“الإيديولوجيا العربية المعاصرة”.. قصة كتاب (2)

في مقالة سابقة عن قصة كتاب “الإيديولوجية العربية المعاصرة” للمفكر المغربي عبد الله العروي، أشرتُ إلى الإشكالات والقضايا التي اعتبرها “ماكسيم رودنسون”، في تقديمه للكتاب أثناء صدوره، أنها أهم قضايا العالم العربي، وقد أُخْضِعت من طرف العروي إلى “أعقل تحليل ممكن”، حسب تعبيره، وتساءلتُ في خاتمتها: “كيف تمكن شاب، في بداية حياته الفكرية، أن يتوصل إلى تلك الإشكالات والأطروحات؟ وما الذي ألهمه لكي يختارها هي بالضبط دون غيرها، ويقدم بصددها تحليلات واجتهادات ويصل إلى خلاصات منفردا بطرحها، من منظوره الخاص ومن زاوية مختلفة عما كان سائدا حينها؟”.

سأحاول، في هذه المقالة الثانية حول الكتاب، أن أقدم بعض العناصر التي قد تساعدنا على فهم سياق تبلور إشكالية العروي، التي سبق أن عبّر عنها، بشكل مجرد، من خلال مفاهيم “الأصالة”، “الاستمرارية”، “الكونية” و”التعبير”، وهي تشكل في الأصل العناوين الأساسية لفصول كتاب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”، وقد اتضحت لنا هذه الإشكالية جيدا وبوضوح في مؤلفاته اللاحقة، وخاصة في كتاباته حول النقد الإيديولوجي، ويمكننا بهذه المناسبة إعادة صياغتها من خلال الأسئلة التالية:

– هل الإيديولوجيا السائدة في المجتمع العربي تلائم المجتمع الحديث؟

– وهل الازدواجية اللغوية تُحدِّث الذهن أم تكرس هذه الإيديولوجيا السائدة؟

– وهل الخصوصية لا يمكن أن تتحقق إلا عبر الأصالة؟ وكيف نميز بينهما؟

– وهل يمكن أن نفصل التغيير الاقتصادي والسياسي عن الإصلاح الثقافي؟

– وهل “التكنوقراطية” كنظام سياسي-فكري- سلوكي تحد من تأثير الفكر السلفي أم تدخل في إطاره دون وعي منها؟

– وهل عدم التمييز بين الليبرالية كمنهج والليبرالية كسياسة يساهم في تشجيع الفكر التقليدي؟…

هذه الأسئلة وغيرها هي التي أطرت تفكير العروي ورؤيته، ولستُ، في سياق هذا المقام، بصدد تقديم تحليلاته حول هذه النقط الأساسية والمفصّلة في كتبه، بل ما يهمني هنا، بالدرجة الأولى، هو توضيح السياق الذي تبلورت داخله، ما يمكن أن نسميه “إشكاليته الخاصة”، أي طريقة رؤيته وتصوره للأمور، ولذلك سأتوقف في هذه المقالة عند المحطة الأساسية التي صنعت ذهن مفكرنا ووجدانه، وأبدأ من حيث يجب البدء لكي أطرح السؤال التالي: ما الذي تركه التكوين الجامعي والشخصي في ذهن شاب مغربي عايش حدث الاستعمار ومآسيه، وسافر لأول مرة إلى البلد المستعمِر ليَدْرس العلوم السياسية في خمسينيات القرن العشرين، بالمعهد الوحيد آنذاك الذي كان يُدَرّس فيه الاقتصاد الحديث داخل فرنسا؟

