدت بدورها على ما تمت الإشارة إليه أعلاه، مضيفة في تطبيقاتها لمبدأ الاستقلال – (التطبيق 2-1) أنه يتعين على القاضي أن يكون مستقلا في علاقته بالمجتمع عامة، وبأطراف النزاع الذي يفصل فيه على وجه الخصوص، وفي التطبيق 1-1 لمبدأ الاستقلال؛ جاء فيه أن ممارسة القاضي لوظيفته يجب أن تكون باستقلال وعلى أساس تقديره للوقائع، ووفقا لما يمليه عليه ضميره وفهمه للقانون بدون مؤثرات خارجية.

ولم تغفل مبادئ بانجالور دور القاضي في دعم ضمانات الحفاظ على استقلاله، حيث جاء في التطبيق 5-1 للمبدأ الأول الذي هو الاستقلال أنه يجب على القاضي تشجيع ودعم الضمانات اللازمة للاضطلاع بالواجبات القضائية بغية صون وتعزيز الاستقلال المؤسسي والوظيفي للقضاء.

وقد أكد الميثاق العالمي للقضاة على أهمية الاستقلال الفردي للقاضي، إذ جاء في المادة الأولى منه أن ” استقلال القاضي مبدأ لا غنى عنه لحياد القضاء واحترام القانون، ويتعين على جميع المؤسسات والسلطات سواء كانت وطنية أو دولية احترام وحماية والدفاع عن هذا الاستقلال. كما أوجبت المادة الثانية من الميثاق أن يكون القاضي بصفته صاحب المنصب القضائي؛ قادرا على ممارسة سلطاته القضائية بحرية وبمنأى عن الضغوط الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية وبشكل مستقل عن باقي القضاة وإدارة الجهاز القضائي.

والملفت للانتباه عند قراءة مواد الميثاق العالمي للقضاة؛ أن هذا الميثاق خصص المادة الرابعة منه للاستقلال الفردي للقاضي وعنونها بمسمى “الاستقلال الشخصي” وهذا مكسب كبير لدولة الحق والقانون التي يعتبر القاضي فاعلا أساسيا فيها؛ فهو حامي الحقوق والحريات والساهر على تطبيق القانون. وقد جاء في المادة الرابعة المشار إليها أعلاه: “لا يجوز لأحد أن يملي على القاضي آراءا أو يحاول أن يعطيه أوامرا أو تعليمات من أي نوع، قد يكون لها تأثير على الأحكام القضائية الصادرة عنه، عدا الآراء التي تقدم له من قبل محاكم الاستئناف العليا والتي تنطبق بوجه خاص على القضية.

المطلب الثاني: الاستقلال الفردي للقاضي في التشريع المغربي

بداية لا بد من الاعتراف بأن دستور المملكة لسنة 2011 يعد أساسا مرجعيا لتكريس استقلالية السلطة القضائية مؤسساتيا واستقلال القاضي الفردي، ومن أجل ذلك فإن الدستور في الفصل 109 منه؛ نص صراحة على منع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاة، وأن القاضي وهو يمارس وظيفته القضائية لا يتلقى بشأنها أي أوامر أو تعليمات، ولا يخضع لأي ضغط. وحماية لاستقلال القاضي الشخصي ألزم الدستور القاضي المهدد استقلاله بإحالة الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ووفقا لنفس الفصل أعلاه فإن كل إخلال للقاضي بواجب الاستقلال يعد خطأ مهنيا جسيما، بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة.

وحسب الفقرة الأخيرة من الفصل 109 من الدستور فإن كل محاولة للتأثير غير المشروع على القاضي تعرض صاحبها للعقوبة.


وباعتبار الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية بموجب الفصل 107 من الدستور؛ ففقد كانت له جهود جبارة في الحث على ضرورة استقلال القضاء مؤسساتيا وفرديا من خلاله خطبه ورسائله السامية، وكان آخر رسالة حث فيها على ضرورة تفعيل الاستقلال الفردي للقاضي؛ رسالته إلى المشاركين في المؤتمر الدولي الأول للعدالة بمراكش التي جاء فيها ” فهو حق أي (مبدأ الاستقلال) للمتقاضين في أن يحكم القاضي بكل استقلال وتجرد وحياد، وأن يجعل من القانون وحده مرجعا لقراراته، ومما يمليه عليه ضميره سندا لاقتناعاته، وهو واجب على القاضي أي (مبدأ الاستقلال)، الذي عليه أن يتقيد بالاستقلال والنزاهة، والبعد عن أي تأثر أو إغواء يعرضه للمساءلة التأديبية أو الجنائية.


وأما بخصوص قوانين السلطة القضائية الجديدة؛ فإن مما يستبشر له أن القانون التنظيمي رقم 13-100 عنون الباب الثاني منه باسم ” حماية استقلال القاضي” حيث أسندت هذه الحماية للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والذي بموجب المادة 103 من القانون التنظيمي المنظم له “يسهر على ضمان احترام القيم القضائية والتشبث بها وإشاعة ثقافة النزاهة والتخليق بما يعزز استقلال القضاء، ويتخذ لأجل ذلك كل الإجراءات التي يراها مناسبة.

وتفعيلا للفصل 109 من الدستور، فإن المجلس الأعلى للسلطة القضائية بمقتضى المادة 105 من القانون التنظيمي المنظم لهذا المجلس؛ بعد تلقيه للإحالات المقدمة إليه من القضاة المهدد استقلالهم، يقوم عند الاقتضاء بالأبحاث والتحريات اللازمة، بما في ذلك الاستماع إلى القاضي المعني، وإلى كل من يرى فائدة في الاستماع إليه. وبعد هذا كله يتخذ المجلس الاجراء المناسب أو يحيل الأمر عند الاقتضاء على النيابة العامة إذا ظهر له أن الفعل يكتسي طابعا جرميا.

ونصت المادة 116 المشار إليها أعلاه على ضرورة وضع المجلس الأعلى للسلطة القضائية لمدونة الأخلاقيات القضائية، وحسب نفس المادة فإن من أهداف وضع هذه المدونة هو الحفاظ على استقلالية القضاة وتمكينهم من ممارسة مهامهم بكل نزاهة وتجرد ومسؤولية.

وختاما، لا يفوتنا أن نشير إلى أنه ضمانا لتفعيل قيام القاضي بواجباته القضائية ومنها الحفاظ على استقلاله الفردي، فإن هذا الأخير يتمتع بحماية الدولة له من كل تهديدات أو تهجمات أو إهانات أو سب أو قذف وجميع الاعتداءات أيا كانت طبيعتها أثناء مباشرته لمهامه أو بسبب القيام بها، وهذه الحماية مكفولة للقاضي بموجب مقتضيات القانون الجنائي والقوانين الخاصة الجاري بها العمل، وهذا ما نصت عليه المادة 39 من النظام الأساسي للقضاة.

زر الذهاب إلى الأعلى