محاولة منا للإجابة عن هذا السؤال سأقتصر هنا فقط على فكرة أساسية أولية تسلّلت إلى ذهن “العروي الشاب” خلال مساره التكويني، وكان لها أثر بالغ، إذ بقيت مُوجِّهة وحاضرة في مؤلفاته وفكره بشكل عام. هذه الفكرة المشار إليها بدأت مع درس التاريخ الذي تعلّم منه أن “التاريخ الاجتماعي ليس هو التاريخ بوصفه وقائع تاريخية، بل التاريخ بوصفه نموا وتطورا للبنيات الاجتماعية”. نلاحظ هنا تأثير مدرسة الحوليات حيث كان “شارل مورازي”، العضو البارز في هذه المدرسة وصاحب كتاب “البرجوازيون المنتصرون”، يُدرِّس نشأة الرأسمالية الأوروبية في المعهد المذكور، وسوف نجد هذه النظرة إلى التاريخ حاضرة في كتاب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” خاصة عندما وصف العروي الغرب باعتباره نتيجة لنمو تاريخي لبنية اجتماعية، إنه، في نهاية التحليل، مرادف لعملية التكوين الرأسمالي ولهيمنة العقلية البرجوازية. يقول العروي في هذا الصدد: “نحن أمام شكل من التنظيم الاجتماعي ينشأ وينتقل بين مدن إيطاليا وألمانيا زمنا طويلا، قبل أن يتجدر في هولندا، ثم يعبر منها إلى إنجلترا وأمريكا، ثم يعود لغزو فرنسا وألمانيا بعد توحيدها، ويتغلغل في تخوم أوروبا الوسطى والشرقية”. أورد العروي تسلسل هذه المعطيات التاريخية ليبرز لنا حجم اللعنة التي كانت تلاحق العرب وهم يواجهون هذه البنية الاجتماعية التي صنعت الغرب الحديث وفصلته عما سبق، ذلك أن تعريف الذات العربية، بشكل سليم ومن منظور إصلاحي، يتطلب وصفا دقيقا لتاريخ تعرف العرب على الغرب وكيفية تعريفهم له من أجل فهم بنيته وإدراك ماهيته. هذه اللعنة، لعنة التأخر التاريخي، أدرك العروي أنها لم تكن خاصية عربية، بل عاشتها شعوب أخرى قبلهم كالجرمانيين والسلافيين، الذين سبق لهم أن اتُّهموا في أصولهم وعقائدهم، وأجناسهم وأمزجتهم قبل أن يدخلوا إلى دائرة التاريخ، وها هم اليوم ينظرون إلينا بنفس الازدراء. وقد أراد من خلال هذه المقارنات دعوة الإيديولوجيين العرب إلى أن يرتقوا إلى مستوى تحليل أحوال الغرب كما يحلل هو أحوالنا. هذا الغرب الذي يعادينا ونعاديه، يعاكسنا ونعاكسه، َيدْرسُنا ويجب أن نَدرُسه بنفس المنهج والرؤية المتاحين للبشرية جمعاء، ومن هنا نفهم المصدر الأساسي للفكرة المشار إليها والتي تسلّلت إلى ذهنه، أي فكرة “العقل الكوني” ووحدة التاريخ البشري والحاضرة بقوة في خلفية كتاب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”.

هذه الفكرة نجد لها أيضا أصولا أخرى مرتبطة بمساره التكويني وبتفاعلاته الذهنية والوجدانية مع الأحداث التي عاصرها، إن على المستوى السياسي أو الفكري، ويمكن الاكتفاء، في هذا السياق، بثلاث لحظات أساسية رسخت لديه الاقتناع التام بمبدأ وحدة مسار التاريخ والاتجاه نحو “الكوني”.

– اللحظة الأولى هي لحظة دَرْس العلوم السياسية، الذي جعله يكتشف بنية الدولة الحديثة ونشأتها وإيديولوجيتها وكيفية عملها، حينها استأنس بأفكار الكتاب الكبار: “كينز”، “شومبيتر”، “ماكس فيبر” “سومبارت”، “ريمون آرون”… هذا الأخير، وبسبب تكوينه الفلسفي، تعلَّم منه أن التفكير في قضايا المجتمع الحديث لا يمكن أن يبدأ إلا انطلاقا من الأطروحات التي يقترحها الدرس الماركسي، باعتباره منهجا يساعد على إدراك موضوعية الفكر، فهو يدرس الفرد في واقعيته كمنتج وكمستهلك، أينما كان وحيثما كان، بغض النظر عن أية خصوصية مفترضة خارج التاريخ، فهذه الفلسفة تساعدنا على تحديد الغرب كخصم وعدو استغلالي، وتكشف لنا في الوقت نفسه عن سر تفوقه، أي عن منهجه في السيطرة على الطبيعة والتاريخ. هذا المنهج الحديث الذي تطور وتراكم عبر مساهمات العصور المختلفة للحضارات الإنسانية، وأصبح بالتالي متاحا وملكا للجميع، إذ “الكوني ليس واقعا يفرضه البعض على البعض الآخر، بقدر ما هو هدف قد يتحقق أو لا يتحقق”، ولهذا فما يعتقده الإنسان خاص به هو، عند البحث، موروث عن غيره. هنا نجد أنفسنا من جديد أمام المبدأ نفسه: وحدة التاريخ البشري.

– اللحظة الثانية هي عندما واصل دراسته العليا ونال دبلوم السلك الثالث في التاريخ والحصول على شهادة التبريز في الإسلاميات، حينها اشتغل على ابن خلدون في ترجمته لكتاب “شفاء السائل وتهذيب المسائل” ومقارنته بـ “المقدمة” الخلدونية، ليستخلص أن “المرء لا يرتقي إلى نظرة علمية وموضوعية إلى المجتمع والتاريخ والسياسة إلا إذا لمس أن المؤهلات الذاتية لا تكفي إن هي عارضت نواميس الكون والطبيعة”. فمع ابن خلدون اكتشف أن “المغلوب مولع بتقليد الغالب”، ومن هنا لم يتحفظ العروي على ذلك الانفتاح على الغالب، بل اعتبره أمرا بديهيا، إذ لا داعي للتخوف من أي ذوبان في هوية مغايرة إن تشبثنا بمنظور “تاريخاني” للتاريخ، فالتاريخانية هي وحدها الإيديولوجيا التي يمكن التمسك بها على نحو مشترك وكوني، إذ “لن تجد لسنن الله تبديلا” كما كان يستشهد ابن خلدون ويردد باستمرار في مقدمته.

– أما اللحظة الثالثة فهي لحظة العمل كملحق ثقافي بالسفارة المغربية بمصر، حينها عاين عن كثب الوضع الثقافي في بلد كان متقدما نسبيا عن بقية العالم العربي، فاتضحت له ضرورة الإصلاح الثقافي، إذ لا يكفي أن تكون السلطة بيد جماعة تريد الإصلاح إذا كانت ذات ثقافة غير مستوعبة للأفكار المؤسسة للمجتمع العصري، ومن هنا جاءت الدعوة إلى الانفتاح على العالم العصري، المتمثل في الغرب الحديث، من أجل استلهام رؤيته ومناهجه في دراسة الإنسان والطبيعة والمجتمع، دون أي شعور بالنقص، أو أية نظرة انغلاقية باسم أصالة مزيفة، قد تخلق لنا عراقيل كبرى أمام عودتنا إلى دائرة التاريخ ، لأن استئناف المسيرة التاريخية يجب أن يتم وفق المتاح للإنسانية جمعاء، حسب تعبير ابن رشد، والمتاح لنا في عصر الحداثة هو هذه النظرة الموضوعية التي لا تكون خاصة بهذه الثقافة أو تلك، بل تخضع لقوانين التغير التي تعمل ضمن إطار وحدة التاريخ البشري، وضمنه الفضاء العربي الإسلامي، كما حصل للشعوب أخرى وهي تقتحم هذا العصر الحديث، دون أي تحفظ أو خوف من أن تفقد أسس تميزها الخاص، فمازلنا نميز الشخصية الإيطالية عن الإسبانية عن الألمانية عن الفرنسية وعن الإنجليزية أو السلافية رغم أنها تنتمي كلها إلى “عالم الحداثة” نفسه، وبالتالي فالأصالة الفعلية أي الخصوصية الحقيقية هي موضوع لاحق لا سابق على الحداثة، فهي مشروع مستقبلي، وليست مشروعا للعودة إلى الماضي. يقول العروي بوضوح في هذا الصدد: “لا يستطيع عرب اليوم أن يقولوا إن لهم حضارة وثقافة، بالمعنى الدقيق، إلا إذا كانت إنجازات اليوم في مستوى إنجازات الأمس، وفي الوقت ذاته متميزة عن إنجازات الشعوب الأخرى، الأوروبية خاصة التي تدعي كونية زائفة. إذا ربطنا الأصالة بإنجازات الماضي فقط، تاه كلامنا عن القصد، لأنه يشير إلى تاريخ بائد، وإذا ربطناها بالإنجازات الحالية كان كلامنا فارغا، لأن ثقافتنا الحالية مقتبسة في جل مظاهرها. يبقى حل معقول وهو أن نربط الأصالة بطموح العرب وما يرغبون في تحقيقه مستقبلا”. ولن يتم ذلك إلا من داخل العصر الذين يعيشون فيه، ومن خلال منظور وحدة وكونية التاريخ الإنساني.

#الإيديولوجيا #العربية #المعاصرة. #قصة #كتاب

زر الذهاب إلى الأعلى